قلق القصّة القصيرة جدّاً في "ناهدات ديسمبر"

للقاصّ السعوديّ حسن علي البطران

عمران عز الدين

 

القاصّ السعوديّ حسن علي البطرانِ قاصٌّ مثابرٌ، يسعى لأن تكونَ له بصمته الخاصّة من خلال تدبيج قصّصٍ لا تشبه إلا كاتبها، والذي اكتشفنا فيه -من خلال متابعتنا الدؤوبة له- موهبة، ومقدرة فنيّة قادرة على الاستمرار، والارتقاء بقصّه إلى مستويات أعلى، إنّهُ يمتلك أهمّ عنصر من عناصر القصّ وهو قوّة الخيال، فضلاً عن لغته السلسة.



وسنتصدى في مقاربتنا لمجموعته "ناهدات ديسمبر" من خلال التطرق للمحاور التالية:

 

1ـ توطئة:

مما لا شك فيه أنَّ أدبَ القصة القصيرة جدّاً أدبٌ موغلٌ في القِدم، له جذورٌ ضاربةٌ في التراث والتاريخ الأدبيّين، كالطرفة والحكمة والمثل والشذرة والنكتة والخبر والمقالة، كما أنّ كِبَار كُتّاب السّاحة الأدبيّة -العربيّة والعالميّة- قد خاضوا غِمَار هذا الفن بشكلٍ أو بآخرَ، ومنهم مثلاً: يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وزكريا تامر وتشيخوف، وبورخيس وايتالو كالفينو، وهو فنٌ قائمٌ، من منبعه إلى مصّبه، على التكثيف والإضمار والحذف والتجويد، وينأى عن الحشو والتكرار والرتابة المقيتة، بل ثمّة كتبٌ لأسماء ملهمة تزخر بنماذج خالدة من هذا الفن مثل كتاب "الحيوان" للجاحظ، و"المستطرف في كلّ فن مستظرف" للأبشيهي، و"المجنون"، و"رمل وزبد" لـ جبران خليل جبران، و"أحلام فترة النقاهة" لـ نجيب محفوظ، كما أنَّ كثيراً من قصص زكريا تامر تندرج تحت هذا المسمى، وخاصة في كتابيه "النمور في اليوم العاشر" و"سنضحك"، وهذا عن الجانب العربيّ في هذا الفن.

أما في الغرب، فأول كِتَاب في هذا الفن يعود لناتالي ساروت وهو بعنوان "انفعالات" عام 1932، ومن أهمّ كُتّاب هذا الجنس الأدبيّ الغواتيمالي أوجستو مونتيروسو والإيطالي إيتالو كالفينو، والأرجنتيني بورخيس، والفرنسي يوجين يونسكو الّذي عنون كتاباته بـ"ومضات يونسكو" والقائل: "كلّ أدبٍ جديد عدائيّ، العدائيّة تمتزج بالأصالة، وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار".

يذكر أنَّ أقدم قصّة قصيرة جِدّاً كان قد دبّجها الأرجنتيني ماركو دينيبي، وهي قصّة موسومة بـ"الحقيقة" والّتي جاء فيها: "قال الرجل الشريف: أعطوني أسرع حصان. لقد قلتُ الحقيقة للملك".

يرى الدكتور أحمد جاسم الحسين في كِتابه "القصة القصيرة جدّاً"، الصادر عن دار عكرمة للنشر سنة 1997، بأنَّ أهمّ عناصر وشروط هذا الفن هي: "القصصية/ الجرأة/ وحدة الفكر والموضوع/ التكثيف/ خصوصية اللغة والاقتصاد/ الانزياح/ المفارقة/ الترميز/ الأنسنة/ السخرية/ البداية والقفلة/ التناص".

وعليه.. فالقصّة القصيرة جدّاً قصّة يُفترض أن تكونَ مُحكمة جدّاً، تتألف من مقدمة وحبكة وخاتمة، كما ويُفترض أنّها تُعالج موضوعاً ما، بقالبٍ حكائيٍّ، انتقاديٍّ، مُعرٍ، وساخرٍ غالباً، ومن الصعوبةِ بمكانٍ حذف واستبدال أيّة مفردة فيها، أو حذف واستبدال أيّ حرف من أحرف الجر والعطف؛ لأنّ ذلك قد يُغيّر من فحوى النصّ، مراميه، وأبعاده، كما أنّهُ من غير المُستَحسن إطلاقاً تكرار المفردة ذاتها، أو حتّى أشباهها، في المتن الّذي يُفترض أنّهُ أميل للتشذيب والقصر الشديد، كما توضّحها لنا كلمة "جدّاً "، الملحقة بـ القصّة القصيرة. يقول يوسف إدريس في هذا الصدّد: "إنَّ الهدفَ الّذي أسعى إليه هو أن أكثّف في خمس وأربعين كلمة -أيّ في جملة واحدة تقريباً- الكمية القصوى الممكنة من الإحساس، باستخدام أقلِ عددٍ ممكنٍ من الكلمات".

2 ـ قلق البطران:

يتبدى قلق البطران جلياً في بعضٍ من نصوصه الديسمبرية، إذْ يحرص على صياغة جملة مكثّفة، ذات إيحاءات، وأمداء، لكنّهُ يقع في مِطبِ الحشو الفاقع، والرتابة المقيتة، والمباشرة غير المستساغة.

يقول القاصّ في قصّته "تمازج فصول": "هرول خلفها سنوات ربيع، وسنوات خريف، فلما اقترب منها وحان قطف ثمرتها.. وجدها عفنة، وذات رائحة نتنة"! [ص: 56]، يختم القاصّ قصّته هذه بهاتين الجملتين "وجدها عفنة"، و"وذات رائحة نتنة"، وكان عليه أن يكتفيَ بجملته الأولى؛ لأنّ الجملةَ الثانية فائضة عن المعنى والسياق والتناسق النصيّ، حشوٌ وشرحٌ للأولى، وهو الأمر ذاته الذي نجده في قصّةٍ أخرى، وسمها بـ "حمى"، واستهلّها على الشكل التالي: "في أواخر حياته، وفي عمره المتأخر..." [ص: 71]، فهل القصّة القصيرة جدّاً تتحمّل هذا الحشو؟ أولم يكن حرياً بالقاصّ هنا أن يكتفيَ مثلاً بجملته الأولى أو الثانية؟ بينما نجده يقترب من المحكية الدارجة في قصّته "بحث عن قناعة" إذ يقول: "يشتغل على رضاها ليلاً ونهاراً، لكنها في كل صباح تتهمه بالتقصير.. وتصف قلمه بالجاف"! [ص: 83]، فجملة "يشتغل على رضاها ليلاً ونهاراً "جملة فاقعة، غير قصصيّة، وكان حرياً بالقاصّ أن يكتفيَ مثلاً بكلمة" يرضيها، عِوَضاً عن: يشتغل على رضاها".

3 ـ حول عناوين ناهدات ديسمبر:

العنوان هو الّذي يحدّدُ غالباً هويّة النصّ، إذ يقوم على المجاز والتورية والإيحاء؛ ليكون عنصراً هامّاً وفاعلاً في قراءة النصّ، وهو "الوسيلة الأولى لإثارة شهيّة القراءة" كما يقول رولان بارت. بعض عناوين قصص البطران موفّقة جدّاً، ومثالاً: "وجهها مرآة - حلمات ثعبان - عكس الموجة - وناهدات ديسمبر"، وبعضها الآخر مستلّة من المتن، ومثالاً: "سلمى - جنازة - حنين - ظل - ثوب قصير - ممر - خيمة - أمواج - دولة - تحرير - رائحتها - صمت - حوار - سابع - ظنون - الورقة الأخيرة - سماء - رقراقة - وبراءة". أما تلك العناوين الّتي يغلب عليها الطول فلا تتحمّلها القصّة القصيرة جدّاً، المنحازة أصلاً للقصر والضغط والتبئير والتكثيف الشديد، ابتداءً من العنوان، وانتهاءً بالقفلة، ومثالاً: "أراضٍ مقدسة لا تقبل السجود ـ رُميت من مرتفع ـ لون من الطيف ـ رعد بلا مطر ـ نظرة فوق نظرة تحت ـ بحث عن قناعة ـ بعيداً عن الأنا ـ بياض كله سواد ـ وغرسٌ بعمائم مزيفة". يقول القاصّ في قصّةٍ موسومة بـ دهاء: "أغمض عينيه أهدت صديقها ورداً.. فتح عينيه قبلته في جبينه.!!" [ص: 92]، ففي هذه القصّة مثلاً لم يحالفه التوفيق في اختيارِ عنوان قصّته، وكان أجدى به لو أنّه وسمها بـ"خيانة"، وهو العنوان ذاته الذي اختاره لقصّةٍ أخرى لم يحالفه فيها التوفيق أيضاً. إذ ليس من الدهاء في شيءٍ أن تهديَ الحبيبة صديقها وردة في غفلة عن الحبيب، كما أنّه ليس من الدهاء أيضاً أن تقبّلَ جبينه بعد ذلك؛ لأنَّ فعلاً ذميماً كهذا لا يُنعت إلا بالخيانةِ، ويُجَابَه فاعله ـ من ثمّ ـ بالصدّ والافتراق.

4ـ ومضات من ناهدات ديسمبر:

الومضةُ جنسٌ أدبيٌّ مستقلٌ، قائمٌ بذاته، لها أركانها وعناصرها الّتي تميزها عن باقي الأجناس الأدبيّة، وليس من الإنصافِ في شيءٍ إلحاقها بالقصة القصيرة جدّاً. يقول القاصّ في ومضته "مغناطيس": " أبصرها.. وقعت بين يديه." [ص: 115]، وفي ومضةٍ أخرى حملت عنوان "امتداد": "نظر أعلى البرج.. سقط" [ص: 117]، ففي هاتين (القصتين) الومضتين تتوافر جُلّ عناصر الومضة من تكثيف وإدهاش وإيحاء ومفارقة ونهاية مباغتة. ثمّة ومضات أُخر في هذه المجموعة، ومنها: "طراوة شرف ـ حوار ـ سابع ـ وسريالية الّتي يقول فيها: "نظر إليه.. فلما رآه بصق على الأرض..!" [ص: 89].
 

5ـ قاموس البطران القصصيّ:

سنناقش هذا الباب في محورين، وهما:
1 ـ لغة:

لغة القاصّ سليمة قاعدياً، وخالية من الأخطاء نحواً وصرفاً إلا ما ندر، إنّهُ ينأى بلغته ـ قدر الإمكان ـ عن الاستطرادات التوصيفيّة، لكنّهُ يفقد أحياناً السيطرة على نصّهِ، ولجمهِ، فينزاح عن سردنته، وحكائيته، حتّى إنّه يمكننا القول إنَّ كثيراً من قصّصه عبارة عن خواطر، ومقاطع شعريّة، أو قصائد دراميّة، اقرأ معي ما كتبه في "تذكر" : أتذكرها / وأحن إلى الخبز الذي أكلت منه العصفورة" [ص: 34]، وكذلك الأمر بالنسبة (لقصصه) التالية: "غزل أبيض ـ احتضان مقدس ـ صمت ـ رُميت من مرتفع ـ ومقابلة".

2 ـ فضاء:
تنوف المجموعة على مائة قصّةٍ، دبّجها القاصّ ـ كما ذكر في مقدمة مجموعته ـ على مدى ثلاث سنوات، في أوقات، ومناسبات مختلفة، وهذا كثير على نحو ما، القاصّ كان بإمكانه أن يستقرَ على نصف هذا الرقم، كانت قصصه ستكون أنضج وأسبك وأمتن، أقصد تلك القصص الّتي لم تسلم من بعض المثالب والمآخذ والملاحظات والهِنات. ما تفتقر إليه قصص البطران بهذه الخصوص هو الفضاء الحكائيّ، وما يستتبعه من تقنيات قصصيّة، لعلّ السّرد الدراميّ يأتي ههنا على رأس القائمة.

6ـ العين الثالثة للقصة القصيرة جداً:

لن نغمط البطران حقّه ـ وهو المجتهد ـ إذا ما طالبناه بقراءات متأنيّة، ومعمّقة، في مختلف الأجناس الأدبيّة؛ لأنَّ كاتبَ القصّة القصيرة جدّاً مسرحيّ وروائيّ وشاعر وتشكيليّ وناثر وناقد على حدٍّ سواء، تسري فيه جيناتهم، إنّه العين الثالثة، الراصدة لِما تغافلت عن قوله مختلف الفنون والآداب، وهو عصارةُ فكر وخيال ورؤى وعوالم هؤلاء جميعاً، القصص الناجحة هي القصص الأقدر على انتزاع الدهشة، هي القصص الّتي تنأى بنفسها عن الاستسهال على اعتباره مقبرة القصّة القصيرة جدّاً، وهي القصص الّتي تنضوي شكلاً وجوهراً وتكنيكاً على عمقٍ حكائيٍّ واشتغالٍ لغويٍّ فريدين وخِصبين، وهو الأمر الّذي فعله البطران على سبيل المثال لا الحصر في القصص التالية:

1ـ وجهها مرآة:
"أنظر إلى صورتي في المرآة/ أراها/ أطيل النظر فيها/أركز/ أدقق النظر أكثر/ تزداد صورتها وضوحاً أمامي.! / أدير ظهري للمرآة / أرى صورتي في وجهها" [ص: 32].

2ـ عكس الموجة:
"هاتفته ذات يوم بلهجة حادّة
ردّ عليها بهدوء
برّرت قسوة لهجتها بأنها تحبّه
اكتفى برشّ ملابسه بعطرِ باريسيّ" [ص: 102].

3ـ ناهدات ديسمبر:
"صافحت يداه أوراق شجرة البرتقال، اهتزت الشجرة وتساقطت قطرات الندى، أراد أن يدفئ جسمه من برد ديسمبر فاحترق، تفحمت يداه واسود وجهه، تساقطت الأوراق، وأصدرت الأشجار حفيفها، ابتسمت ناهدات الصدر، وتمادى هو في سكره.!" [ص: 50].

ترصد تلك القصص ـ وبمهارة شديدة ـ حالات إنسانيّة شديدة الصدق، إنهّا قصصٌ خالية من الزوائد والحشو الوصفيّ والاستطرادات، ومستوفيّة لكلّ مقومات وعناصر القصّة القصيرة جدّاً، كالتكثيف والرمز والاقتصاد اللغويّ، ابتداءً مِنَ العنوان، مروراً بالمتن، وانتهاءً بالقفلة، الّتي اختصرت ـ بحسبنا ـ المفارقة والإدهاش في فنيّةٍ قصّصيّةٍ وحكائيّةٍ على حدٍّ سواء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها