ماهية الانفعال الجمالي وآلياته

في النقد التشكيلي

د. جمال العتّابي


لا تقتصر مهمة الناقد التشكيلي على التذوق ونقل أهداف الفنان وأشكاله من لغة الإيحاء إلى لغة الكلام، بل لا بُدّ من أن يكون قادراً على "التقويم"، والاصطفاء والاختيار حسب وجهة نظره، معنى ذلك أن تحليل العمل وتذوقه وفهم أهدافه، سيوصل الناقد إلى وجهة نظر عن هذا العمل مقارنة بغيره، وبالتالي سيضع هذا العمل في مكانه من إنتاج الفنان، وهنا ندخل في مرحلة جديدة مهمة لا بد من أن يتولاها الناقد، وهي تصنيف العمل الفني، بعد تقويمه، ووضعه في مكان محدد حسب اتجاه الفنان وتطوره.
 

ما هو النقد الفني؟ وما المعايير التي نعتمدها في تمييز النقد الجيد عن غيره؟ وما الدور الذي يؤديه النقد الفني في المجتمعات الإنسانية؟ وكيف تكون علاقته مع الفن التشكيلي ومع العلوم الإنسانية، كعلم الجمال، والاجتماع، ومع الفنون الأخرى، كالأدب والموسيقى؟ وما الطريقة التي يلجأ إليها الناقد في تحليل الأعمال الفنية، والوصول إلى تذوقها بشكل صحيح؟

أسئلة عديدة يطرحها البحث في هذا المجال، الإجابة عنها تدعو الناقد للذهاب إلى العوامل الذاتية المتعلقة بإمكانات المتلقي الثقافية، والتمرس على المشاهدة، أما الموضوعية منها، فتنحصر في مبادئ العمل الفني من وحدة عضوية، وتوازن، وتنوع.. إن معرفة ماهية الانفعال الجمالي وآلياته، ومعطياته النفسية، يستوجب الإشارة إلى التقبل الفني، الذي يتم عن طريق الإدراك، لا يمكن أن يكون سلبياً مقتصراً على التمتع بالوضوح الجمالي فحسب، ولكنه يستوجب وجوداً إدراكياً يرتبط مع الخبرات المعرفية، الحياتية التي اختارها وعي المتقبل في حياته الماضية، يصبح من الممكن في ضوء ذلك تعريف النقد الفني على أنه: فن الحكم على الأعمال الفنية، ودراستها، وتحليلها، يضاف إليه خبرة الناقد في مكامن الجودة، وبجوار ذلك ما يقدّمه المنتج نفسه في عملية الخلق الذي يتضمن عناصر التشكيل الفني، وبدوره تحقيق العلاقات الجمالية من خلال الشكل والمضمون.

لا يقف النقد الفني عند الحدود الأولى السلبية التي ترتبط بالتذوق، بل لا بُدّ من أن ينقل ما رآه بلغة عذبة وسليمة، تدهش القارئ وتسحره، وهنا يكمن الجانب الإيجابي في النقد؛ لأن المتلقي لا يجعل المتذوق ناقداً، لكن لا يمكن أن يكون الناقد قادراً على نقل خبرته وتذوقه، ومعرفته بكل ظروف هذا العمل إلى الجمهور، ما لم يكن قادراً على التذوق، ومن ثم تأتي مرحلة الشرح والتحليل للأشكال التي يتضمنها العمل الفني، التي ينحو الفنان باتجاهها، والمضمون الذي يسعى لبلوغه عن طريق هذه الأشكال.

الناقد وفق هذا السياق.. صلة وصل بين اللوحة من طرف، وبين الجمهور من طرف آخر، هكذا إذنْ، لا يمكننا أن نحوّل أي عمل فني إلى فعل مؤثر، إلا بإحياء إمكانية الرؤية التي كانت في حالة كمون، مثلما توقظ الشمس المشرقة كامل المشهد المنظور، لهذا لا بُدّ من أن يمتلك الناقد المقدرة على تحليل اللوحة، وفهم مدى اعتماد الفنان على أسلوب ما ليعبر عن مضمونه، لذلك تتشعب مهمته وتتداخل لتصل إلى حدود تطور الأشكال الفنية عبر التاريخ.

تبدأ المهمة من نقطة التذوق التي تعتمد في أبسط مراحلها على "التعاطف" مع العمل الفني الجيد القائم على صيغة شكلية مثيرة أو معبرة، أو رؤية فكرية وفلسفية ما، أما العناصر الأخرى في إنشاء العمل فهي الخط، واللون، وتتجلى قدرة الرسام في إمكانياته العالية على التخطيط، وهذا هو السبب الرئيس الذي يدعو طلبة الفنون التشكيلية إلى التمرين المستمر على التخطيط، كي يصل الفنان منهم إلى امتلاك ناصية التعبير عن موضوعاته.

وحين نتحدث عن هذه العناصر لا بد من الإشارة إلى الظل، ونظام توزيع الإضاءة، ثم يأتي اللون ليؤكد الرسام قدرته على انتزاع إعجاب المتلقي، وثمة أمثلة يقدمها فنانون عالميون تكشف عن تفردهم في الأداء والمهارات؛ إذ يتقدم (بيكاسو) على زملائه في التخطيط، وألوان العالم الداخلي (لفان كوخ)، وعن تنظيم اللون عند (ماتيس) ليمنح الفرح والمتعة.

ونستطيع أن نذكر هنا تجربة (الانطباعيين) كمثل لمحاولة الاعتماد على اللون ودرجات الإضاءة فيه كوسيلة للتعبير.

واختلف تعريف المضمون عن النقاد، وتبدل، ويختلف كذلك عند فنان وآخر، ليس له معنى واحد، قد يكون شكلياً، أو حركة تعبيرية ولونية تجريدية، وقد يكون آيديولوجياً يرتبط بموقف الفنان، وهنا يرتبط بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والجوانب الإنسانية، فحينما لجأ الرسام الإسباني (غويا 1746 - 1828) إلى تشويه صور العائلة المالكة، لم يكن ذلك إلا لموقفه الاحتجاجي ضد الطبقات الحاكمة، على الرغم من كونه رسام البلاط الملكي.. لم يكن التشويه بحثاً شكلياً.

ويتحدد تقسيم المدارس والاتجاهات حسب مضمون العمل الفني، ورؤى الفنان، لكن ما يسهم في توضيح الانتماء لأسلوب أو تيار فني تحدده "المرحلة التاريخية" التي يعاصرها الفنان، فالإطار التاريخي الذي ينتج فيه العمل، يعكس تصورات العصر، ولكل عصر لغته وأفكاره وقيمه وأساليبه، غاية الناقد أن يكشف عن العلاقة بين هذه العناصر، ليصل إلى صياغة تحديد معنى المرحلة، الكاتب (هربرت ريد) في كتابه "معنى الفن"، يلجأ إلى تحليل كل مرحلة تاريخية، أو حضارة ليستخلص من دراسته معنى الظاهرة أو المرحلة، وهدفها الرئيس، وهكذا يتجه النقد إلى التحليل، والبحث عن المعاني الشاملة في العمل الفني كهدف له وساحة اشتغال، يحدد الناقد منهجيته لإنتاج ما يوازي المنتج الفني، هادفاً إلى بناء علاقة متينة مع المتلقي من جهة، وربط أبعاد العمل الفني بتوجهات المتلقي لتحقيق مستويات من الاستجابة المعتمدة على حياء التصورات، أو فتح باب الأبواب التخيلية والمعرفية، سواء على مستوى الإنجاز، أو ما يعقب هذا الإنتاج من هالات ونتائج.

ورغم عدم التفريط بالعلاقة الجدلية بين العمل الفني، ومراميه المعرفية والماورائية، إلا أن الناقد يميز مرحلياً على الأقل فيما بينهما، وقد يدرس أحد التوجهين على حساب الآخر.

وباختصار؛ يمكن القول إن النقد هو الوسيلة التي تقرّب بين العمل الفني والمتلقي، وفي الوقت ذاته نتساءل: هل يحق للناقد أن يوجّه الفنان؟

تبدو الإجابة على هذا السؤال قطعية برأي (هربرت ريد)؛ إذ يؤكد بالقول: إذا قلنا للفنان ما يجب أن يفعله من وجهة نظرنا، لم يعد الفنان فناناً، ولا اللوحة لوحته، الفن الحقيقي برأي أحد النقاد هو الذي يصنعه الفنان، سواء كان جميلاً أم غير جميل، فهذا الأمر يخص الفنان وحده، أبعد من ذلك يقول أندريه بروتون: إن قراءة اللوحة يجب أن تبدأ من وراء اللوحة، وليس من شكلها ولونها، وتقنياتها، المهم هي الرؤية الميتافيزيقية للعمل الفني.

يقول الفيلسوف كانط: الجمال الطبيعي شيء جميل، أما الجمال الفني فهو تمثيل جميل لشيء ما، ليس بالضرورة أن يكون جميلاً، تماماً مثلما فعل بيكاسو في لوحته "العوراء"، وكما فعل فان كوخ في لوحته "حذاء فان كوخ"، ورمبرانت في لوحته "الخروف المذبوح".

هذا يعني أن مهمة الناقد تقتضي التركيز على جوهر العمل، وليس شكله الخارجي، الفن على هذا الأساس عالم غامض، غني متجدد، مختلف عند فنان لآخر، مرتبط بالجمال، والوجدان، وبالعمل والأداة، ومرتبط بالطبيعة، وهو تعبير عن المشاعر، وقد يكون اكتشافاً، وشكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي وأثراً مهماً من آثاره، ومظهراً من مظاهر الوعي الإنساني للجماعة، وما الناقد إلا الوسيط الذي يقرّب هذه المفاهيم، يقدمها بوضوح، وبفهم عميق لدور الفن في الحياة والمجتمع.

من هنا نجد أن الفن لا يمكن أن يعرّف، هو ليس وسيلة إيضاح، ذلك أنه ينتمي إلى الإنسان ويجري في نسوغ الحياة، العين هي التي تأمر، لكنها ليست العين التي ترى السطح الخارجي للوجوه والأشياء، بل إنها العدسة النفاذة التي تستطيع أن ترى ما خلف الخطوط، ذلك لأن الحياة في نظر المبدع، ليست حمقاء إلى الحد الذي تبدو فيه "حقيقية" منذ الوهلة الأولى، بل إنها مليئة بالرموز والألغاز التي تتطلب معالجتها من قبل الناقد، قدرة حلمية وتنبؤية لا حدود لها.

لقد كان الإمام عُمر السهروردي سابقاً لهذه النظرات التأملية؛ إذ قال قبل قرون:
الناس يقولون، افتحوا أعينكم وابصروا، وأنا أقول: أغمضوا أعينكم وابصروا، فالفنانون العظام كلهم نظّارةٌ، والنظر في أعمالهم كرؤية الأحلام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها