المُتعلمون.. والظاهرة التربوية!

قراءة في تصوّرِ بيير بورديو للمدرسة

عبد الخالق بهلول


تعد سوسيولوجيا التربية فرعاً من فروع السوسيولوجيا العامة، ويُعنى هذا الفرع بدراسة الحقل التربوي باعتباره ظاهرة اجتماعية، وتحليل الأنظمة المؤطرة لهذه الظاهرة، ودراسة كل الظواهر المتعلقة بمجال التربية والتعليم، والمؤسسة الدراسية في علاقة تامة بالمجتمع؛ ويعني هذا أن المدرسة تعكس محيطها الاجتماعي بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ثم، تركز هذه السوسيولوجيا على دراسة المؤسسة التربوية من الداخل والخارج، بدراسة مكوناتها وعناصرها ونسقها الوظيفي الكلي، برصد مختلف الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة التعليمية، سواء أكانت أنشطة مادية أم معنوية. ثم رصد مختلف العلاقات التفاعلية التي تجريها المؤسسة مع المجتمع الخارجي، بالتوقف عند ثوابتها ومتغيراتها، واستجلاء خصائصها ووظائفها وأدوارها المجتمعية.


وقد ظهرت دراسات السوسيولوجيا للتربية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وتعد المدرسة الفرنسية من أبرز المدارس التي أثرت في الفكر السوسيولوجي للظاهرة التربوية، ويعد بيير بورديو واحداً من أبرز رواد هذه المدرسة الذين قدموا تحليلات للظواهر التربوية، لاسيما في الجانب العلائقي الذي يربط المدرسة بالمجتمع، وحسبنا في هذه الورقة أن نقف عند بعض القضايا التربوية التي ناقشها بورديو، وجرد المفاهيم المؤسسة لتصوره السوسيولوجي للتربية.

وتنبغي الإشارة أولاً إلى أن سوسيولوجيا التربية ولدت ولادة ثانية مع بيير بورديو بعد ولادتها الأولى مع دوركايم، بفضل الدقة المنهجية والمفهومية التي بنى بهما تصوره السوسيولوجي مقارنة بمن سبقه، وقد انطلق بورديو من فرضية سوسيولوجية أساسية مؤداها أن المتعلمين لا يملكون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي؛ لأنهم لا يملكون الحظوظ نفسها داخل بنية المجتمع، ولذلك ترتب عن هذا الاختلاف في الحظوظ تنوع طبقي ومجتمعي، ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي نفسه، وقد استقصى بورديو هذا المشهد بإحصاءات علمية واقعية، واستطاع من خلالها أن يثبت أن الثقافة التي يتلقفها المتعلم في المدرسة الفرنسية، هي -في عمقها- ثقافة رأسمالية ترسخ الطبقية، وليست ثقافة موضوعية محايدة، ولا تعبر عن هموم المجتمع، بقدر ما تعبر عن ثقافة الطبقة الحاكمة، وهذا ما جعل المدرسة الفرنسية في تصور بورديو مدرسة إمبريالية، يحركها منطق التوسع، وهو توسع ثقافي يهدف إلى نشر ثقافة أحادية، ويعني ذلك أن التنشئة الاجتماعية التي تحدث عنها دوركايم ليس الهدف منها تحرير المتعلم، وإنما إخضاعه، ودمجه في المجتمع الذي أريد له، في إطار ثقافة واحدة، ويعني ذلك أيضاً أن الهدف من التربية دفع المتعلم إلى التطبيع مع الموجود ثقافياً، أي التطبيع مع الطبقية الموجودة واقعاً، ليبقلا ابن الفلاح في طبقته، وابن الوزير في طبقته، وهذا ما جعل المدرسة في نظر بيير بورديو مدرسة اللامساواة الاجتماعية بامتياز.

ويعني هذا أن القضية الأولى التي ناقشها بيير بورديو في حقل سوسيولوجيا التربية هي قضية "ديمقراطية التعليم"، وقد ناقشها في إطار نظرية "إعادة الإنتاج"، وهي النظرية التي أثبت بها لا ديمقراطية المدرسة، فالمدرسة في نظره جهاز للحفاظ على مصالح النظام الرأسمالي وآيديولوجياته، وبالتالي، فهي أشبه بنظم وراثي يورث الطبقية نفسها الموجودة سلفاً في بنية المجتمع، وهذه الوراثة هي التي تضمن استمرارية المجتمع، ويعني ذلك أن جميع المجتمعات في حاجة إلى آليات إعادة الإنتاج، لأنها -في النهاية- مجتمعات طبقية تؤمن بالتراتبية الطبقية، وهذا ما رسخته ثقافة الانتقاء، ويراد بها ترتيب المتعلمين، وتحديد الناجحين، ووضع الشروط لولوج المعاهد والمؤسسات العليا، والتخصصات ذات الولوج المحدود بلغة العصر، وهذه الانتقائية، كما يرى كلود باسور، هي التي تضمن استمرارية النظام الاجتماعي، وهذا هو الواقع الذي تنكره المدرسية حين تدعي أن جميع الأفراد سواسية، وهم في الأصل مختلفون طبقياً، وتحاول المدرسة تكريس هذا الواقع المغلوط، وهو ما يسميه بورديو "الوعي الزائف".

لقد آمن بورديو بأن المدرسة ترسخ اللامساواة، التي تستند إلى الاختلاف الطبقي، ودليل ذلك، كما يرى بورديو، أن النجاح والاستمرارية حليف للطبقات العليا، في حين يكون الفشل نصيب الطبقات الدنيا من الفلاحين والحرفيين والمهاجرين، وهذه اللامساواة خلقت عنفاً رمزياً أساسه القهر الثقافي، ولا يجد هذا القهر من يحاربه داخل المؤسسة التربوية، لأنه صار بمنزلة الوعي الزائف، وقد كرس الهابيتوس هذا الوعي، بوصفه نظاماً من الاستعدادات المكتسبة التي تتميز بالاستمرارية والقابلية للنقل، وبالتالي، فإن المتعلم حين يلج المدرسة، فإنه يلج إليها مسلحاً بالتنشئة الاجتماعية التي أطرته، فيكون مستعداً نفسياً للعنف الرمزي، وهذا ما جعل بورديو يؤكد أن أفعال الأفراد أفعال حتمية، أي أنها نتاج لحتميات اجتماعية صرفة، ويتم بناؤها بواسطة الاستدخال intériorisation، الذي تنطلق مهامه منذ الولادة، وتنتهي عند الممات كما وصفه بورديو.

 ختاماً، يمكن القول إن دراسات بيير بورديو هي، في الحقيقة، نقد للدراسات الكلاسيكية حول سوسيولوجيا التربية؛ إذ اعتمدت على المقاربة الماركسية الجديدة في دراسة المدرسة الفرنسية بصفة خاصة، والمدرسة الرأسمالية بصفة عامة، بغية الدفاع عن مشروع التعليم الديموقراطي، ولذلك كان السؤال المنطلق الذي انطلق منه بورديو هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة الطبقية والاجتماعية، وتعكس مدى اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوظة، واختلاف المستوى التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوظة، والتعليم القصير الذي يكون من حظ أبناء الطبقات الدنيا، ولاسيما أبناء الطبقات العمالية وأبناء المهاجرين، وهذا ما رفضه بورديو رفقة باسور في كثير من أعمالهما، لاسيما في كتابيهما (الورثة)1، و(إعادة الإنتاج)2.

 


الهوامش:
1 ◂ Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, Les héritiers: les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. «Grands documents» (no 18), ‎ 1964, 183 p
2 ◂ Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, La reproduction : Éléments d’une théorie du système d’enseignement, Les Éditions de Minuit, coll. «Le sens commun», ‎ 1970, 284 p

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها