الشر الاصطناعي

بقلم: يورج نولر Jörg Noller

ترجمة: شيرين ماهر

مثل ردود الأفعال المادية والملموسة يمكنها أن تكون كذلك "الأفعال الرقمية"؛ سواء محمودة أو مكروهة من الناحية الأخلاقية... يشرح الفيلسوف يورغ نولر، الباحث في نظريات وفلسفة الحريات، ما يعنيه مفهوم "الشر الاصطناعي" الذي ظهر بالتبعية مع اقتحام "الرقمنة" أغلب مناحي الحياة، وذلك بالوقوف على ثلاثة مجالات رئيسة للحياة الرقمية في حياتنا: الإنترنت، ألعاب الكمبيوتر، والذكاء الاصطناعي.


تؤثر الرقمنة على حياتنا اليومية أكثر فأكثر وتصبح جزءًا طبيعيًا من بيئتنا المعيشية. الأمر الذي يعني المزيد من التداول والاشتباك مع وسائل الإعلام الرقمية. ومع غلبة وانتشار التقنيات الرقمية، أصبحت أفعالنا الرقمية، تدريجياً، مجرد حيل أو محاكاة نمارس بها الواقع عن بُعد، لكنها في النهاية راحت تقترب من الإجراءات الواقعية التي صار لها عواقب حقيقية. وانطلاقاً من ذلك، فلا يمكن أن تكون أفعالنا الرقمية، مثل نظيراتها المادية، جيدة من الناحية الأخلاقية فحسب، بل يمكنها أيضًا أن تكون شريرة.. ولكن هل الشر الرقمي يحمل اختلافاً جوهرياً عن الشر الواقعي؟ وما هو "الشر الاصطناعي"؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا إلقاء نظرة فاحصة على ثلاث ظواهر رئيسة للرقمنة- الإنترنت والذكاء الاصطناعي، وألعاب الكمبيوتر - ودراسة كيفية ارتباط بعضها ببعض.

عَرّف الفيلسوف البريطاني، لوتشيانو فلوريدي، في كتابه الصادر عام 2013 بعنوان "أخلاقيات المعلومات"، مصطلح "الشر الاصطناعي" بأنه: شكل ثالث من أشكال الشر، بخلاف الشرور الطبيعية؛ مثل المرض والكوارث الطبيعية، والشرور المعنوية والأخلاقية؛ مثل التعذيب والقتل. يميز فلوريدي بين الجهات الفاعلة المستقلة الطبيعية؛ مثل البشر والحيوانات، والجهات الفاعلة غير المتجانسة الطبيعية؛ مثل الزلازل، والجهات الفاعلة غير المتجانسة الاصطناعية؛ مثل التلوث والازدحام المروري. وأخيرًا تلك الجهات الفاعلة المستقلة الاصطناعية؛ مثل الروبوتات والفيروسات التي تهمنا، بشكل خاص، في عصرنا الرقمي. من السمات الخاصة للشر الاصطناعي أنه لم يعد يقترن جسديًا بشخص معين. وبمجرد وضعه في العالم الافتراضي، ينفصل عن منشأه الأول ويطور زخمًا خاصًا به لا يمكن التنبؤ به أو التحكم فيه.

ووفقًا لـ"فلوريدي"، علينا أن نأخذ هذه الظواهر الاصطناعية الجديدة ومصادر الشر الرقمي المتعددة على محمل الجد، لأنها ستكتسب، في المستقبل، المزيد والمزيد من الأهمية داخل بيئتنا المعيشة مع تقدم الرقمنة. فإذا أردنا تحديد ماهية الشر الاصطناعي بالضبط والوقوف على كيفية تأثيره على بيئتنا المعيشية الرقمية، فعلينا أن نميز، بشكل صارم وواضح، ما بين مجموعة من المفاهيم، ألا وهي؛ الواقع والمحاكاة، الوهم والافتراضية. هذه المفاهيم الأربعة تتداخل في سياق معقد في العالم الرقمي ويمكنها أن تصنع شروراً رقمية لا يمكن السيطرة عليها. ربما اعتبرنا، بسذاجة، أن الشر في العصر الرقمي ما هو إلا "شر افتراضي". ولكن هذا لا يعني هنا أن الشر مجرد "محاكاة" أو وسيلة للتحايل على الواقع. وإنما هو حقيقي تمامًا مثل أفعال الشر المادية الملموسة التي نواجهها تلقائياً في الحياة اليومية، بل الأخطر في الشر الافتراضي أنه لم يعد مرتبطًا بالمكان والزمان والأشخاص ولا يمكن تحجيمه أو وضع حدود له.

