لا شك أن الرواية في قارة أفريقيا -الآن- تمثل حالة من حالات الحضور اللافت؛ بسبب تراكم منجزها وتعاظمه، وظهور عدد من كتّاب وكاتبات الرواية الأفارقة؛ الذين تركوا بصمة قوية في المشهد الروائي الإفريقي والعالمي، ولا شك أن هذا الحضور اللافت له أسبابه؛ التي حفل بها المشهد الأدبي الإفريقي المعاصر، منذ أن تطور المجال السردي في القارة السمراء شكلاً ومضموناً، إلى أن أصبحت القارة تمنح كتابها –بحرية كبيرة – إلى فرانكفونية العالم الجديد، يجولون في المشهد السردي بمنجزهم المعبر عن الإنسان المعاصر فيها.
وأول هذه الأسباب هو التحرر الذي بدأ يفرض نفسه على الإنسان الكاتب في أنحاء القارة، بفعل الحركات التحررية التي حصلت على استقلاليتها الذاتية من المستعمر البغيض، ثانياً: بسبب الثورة الثقافية والأدبية المجتاحة القارة في شتى مجالاتها، ثم الاستراتيجية الأدبية؛ التي تم إعلانها على مدار سنوات طويلة خاصة في مجالات السرد؛ إذ بدأت تستجيب بالفعل للكتاب الشباب، إضافة إلى إسهام علم الإنسان، وعلم الاجتماع في بلورة شكل الرواية في أفريقيا عن طريق موضوعات وقضايا اجتماعية وسياسية وثقافية بلورت شكل الرواية، ومنحتها الموضوعات الجديرة بالكتابة والتبئير، وطرح الأسئلة الخاصة بها. وكـان لمحاولـة خلـق حضـارة واقعيـة داخـل القارة؛ قد جعل واقعية هذا الأمر، تستجيب لمتطلبات الحضارة الآنية، وتمزيق القناع الذي كان يتعامل به الكاتب الأبيض في أفريقيا والسلوك المصطنع حيال الأدب الإفريقي من الناحية النقدية، ما جعل الكُتاب الأفارقة يحتلون باهتمامهم السردي هذا الجانب، ويطلقون العنان في التعبير عن قضاياهم وإنسانهم.
بهذه الكلمات يقدم الناقد "شوقي بدر يوسف" كتابه "الرواية الأفريقية.. إطلالة مشهدية"، فهو يغوص في عالم الرواية الأفريقية التي تبوأت مكانة سامقة في المشهد الأدبي العالمي فيأخذنا في جولة كبيرة وشاملة، فيحدثنا عن حركة الإحياء للأدب الأفريقي، والرواية الأفريقية والتراث الشفاهي، والرواية الأفريقية وسوسيولوجيا الحياة، وهوية السرد الأفريقي، والرواية الأفريقية التي تكتبها المرأة، والسيرة الذاتية والتاريخ في السرد الأفريقي، وغيرها من الموضوعات في مساحة هذا الكتاب الذي يقع في 164 صفحة من القطع الكبير.
الرواية في أفريقيا.. التأسيس والتجنيس
إن محاولة وصف الأدب الإفريقي بصفته مصطلحاً يثير مشكلة فنية، ويقود إلى جدل كبير حول طبيعة هذا المصطلح، فما هو الأدب الإفريقي؟ وكيف نحدده؟ أهو أدب منطقة جغرافية بعينها؟ أم أن هناك – بالفعل – واقعاً أفريقياً يحمل أبعاداً جغرافية وسمات قارية، تدفعنا إلى البحث عن التعريف الواضح الشافع لهذا المصطلح الملتبس في معناه ومبناه؟
لقد وضعت هذه المشكلة موضع البحث في مؤتمرات إفريقية كثيرة، كثر الجدل حولها من دون أن تنتهي إلى حل مرض لها، ويخلص المرء من هذه المناقشات بأن صفوة المثقفين الأفارقة الجـدد؛ إنما يعنيهم الأدب الإفريقي القـاري كـونـه فـرضـاً مـن فروض البحث، لا باعتباره واقعاً له أبعاده الحقيقية، ومن الجلي –أيضاً– تجاهل مثل هذه المناقشات الأسس التاريخية المرتبطة بالتأسيس لهذا الأدب، ولعلها –وحدها - القادرة على تفسير ظاهرة "الإفريقية"، ويكفي –هنا– أن نقول: إن الأدب الإفريقي هو الأدب الذي يصور واقعاً أفريقياً في أبعاده كلها، ولا تشمل هذه الأبعاد أوجه الصراع مع قوى خارج القارة فحسب، بل تشمل أيضاً –وعلى وجه الخصوص– أوجه الصراع داخلها، وأقصد بأن كلمة الصراع –هنا– وهي تتمحور حول المعنى الثقافي المتمثل في الملاحقة والمتابعة وراء سلطة المصطلح ومحاوره المختلفة.
