في عالم يعجّ بقصص الحروب والدمار، نادراً ما نجد من يلتفت إلى خسارات لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تفوق في فداحتها خسارة المدن والعمران. إننا نتحدث هنا عن دمار المعرفة، وعن فقدان كنوز الفكر البشري التي راكمتها الحضارات عبر القرون، ومن بين أكثر تلك القصص مأساويةً، قصة "بيت الحكمة" في بغداد، الذي كان رمزاً لحضارة علمية نادرة، ومركزاً للإشعاع الثقافي في العصر العباسي، قبل أن يلتهمه الغزو المغولي بوحشية، تاركاً خلفه ذاكرة مضرجة بالألم والأسى.
انطلاقًا من ذلك، تقدّم الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، عبر كتابها الصادر عن "مجموعة كلمات"، والموجه للأطفال واليافعين من سن 7 إلى 13 عاماً، محاولة جادة لإعادة الحياة إلى هذا الصرح الثقافي في ذاكرة الجيل الجديد، وذلك بأسلوب سردي بصري بديع، مدعوم برسومات الفنان مجيد ذاكري يونسي، لتروي قصة "بيت الحكمة" بأسلوب مبسط، مشوق، وملهم في آنٍ واحدٍ.

✧ رحلة معرفية إلى أعماق التاريخ ✧
يحمل الكتاب عنوان "بيت الحكمة"، وهو ليس مجرّد عنوان لكتاب أطفال، بل بوابة للدخول إلى واحدة من أبهى فترات الازدهار العلمي في التاريخ الإسلامي.
يتناول الكتاب بأسلوب روائي مصور تأسيس بيت الحكمة في بغداد، الذي بُني في العصر العباسي على يد الخليفة هارون الرشيد، واستمر في التوسع والازدهار في عهد المأمون، حتى أصبح واحداً من أعظم مراكز الترجمة والدراسات العلمية في العالم القديم.
كما عُرف بين الحكمة أيضاً بـ"خزائن الحكمة". لم يكن مجرد مكتبة؛ إنما يعد أكاديمية علمية متكاملة، تضم بين جدرانها علماء من مختلف المشارب والثقافات، اجتمعوا على حب العلم ونشره، جمعت فيه كتب الفلسفة، والطب، والفلك، والرياضيات، والهندسة، وشرّعت فيه حركة ترجمة غير مسبوقة من اليونانية، والفارسية، والسريانية، والهندية، وصولاً إلى اللغة العربية.
وبهذا الجهد الحضاري الجبّار، أصبح بيت الحكمة منارة علمية عالمية، أسهمت في نقل المعرفة البشرية وتطويرها، وأسست لنهضة فكرية شكّلت جزءاً من الميراث الثقافي الإنساني، الذي كان له الأثر الكبير في تطور الفكر الأوروبي لاحقاً.
إلا أنّ هذه الحضارة لم تسلم من رياح الغزو والخراب، ففي عام 1258، اجتاح المغول مدينة بغداد بقيادة هولاكو خان، فدمروا المدينة وكان من أوائل ما طالته أياديهم المدمرة هو بيت الحكمة، حيث أُحرقت الكتب وأُلقيت المخطوطات في نهر دجلة، حتى قيل إنّ مياهه اسودّت من كثرة الحبر. يُعتبر هذا الحدث فاجعة معرفية بكل المقاييس، طُويت معها صفحة ناصعة من تاريخ الفكر البشري.
رسالة للأجيال:
تسعى الشيخة بدور القاسمي، من خلال هذا العمل الأدبي الرصين والموجّه بدقة للأطفال واليافعين، إلى ما هو أبعد من مجرد السرد التاريخي؛ إنها تحاول زرع بذور الفضول العلمي، وحب التعلّم، والتأمل في الماضي لفهم الحاضر وبناء المستقبل. فهي تدرك ككاتبة ومثقفة وناشرة أنّ إدراك الطفل لتاريخه الحضاري هو حجر الأساس في تشكيل وعيه العلمي والثقافي.
والكتاب رغم بساطة لغته وسلاسة أسلوبه، يحمل في طياته رسائل عميقة عن أهمية المعرفة، ودور الترجمة، والانفتاح على الآخر، والاعتزاز بالهُوية الثقافية، كما يعكس إيمان المؤلفة العميق بأنّ العلم ليس حكراً على زمن أو أمة، فهو نتاج تراكمي تشاركت فيه حضارات عدة، وكانت الأمة الإسلامية في عصرها الذهبي جزءاً محورياً من هذا الجهد الإنساني الجبّار.
وتتميّز طريقة العرض في الكتاب بالتكامل بين النص والرسوم، حيث تأتي الرسوم التوضيحية لتجسيد المشاهد التاريخية، وتُسهم في تبسيط المفاهيم، وجعل الرحلة المعرفيّة أكثر تشويقاً ومتعة، ما يجعل الطفل القارئ يعيش تجربة قرائية متكاملة، تجمع بين الفهم العقلي والانجذاب البصري.