وإذا اعتبرنا الإنترنت ليس مجرد وسيلة معلومات، ولكنه أيضاً مساحة افتراضية للعمل، سنجد أن الأفعال الشريرة تحدث فيه بشكل غير محسوس ومجهول، على حد سواء، الأمر الذي يتماشى، إلى حد كبير، مع الطابع الظاهري للشر. غالبًا ما تكون نقرة واحدة من "الماوس" كافية لارتكاب شر افتراضي.. لكن كيف يمكن أن يكون الإنترنت "شريرًا" إلى هذا الحد؟! الحقيقة أن الإنترنت لا ينسى أبدًا. وربما كانت هذه السمة مصدر شراسة شروره. وعلى سبيل المثال، الادعاءات، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، بمجرد وضعها في العالم الافتراضي لا تختفي ببساطة؛ وإنما يجري أرشفتها وحفظها ومعالجتها بطريقة حسابية معقدة، وكذلك مشاركتها فيروسيًا في كثير من الحالات. وبالتالي يجري تعزيز وجودها وإبقائها على قيد الحياة لفترات لانهائية. يمكن تسريب عبارات ومقالات "السب والقذف والتشهير" إلى الإنترنت، بحيث تترك آثارًا لا تُمحى ويوصَم ضحاياها، بشكل دائم، وبصورة لا يمكنهم الهرب منها. والواقع أن الطبيعة اللاّمركزية للإنترنت لا تسمح للشر الافتراضي فقط بالقدرة على التمويه، بل أيضًا التهرب منه عن طريق محو آثار منشأه. لقد أصبحت المجهولية أو عدم الكشف عن الأسماء المستعارة طريقة جديدة للحياة في الفضاء الافتراضي والعمل على الإنترنت، ولكنهما يمثلان أيضًا خطرًا جديدًا يُصعِب مهمة تَتبُع الأفعال الرقمية المُسيئة ومعرفة مرتكبوها. وكأننا نبارز المجهول، بينما نادرًا ما تُنشَر الرسائل المجهولة إلى المحرر أو المساهمات غير المعروفة في وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف. أما الإنترنت، فلا يعرف مثل هذه السيطرة، لأنها تمثل شكلاً جديدًا تمامًا من الدعاية. من حيث المبدأ، يمكن للجميع التعبير عن رأيهم على الإنترنت، سواء كان ذلك على المنصات الاجتماعية أو عبر المدونات الخاصة. وبالتالي؛ فإن عدم الكشف عن هويتهم هي مسألة متناقضة، خاصة على الإنترنت. من ناحية، يكفل لنا ذلك حرية التعبير. ولكنه من ناحية أخرى، يجعل من الممكن نشر أخبار مزيفة ومضللة، أو معلومات كاذبة مُوجهَة داخل العالم الرقمي، حيث يمكن أن تُنشَر بشكل عشوائي وبلا هدف. وبمجرد إطلاق هذه المعلومات في الفضاء الرقمي، بغض النظر عن مصداقيتها، يمكن نسخ المعلومات ومشاركتها بحرية حتى تنتشر كالنار في الهشيم. ولكن على عكس حرائق الغابات، التي تنتهي بإخمادها في النهاية، بينما لا تزال الأخبار المزيفة تطارد الإنترنت باعتبارها حريقًا افتراضيًا في الهشيم البشري حتى بعد مضي فترات طويلة جداً. وبنظرة أكثر عمقاً، يمكننا إدراك أن الشر الافتراضي أصبح يمثل عامل خطورة يحد ويُقلِص من مساحة العمل الافتراضية بل ويضيقها.
 

الفضاء الرئيسي الثاني في العالم الرقمي، يتمثل في ألعاب الكمبيوتر. ولكن إلى أي مدى يمكن تسمية محاكاة قتل الأشخاص في ألعاب الكمبيوتر بـ"الشر" إذا لم يُصَب أحد بأذى؟ فيما يتعلق بألعاب الكمبيوتر، يمكن التحدث عما يُعرَف بـ"المحاكاة" و"الشر الوهمي". كذلك لا يجب الخلط بين هذا الشكل من الشر والشر الحقيقي، لأنه لا يسبب معاناة حقيقية لأي شخص في الواقع. وعلى الرغم من ذلك، لا يتخفف هنا "شر" الألعاب الإلكترونية من المسؤولية الأخلاقية. فلا يزال الشر المُحاكَى "إلكترونياً" يبدو شريرًا بطريقة معينة؛ لأنه يُظهِر على الأقل نية شريرة مبدئية ويجسد جاهزية فعلية لممارسة الأفعال الشريرة. وهنا يجب التفريق بين "محاكاة الشر الاصطناعي" و"الشر الوهمي". فعلى عكس الشر الوهمي، الذي يظهر في الروايات أو الأفلام، يكون الحال في ألعاب الكمبيوتر، حيث إننا لا "نقرأ" أو "نلاحظ" الشر فحسب، بل ننفذه في الواقع عن طريق محاكاته وفهمه رقميًا. ومن ثمة، سوف يصبح الواقع الافتراضي أكثر ضبابية "أخلاقياً".

كذلك تتفاقم مشكلة الشر الاصطناعي بسبب التطورات الحديثة والمتلاحقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي والشبكات العصبية الاصطناعية الخاصة بعمليات التعلم الذاتي (التعلم العميق)، وهي المنطقة الرئيسة الثالثة في العالم الرقمي. فعلى سبيل المثال، يمكن التلاعب بالصور أو مقاطع الفيديو للأفراد على الإنترنت باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي بطريقة لا يمكن التعرف عليها واكتشاف أنها مزيفة، بل تبدو حقيقية بشكل مُخادِع. كذلك تشير ظاهرة ما يسمى بـ"التزييف العميق" إلى أن الشر الاصطناعي يمكنه أن يخلق حياة خاصة به، ليس فقط بواسطة الخداع البصري، ولكن أيضًا بواسطة قدرته على تطوير أداء الذكاء الاصطناعي ذاته من خلال التنوع والتغيير المستمر في المدخلات، ليصبح هذا "الشر" نتاجًا للصدفة، وبمجرد أن يبدأ في الحركة، يتحرر من كل سيطرة من خلال الآليات الغامضة والخوارزميات المُعدَلة تكنولوجياً فيما يخص عمليات "التعلم العميق". ووفق هذه الآلية، تسمح الخوارزميات بأن يتم اختزالنا إلى مجرد كائنات بيانية ومدخلات بيانات لا أكثر، فلا نزيد عن مجرد أشياء ذات أهمية تجارية وأرقام ذات دلالة اصطناعية، فيما تخلق فقاعات الفلترة الرقمية وهم وخداع الحقائق الموضوعية، لكنها ترسل لنا فقط المعلومات التي قد تهمنا من أجل تعظيم المكاسب والأرباح. كل هذا تسبب في أن يصبح التقييم الذاتي النقدي وكذلك التقييم من قبل الآخرين أمراً "مستحيلًا" من الناحية الهيكلية، ليصبح التمييز بين الوهم والخيال والواقع غير واضح على الإطلاق.

وبعد كل هذه الشرور الاصطناعية، ألا يزال هناك مساحة لوجه مضاد؟ وكيف يمكننا تجنب الشر الرقمي ومواجهته بالخير الرقمي، إذا جاز التعبير؟ تعتبر الوسائط الرقمية الجديدة مثل الإنترنت وألعاب الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي محايدة أخلاقياً، في حد ذاتها، وإنما يعتمد الأمر على استخدامنا سواء كانت تؤدي إلى الخير أو الشر الرقمي، بينما يطمس الشر الرقمي التمييز بين الوهم والواقع، وبالتالي يقيد مساحة العمل الافتراضية لدينا، بينما قد يؤدي الخير الرقمي إلى توسيع مفهومنا الواقعي للعالم الافتراضي، وبالتالي زيادة حريتنا نوعياً. ومن الأمثلة على ذلك أنظمة المعلومات والمعرفة المجانية مثل ويكيبيديا، والتي تسمح بشكل مثالي بتوليد المعرفة وانتقادها ونشرها بشكل جماعي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها