[1]
ماتت جارتنا الهيفاء بالسكتة القلبية، حزن عليها أهل قريتنا جميعاً، وتناثرت في الفضاء عبارات الأسف: (ضيعان شبابها.. أليس حراماً أن يموت الورد ويعيش العلّيق..)! (امرأة مثل الذهب تموت، ويبقى التنك يملأ بيوتنا برائحته الصّدئة)، وغيرها من الكلمات التي نفثها الرجال المتحسّرين على خسارتها، وبقاء زوجاتهم جاثمات على صدورهم مثل الهمّ على القلب كما قالوا، وبعد انتهاء مراسم العزاء، جاء زوجها الأرمل ليأخذ أولاده من بيتنا، ويشكرنا على احتضانهم ورعايتهم طيلة فترة انشغاله عنهم، قالت له أمي، وهي تُنقّل نظراتها بيني وبينه:
ـ اتركهم عندنا يا أبا ليث حتى تجد بنت الحلال التي تعوّضهم عن المرحومة أمهم، فابنتي سارة أحبتهم من قلبها، وهي تعرف كيف تعتني بهم، وتضعهم في قلبها وعينيها.. هززتُ رأسي موافقة على قولها دون أن أُدرك مراميها.. جدّد الرجل شكره وامتنانه، وهمّ بمغادرة دارنا مع أولاده، لكنها حلفت عليه أن يشرب الشاي من يدي قبل ذهابه، فأنا ست بيت من الطراز الرفيع كما قالت، وكوب الشاي الذي أتقن تحضيره لن ينساه أبداً.. جلس الرجل ملفّعاً بحيرة يسترها الحياء من دفقات الحنان المفاجئة، التي سكبتها أمي على رأسه المصدّع بالهموم، فنحن لم نكن على وئام معه من قبل، وذلك بسبب امرأته المتعجرفة التي تدسّ أنفها بين النجوم، كما كانت تردّد أمي كلما رأتها داخلة أو خارجة.. والآن انقلب الحال فور رحيلها، وبات الرجل المنكوب ابنها، وأولاده أحفادها..
هرعتُ إلى المطبخ أتعثّر بارتباكي وخجلي، فأنا لم أعتد على مدح أمي، وكل ما أفعله لإرضائها ونيل إعجابها، يذهب أدراج الضياع، فكيف ولماذا قُلبت الموازين الآن؟
أعددت الشاي، وعدت به، صببت له كوباً ولها مثله، وجلست أنتظر رأيهما في التحفة العظيمة التي صوّرتني والدتي خير من يبدعها، وما أن رشف الرشفة الأولى حتى سألته، وبسمتها تكاد تبتلع وجهها عن آخره:
- ها..؟ ما رأيك أبا ليث العزيز..؟ يعدل المزاج، أليس كذلك؟
وقبل أن ينطق بحرف واحد، أردفت مفتخرة:
- ألم أقل لك إنها ست بيت ممتازة؟
انقبض قلبي، كأنما التهمته غيمة كثيفة السواد، فخفتَ نوره وتعالى ضجيجه، فقد وصلني للتوّ ما تخطط له أمي، فوجدتني أقول على استحياء:
- أمي.. لا داعي لهذا الكلام..
وأخذت الأولاد إلى غرفتي، أحتمي ببراءتهم من قصف أمي المبرمج، غير أنها على ما يبدو استغلّت واقعة هروبي أيضاً، وجيّرتها لصالح هدفها، فقد زجّتها في السياق لتؤكد له ميزة جديدة فيّ، ألا وهي الحياء المتأصّل في شخصيتي، وهذه صفة باتت نادرة في بنات هذه الأيام.. وقبل أن يغادرنا الرجل، علّق على وجهي نظرة وصلت إلى نقيّ عظامي..