بيت الحكمة.. رمز للتنوير والانفتاح:
ليس "بيت الحكمة"، مجرد مكان لحفظ الكتب فقط، إنما هو مثال واضح على فلسفة الانفتاح والتعدّدية الفكرية، وهذا ما يعالجه الكتاب بطريقة ذكيّة وسلسلة في الوقت نفسه. من خلال التأكيد على أن تعدد اللغات التي تُرجمت منها الكتب لم يُضعف اللغة العربية، بل على العكس ساعد في تقويتها وإغنائها، مما جعلها قادرة على استيعاب شتى المعارف الإنسانية.
ويُبرز الكتاب أيضاً أهمية العمل الجماعي والعابر للثقافات، حيث اجتمع في بيت الحكمة علماء من العرب، والفرس، والسريان، والهنود، واليونانيين، في وحدة علمية قلّ نظيرها. لقد كان بيت الحكمة تجسيداً حيّاً لقيمة الحوار العلمي، واحترام التنوّع، وهو ما يحتاجه أطفال اليوم لفهم التحديات العالمية المعاصرة وبناء ثقافة تعاونية أكثر تسامحاً.
لا تكتفي الشيخة بدور القاسمي باستحضار الماضي لمجرد تأريخه، إنما لتستلهم منه ما ينير درب الأجيال القادمة. إذ تنظر إلى بيت الحكمة بوصفه نموذجًا ملهماً يحتذى به، ورسالة دائمة تذكّر بأهمية التمسك بالعلم والسعي وراء المعرفة رغم تغيّر الظروف. وعلى هذا الأساس، لا تدعو الأجيال الجديدة إلى اجترار التاريخ؛ وإنما إلى الغوص في معانيه واستثمارها لبناء مستقبلٍ واعدٍ.
ذاكرة لا تموت:
لا تكتفي الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، في كتاب "بيت الحكمة"، بسرد أحداثٍ تاريخية فحسب، بل تبعث الحياة في ذكرى حضارة عظيمة، وتضعها في متناول جيل المستقبل، بلغة يفهمها ويتفاعل معها. هذا العمل يُذكّرنا بأن الخسارة ليست فقط بالدمار والهدم، فحتى عندما تختفي المعرفة، وتُفقد الكتب، وينطفئ نور العلم، يبقى الأمل ممكناً بإحياء الذاكرة.
ومع ذلك، يحمل الكتاب رسالة أمل قوية حيث يشجع القارئ الصغير على أن يكون جزءاً من مسيرة حضارية متجدّدة، تبدأ بالوعي بجذور التاريخ، وتمتد بثقة نحو المستقبل. إنه تذكير بأننا -رغم ما أصابنا من خسائر- قادرون على إعادة بناء مجدنا، تماماً كما كانت بغداد رمزاً للعلم، وكما يمكن لكل طفل اليوم أن يحمل شعلة المعرفة ويضيء بها دروب الغد.
إشراقة جديدة في أدب الطفل:
يمثل كتاب "بيت الحكمة"، إضافة مميزة في أدب الطفل العربي نحو الموضوعات التاريخية والفكرية؛ إذْ ينجح في الجمع بين الإمتاع والتعليم في آنٍ واحد. ويسهم في سد فجوة كبيرة في المحتوى الموجه للصغار، نادراً ما يُعالج هذا النوع من الموضوعات برؤية تربوية حديثة تُخاطب الطفل بلغة بسيطة قريبة من عالمه.
لا يكتفي الكتاب بإحياء أحداث الماضي، بل يعيد تعريفه في حياة الطفل العربي موضحاً أن الأدب قادر على أن يكون أداة مؤثرة في غرس القيم وتعزيز الوعي. لذلك يُعد هذا العمل مرجعاً بصرياً وثقافياً مهماً، ويستحق أن يكون حاضراً في المؤسسات التعليمية.
ختاماً: تكريم دولي في مهرجان الطفل القرائي 2025
إلى جانب قيمته المعرفية والتربوية، فقد حاز الكتاب على جائزة "بولونيا راجازي" العالمية لأدب الطفل ، والتي تُعد من أرفع الجوائز في هذا المجال، وتُمنح سنويًا ضمن فعاليات معرض بولونيا الدولي لكتاب الطفل، منذ عام 1966م. وقد جاء تتويج الكتاب بهذه الجائزة تأكيداً على جودته الفنية والأدبية وعلى مكانته كمشروع ثقافي عابر للحدود.
كما تم إطلاق الكتاب ضمن فعاليات الدورة 16 من مهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025، تحت شعار "لتغمرك الكتب"، في مركز إكسبو الشارقة، وهو ما يعكس حرص مؤلفة الكتاب على إيصال الرسالة الثقافية إلى أوسع شريحة من جمهور الأطفال واليافعين، عبر بيئة تفاعلية تدمج بين القراءة والاكتشاف.