والأدب الإفريقـي كمـا حـدده الدكتور جـوريس سيلينكس أستاذ الأدب الإفريقي بجامعة كارنيجي ميلون بالولايات المتحدة الأمريكية هو: "الإنتاج الأدبي للشعوب الواقعة جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى، والذي بدأ زمانياً مع عهد الاستعمار الأوروبي للقارة"، وهـو يتسم بالمحليـة الشـديدة، فهـو أدب يتشرب من الميثولوجيا، والبيئة، والعادات، والدين والخرافات، والأساطير، هذه العوالم جميعها تصب دائماً في أجناس الأدب الأفريقي كلها بصورة أو بأخرى.
لذلك نرى أن ما كتب عن الرواية الإفريقية في منجزها الحديث قليل من كثير، وما سيكتب عنها سيكون أكثر من ذلك بكثير، ذلك أن الرواية الإفريقية تدخل -حالياً- منحنى التحولات في تراكم منجزها، وتميز الكثير من هذا الإنجاز، الذي تحول في الأدب العالمي إلى ظاهرة لافتة، تستحق التقدير والحضور والإعجاب، بعد كثيرٍ من التهميش والتعتيم.
ولا شك أن الرواية في أفريقيا قد شهدت تطوراً كبيراً طال البناء الفني لنصوصها، كما طال سيسيولوجيا مجتمعاتها المختلفة بسيل متراكم، ولافت من النصوص، عبرت وجسدت ملامح هذه المجتمعات، وما يحدث فيها من ممارسات وأحوال تمس الفرد والمجتمع على السواء، ومن ثم فإن الفن الروائي في أفريقيا بمضامينه وأشكاله المختلفة هو لون أدبي يمثل الإنسان الأفريقي بقضاياه وإشكاليات حياته المختلفة بشكل محدد، سواء من حيث كيانه الاجتماعي أو من حيث كيانه التاريخي.
الرواية الإفريقية واللغة
وفي هذا الجزء يفرد المؤلف الحديث عن اللغات التي يمكن حصر الأدب الإفريقي المدون بها، وهي لغات إفريقية ومحلية، وهي عشر مجموعات أساسية تضم كل مجموعة عدداً كبيراً من اللغات أو اللهجات، وتعد المجموعة الكونغولية الكردفانية (نسبة إلى كردفان بالسودان) في مقدمة هذه المجموعة، وتنتشر ما بين نهر السنغال وكينيا.
والمجموعة الماندية في مالي وخليج غينيا، ومجموعة البمبرا (البمبارا) في النيجر، والسواحيلية في كينيا وتنزانيا وأوغندا وأجزاء من الكونغو، والحوصة في غرب أفريقيا، والجعزية والأمهرية والتيجرية والتجرائية: في أثيوبيا، والأمازيغية (البربرية) في المغرب العربي، إضافة إلى العربية؛ التي تعد أوسع اللغات انتشاراً في أفريقيا.
وقد زادت الدعوة إلى إحياء تلك اللغات واستعمالها بعد الاستقلال فعادت إلى الحياة بعض اللغات القديمة، وظهرت لغات جديدة كالأفريكانية؛ التي انتشرت في جنوبي إفريقيا بين السكان المحليين وهي خليط مـن بعـض لغات البانتو والزولو والأنجليزية والهولندية، بيد أن معظم هذه اللغات يكتب بحروف لاتينية.
واللغة السواحيلية من أهم اللغات التي صدرت بها بعض الأعمال الروائية، ويعتبر جيمس فيوتيلا أول كاتب كتب الرواية باللغة السواحلية، حيث صدر له الحرية للعبيد، ومن كتاب القصـة باللغة السواحلية –أيضاً– محمد صالح عبد الله الزنجباري.
والفرنسية هي الأسبق في الظهور؛ فقد ظهرت أول رواية بالفرنسية عام 1920، وهي "إرادات مالك الثلاث" للسنغالي "ماباتيه دياني"، ثم كتب كامارا لايي، وعثمان سمبيني وآمادو كوروما.
أما في اللغة الإنجليزية فقد برز آموس توتولا، وسيريان إكوينسي، وشينو أتشيبي في نيجيريا، ولا ننسى صاحب رواية "المفسرون" الحاصل لجائزة نوبل "وول سونيكا".
والباحث يتحدث عن كل روائي من هؤلاء على حدة، فيقدم حياته وأعماله قبل أن ينتقل إلى اللغة البرتغالية التي كتب بها حميدو خان روايته الشهيرة "المغامرة الغامضة"، التي تبحث في قضية الهوية ومفهومها والتحديات التي تواجهها، كما نجد الكاتب الجنوب أفريقي بيتر أبرهامز صاحب رواية "فتى المنجم"، التي كتبها عام 1946 في محاولة لاستكشاف أفق القمع العنصري بلغة الواقع.
الرواية الإفريقية التي تكتبها المرأة
لا شك أن الرواية التي تكتبها المرأة في القارة الإفريقية –سواء داخل القارة أو خارجها- رواية متعددة الوجوه والأساليب والتوجهات، فهي تذهب في توجهها ناحية الموضوعات؛ التي عادة ما تكتبها المرأة الإفريقية على وجه الخصوص، لاسيما ما هو مرتبط بالاسترقاق والبحث عن الحرية، ومن ناحية أخرى، البحث عن العلاقة التي تربطها مع الآخر الذكوري من كافة الوجوه، خاصة في نظرته الذاتية تجاه الجنس، والجسد، وقضايا العلاقات المطردة بينهما، لذا كانت الروايات الأنثوية في أفريقيا تحمل داخلها جينات التمرد والبحث عن الحرية الذاتية والعامة.