بعد أشهر معدودات كنت امرأته الجديدة، فمخططات أمي لا تفشل أبداً، وإن وضعت أمراً في رأسها، لا تكلّ ولا تملّ حتى يتحول واقعاً مُعاشاً، مهما كانت تبعاته، فهي لا تعرف كيف أعيش الآن، وربما لا يعنيها أنني بين يوم وليلة صرتُ أمّاً لثلاثة أطفال، وعليّ أن أعوّضهم عن أمّهم الراحلة، وما أقسى تعويض الأم.. فالحذر دأبي وديدني، في النظرة، والكلمة، ونبرة الصوت، و.. و.. فأيّ شيء يبدر مني محسوب عليّ، وهو يوزن بميزان زوجة الأب لا الأم.. وهذا الرجل الذي تزوجني تحوّل بعد أشهر من إنسان إلى مرصد مراقبة عالي الدقة، يراقب تعاملي مع أولاده، ويسجّل حركاتي وسكناتي، وأنا أدور على كعبيّ سحابة يومي، وألوب بين تلّ المسؤوليات الملقى على عاتقي، دون أن أسمع كلمة إطراء، تُرطّب جفاف عمري، كلمة عرفان واحدة تكفيني، فالغزل مطلب عزيز، لا أجرؤ على ترف التفكير به، فأين أنا من جمال المرحومة، وأين مكانتي من مكانتها؟ فهي ابنة مدير الناحية المدللة، وأنا ابنة رجل لا أعرفه، مات عني وأنا أحبو، وأنا لا أتذكّر نفسي إلّا في بيت زوج أمي، أمي التي رمتني مذ وعيت في خانة الاحتياط لإرضاء زوجها وأولادها، فأنا اللاعب المركون جانباً، المحجوب عن لعبة الحياة إلّا في حالات نادرة، يقع فيها اللاعب الأصيل، ويعجز عن المتابعة، عند ذلك فقط يُزجّ بي مكانه، لكني أبقى لاعباً هامشياً حتى لو سجّلتُ ألف هدف.. لكل هذا لم أطمح يوماً بكلمة غزل من فم زوجي، فلا بد أني بنظره ذاك اللاعب الاحتياطي الذي لا يرقى إلى مستوى امرأته الراحلة.. خاصة وأن فرصتي في الإنجاب تكاد تكون معدومة، فأنا من أسمتها أمها قبل الآخرين (العانس).
فوجدتُني أتماهى في العمل من ألفِ يومي إلى يائه، لأحقق راحة الأولاد وأبيهم.. حوّلتُ حديقة المنزل جنّة، تزهو بشتى أنواع الخضار والورود، فهذه محطّتي الأخيرة، وعليّ الاحتفاء بها لأنسى ندوب الروح.
[2]
قطفتُ من الحديقة عدّة حبّات من البندورة والباذنجان، وباقة نعنع ورشاد وزهور، ودخلت بها المطبخ، لأحضّر الغداء، نظر إليّ زوجي نظرة جديدة، تشبه تلك التي علّقها على وجهي قبل الزواج، ثم نزلتْ نظرته إلى ما أحمله بين يديّ وقال:
- فعلاً (الكلب الدّاير أنفع من السبع القاعد) كما يقول المثل.
مثل ضربة الصاعقة نزل مثله على رأسي، ونطّت على الفور صورة أمي إلى مخيلتي، رأيتها جالسة كملكة على عرشها، يحيط بها زوجها وأولادها، دخلتُ عليهم ملطّخة بالطين والأوحال، أحمل كيس الفطر الذي جنيته من تحت الأشجار الكثيفة التي تُسوّر حقلنا البعيد، نظرتْ أمي إليّ، ابتسمت بشيء من الفخر، وقالت:
- رحم الله المثل الذي يقول: (الكلب الداير أنفع من السبع القاعد).
لم أعرف يوم ذاك إن كانت تمدحني أم تذمّني.. ما أعرفه أنني ابتسمت فرحاً بما ظننته مديحاً، فزمجر قلبي بين أضلعي غاضباً، وكأني سمعتُ قرع الطبول داخله، دون أن أُدرك لذلك سبباً..
وما زال قلبي ينتفض غاضباً، وصهيله يقرع آذان السماء، كلما سمعت مثلاً.. أيّ مثل!