وفي رواية "رسالة طويلة جداً" للكاتبة السنغالية (مريم با)، جاءت هذه الرواية على شكل خطاب طويل كتبته الكاتبة، وكأنها تبوح عن الأشياء الصغيرة من ذاتها المعذبة، وقد ترجمت هذه الرواية إلى لغات عدة ومنها العربية، "رسالة طويلة جداً، بعثتها رحمة الله إلى صديقتها "ايساتو"، وعبرها إلى جميع القراء، تفضي لها فيها بأسرارها، وتذكرها بمعاناتها من المشاكل الزوجية.. وخاصة مشكلة تعدد الزوجات، هل يمكن لرسالة بين صديقتين، أن "تكتب" ذكريات طفولة، آلام المخاض، الزواج التقليدي، تحـول قـيم، مفارقات، الوحدة، الخداع، النسيان، الحب، التحرر، التضحية، الخيانة، العنف، حكمة الجدات، إلى امرأة أخرى.
وحول الكاتبة أميناتا فورنا من سيراليون وروايتها "ذاكرة الحب"، التي حصلت بها على جائزة الكومنولث البريطانية، وفيها تروي الكاتبة مأساة وطنها عبر قصص حب تتناغم، وتتماهى مع العنوان انطلاقاً من قصة حب تروي نفسها عبر ذاكرة الألم ومرارة الإحساس العميق.
كما اختارت الكاتبة الكينية "إيفون أديامبو أوور" مناخاً سياسياً مضطرباً، لروايتها "غبار" التي رأتها جريدة "نيويورك تايمز" رواية مذهلة، ورشحت لجائزة فوليو البريطانية.
أما رواية الروائية النيجيرية بوتش أميتيشتا "مهر العروسة"، وهي الرواية الثالثة لها بعد روايتي "المعزة"، و"مواطن من الدرجة الثانية"، قد زاوجت فيهنّ جميعاً بين قضية التفرقة العنصرية واضطهاد المرأة، حيث يوضع العبيد والنساء في خانة تجردهم من الحقوق الإنسانية، وهو طرح اتسمت به الرواية الإفريقية عامة، لكن الثيمة التي استخدمتها الكاتبة في هذه الرواية ثيمة لها خصوصيتها في التناول، خاصة وأن الكاتبة عالمة اجتماع، تعرف أبعاد قضايا المرأة والمجتمع، وملاحظة الظواهر المرتبطة بهذه القضايا من الناحية الإجرائية والإبداعية.
السيرة الذاتية والتاريخ في السرد الإفريقي
إن السيرة الذاتية الإفريقية تتمتع بميزتين: هي تاريخ شخصي، وهي في نفس الوقت جنس أدبي له سماته الخاصة به، ويؤدي هذا الازدواج أحياناً إلى صعوبة تحديد القيمة الفعلية للسيرة الذاتية، فهي باعتبارها أكثر الأشكال النثرية شيوعاً ليس في أفريقيا فقط، ولكن في العالم كله، كانت تقوم في مطلع هذا القرن على أنها مصدر مهم للتعرف على تاريخ القارة غير المعروف.
وكأن الكاتب يعتبر ممثلا للأفارقة عموماً، وقصة حياته هي قصة حياة كل أفريقي، وقد اكتسبت السيرة الذاتية هذا المركز المرموق لأهميتها في تحديد التاريخ الذاتي لكاتبها، والتاريخ العام للمناخ المحيط به من كل جانب، الاجتماعي والسياسي، والثقافي والاقتصادي.
ومن النماذج المهمة في مجال السيرة الذاتية ما كتبه وول يوينكا في كتابه "مذكرات سجين"، الذي أطلق عليه اسم " الرجل الذي مات"، وهناك إضافة أخرى لسوينكا هي كتاب (آكيه.. سنوات الطفولة) وهو الجزء الأول، أما الجزء الثالث فقد وضع له عنوان (يجب أن ترحل في الفجر)، وفيه يستعيد سيرة وطنه نيجيريا وسيرة منفاه الطويلة.
وفي مجال السيرة الذاتية أيضاً، تمثل رواية "الطفل الأسود" تأليف كامارا لايي استمراراً لتقليد الرواية السيرية التي ازدهرت في مرحلة من مراحل الكتابة الروائية، كما تُعد رواية "قوة الخير" لبكري ديالو أول رواية سيرية باللغة الفرنسية، عن واقع الحياة التي كان يحياها الكاتب.
ولا شك أن شوقي بدر يوسف أخذنا في بانوراما مشهدية للرواية الأفريقية، طاف فيها من الشرق إلى الغرب، وحلّق في أنواع وتيارات مختلفة، وسبر غور أدباء أفريقيا بكل اللغات.