مَسْجدُ نَمِرَة.. صَرْحٌ مِعماري يَرْوِي قِصَّةَ الحَجِّ

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب


يُعدّ مسجد نَمِرَة في مشعر عرفات أحد أبرز المعالم الدينية المرتبطة بمناسك الحج، لما يحمله من دلالاتٍ شعائرية وتاريخية عميقة. فقد شهد هذا الموضع الخطبة النبوية الجامعة في حجة الوداع، التي مثّلتْ إعلانًا لاكتمال الرسالة الإسلامية، وترسيخًا لمبادئها الكبرى. ومنذ ذلك الحين، أضحى المسجد محطة مركزية في شعائر يوم عرفة، حيث يُلقي الخطيب خطبة الحج وتُقام الصلاة الجامعة. إن دراسة مسجد نَمِرَة ليست فقط قراءة في هندسة معمارية أو توثيقًا لمعلم ديني، بل هي محاولة لفهم البعد الشعائري لهذا المكان، وتأثيره الرمزي في ذاكرة المسلمين.

 

الموقع: يقع مسجد نَمِرَة في الجهة الغربية من مشعر عرفات، عند الحدود الفاصلة بين عرفات ووادي عُرَنَة، حيث يمتد جزؤه الغربي داخل هذا الوادي الذي يُعد أحد أودية مكة المكرمة. وقد سُمِّي المسجد نسبة إلى جبل نَمِرَة، واسم "نَمِرَة" معروف منذ العصر الجاهلي، كما أشار المستشرق البريطاني المسلم سانت جون فيليبي St. John Phillby إلى أن المسجد يقع في المساحة الفاصلة بين منى وعرفات1. وقد ارتبط المسجد تاريخيًّا بعدة أسماء، منها: مسجد إبراهيم الخليل، نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي ورد أنه نزل ذلك الموضع وصلّى فيه قبل بناء المسجد، وكذلك مسجد عرفة، لاقترابه من حدود عرفات، وهو يبعد عن المسجد الحرام نحو 22 كلم2.

وقد شُيِّد المسجد بحيث يقع جزء منه داخل حدود عرفة، والجزء الآخر خارجها، وهو ما يجعل تنبيه الحجاج إلى الصلاة داخل حدود عرفة أمرًا ضروريًا يوم التاسع من ذي الحجة عند أداء صلاتي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا. ويكتسب الموقع المعماري للمسجد أهمية فقهية خاصة، إذْ إنّ وادي عُرَنَة لا يُعد شرعًا من عرفات، مما يشترط على الحاج الوقوف داخل حدود المشعر لضمان صحة الحج3.

 

الأهمية الدينية والحضارية للمسجد

يحمل مسجد نَمِرَة أهمية دينية وتاريخية استثنائية؛ إذْ يُعدّ من أبرز المعالم المرتبطة بركن الحج الأعظم، مشهد الوقوف بعرفة، حيث تتجلّى ذروة الشعائر الإسلامية. وتنبع مكانته من وقوف النبي محمد صلى الله عليه وسلم في موضعه خلال حجة الوداع، حين ألقى خطبته الشهيرة التي أعلنت إتمام الرسالة، وأرست المبادئ الكبرى للإسلام، كحرمة الدماء، والمساواة، وحقوق الإنسان، ووصية النساء، لتصبح تلك اللحظة محطة مفصلية في تاريخ الدين الإسلامي. ومنذ ذلك اليوم، بات مسجد نَمِرَة منبرًا سنويًا تُلقى منه خطبة يوم عرفة، المعروفة بخطبة الإسلام الكبرى، التي تشكّل تجديدًا للميثاق الأخلاقي والروحي للأمة الإسلامية. وعلى مرّ العصور، ظلّ المسجد رمزًا حيًّا للتواصل بين الماضي النبوي والحاضر المعاصر، وذاكرة متقدة تختزل اللحظة التأسيسية الكبرى في الإسلام، التي تتكرّر كل عام، وتستنهض مشاعر ملايين المسلمين حول العالم.

البعد الروحي والوجداني للمسجد

يُعدّ مسجد نَمِرَة أحد أبرز المعالم الروحية في مشعر عرفات؛ إذْ لا يمكن الحديث عنه دون استحضار البُعد الإيماني العميق الذي يعيشه الحجاج فيه، حيث تمتزج مشاعر الخشوع بالتأمل، وتنساب الدموع مع الدعاء في فضاء يتّسع لآلاف القلوب المتلهفة إلى الرحمة والمغفرة. فمنذ أن يطأ الحاج أرض عرفات، يلتقي أولاً بمسجد نَمِرَة، ليكون بوابة الدخول إلى أعظم يوم في السنة، يوم عرفة. وتعود قدسية هذا الموضع إلى ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حديثه الشهير في صحيح مسلم، حيث وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه أمر بنصب قبة من شعر له بنَمِرَة، فمكث بها حتى زاغت الشمس، ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس، وأدى صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً. واليوم، يقوم مسجد نَمِرَة على الموضع نفسه الذي نُصبت فيه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليغدو محطة روحانية للحجيج، يغتسلون فيه استعداداً للوقوف بعرفة، ويؤدون فيه صلاتي الظهر والعصر إذا تيسّر لهم ذلك، وإن صادف يوم عرفة يوم جمعة، شُرعت فيه خطبة الجمعة وشهدها من استطاع من الحجاج، ليبقى المسجد شاهداً حياً على سُنّة نبوية تتكرر كل عام في أعظم أيام الدهر4.

تاريخ عمارة المسجد

يُظهر عمارة مسجد نَمِرَة تطورًا مستمرًا يعكس الاهتمام البالغ به عبر العصور. ورغم أن المسجد في شكله الحالي لم يُبنَ في عهد النبي، إلا أن الموقع ظل ذا دلالة رمزية كبيرة، ويرجح المؤرخون أن المسجد تم تشييده في العصر العباسي في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور في الموضع الذي خطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع5، وشهد المسجد العديد من التوسعات والإصلاحات؛ فقد أولى سلاطين المسلمين اهتمامًا خاصًا بتطوير المسجد، فقد تم توسيعه وتجميله عبر العصور، ومن أبرز أعمال الترميم في العصر المملوكي كانت تلك التي قام بها الجواد الأصفهاني عام 559ه، ثم تجديده في عهد الملك المظفر سيف الدين قطز عام 843ه، وأيضًا في عهد السلطان قايتباي عام 884ه، والتي تعتبر من أعظم مآثره في الحرمين الشريفين؛ حيث قام بتوسعته وأحدث ظلة كبيرة بمقدم المسجد تقي المصلين والحجاج من حرارة الشمس6.

كما تم تجديد المسجد خلال العصر العثماني في عهد السلطان مراد الثالث ابن سليم الثاني، إلا أن المساحة لم تكن تكفي لاستيعاب أعداد المصلين المتزايدة مع مرور الزمن. لكن التوسعة الكبرى كانت في العهد السعودي، منذ عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، حيث تم إجراء توسيعات ضخمة، جعلت المسجد قادرًا على استيعاب أكثر من 350 ألف مصلٍ، هذه التوسيعات العظيمة جعلت المسجد واحدًا من أكبر المساجد في العالم من حيث القدرة الاستيعابية، وثاني أكبر مسجد مساحة في مكة المكرمة، وهو يشهد عامًا بعد عام على عناية المملكة بقيادتها الرشيدة بالمواقع المقدسة. ويُعد اليوم المسجد من أبرز المعالم الإسلامية التي تعكس اهتمام المملكة العربية السعودية بمواقع الحج والعمرة7.
 

روعة التصميم وعظمة البناء في مسجد نَمِرَة

تتميّز عمارة مسجد نَمِرَة بطراز معماري يجمع بين البساطة الوظيفية والعظمة الروحانية، وقد تطوّر بناؤه على مر العصور ليواكب احتياجات الحجيج المتزايدة، محافظًا في الوقت ذاته على رمزيته التاريخية. في مراحله الأولى، اتسم المسجد بهيكل بسيط من المواد المتوفرة في البيئة المحلية، ثم شهد إضافات معمارية متميزة خلال العصور المملوكية والعثمانية، حيث أضيفت إليه عناصر تزيينية ومرافق خدمية مثل الأروقة والمآذن ودورات المياه. أما في التوسعة السعودية الحديثة، فقد تم اعتماد أسلوب معماري حديث يراعي الطابع الإسلامي، مع التركيز على توفير المساحات الواسعة والتهوية الطبيعية وتظليل الساحات الخارجية، إلى جانب استخدام الخرسانة المسلحة والرخام الفاخر في التشطيبات. يقع المسجد على قطعة أرض مستطيلة الشكل، يبلغ طولها من الشرق إلى الغرب 340 مترًا، وعرضها من الشمال إلى الجنوب 240 مترًا، ويمتد خلفه فضاء مظلل بمساحة 8 آلاف متر مربع، مما يسهم في استيعاب أعداد كبيرة من المصلين. كما يضم المسجد ست مآذن يبلغ ارتفاع كل منها 60 مترًا، مما يجعله من بين المساجد ذات المآذن الأعلى في العالم، بالإضافة إلى ثلاث قباب، وعشرة مداخل رئيسة، وكلها تساهم في تنظيم حركة الدخول والخروج بكفاءة عالية، ليعكس التصميم مزيجًا فريدًا من الروحانية والحداثة المعمارية.
 

وأخيرًا، يُجسّد مسجد نَمِرَة أحد أبرز المعالم الدينية في مشعر عرفات، بمكانته الفريدة المرتبطة بأعظم يوم في الإسلام، حيث يقف الحجيج بخشوع ليستمعوا إلى خطبة يوم عرفة، ويؤدوا الصلاة في مشهد مهيب يُلهِم القلوب ويعمّق الإيمان. وقد أولت المملكة العربية السعودية اهتمامًا بالغًا بهذا المسجد التاريخي، إدراكًا منها لأهميته الروحية وللدور المحوري الذي يؤديه ضمن مناسك الحج، فبادرت إلى تطويره وتوسعته وفق أعلى المعايير الهندسية والمعمارية، بما يحقق راحة ضيوف الرحمن ويعزز من تجربتهم الإيمانية. وبذلك، يظل مسجد نَمِرَة شاهدًا حيًا على عناية المملكة المستمرة بالمقدسات الإسلامية، وحرصها على خدمة الإسلام والمسلمين بكل تفانٍ واقتدار.

 


هوامش: 1. هاري جون فيلبي، حاج في الجزيرة العربية، ترجمة عبد القادر محمود عبد الله، ص: 32.2. حسين بن محمد سعيد المكي، إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري، ص: 2012.3. كاظم الخويلدي، المساجد والأماكن الأثرية في مكة المكرمة، ص: 23-24.4. محمد علي الهمشيري وآخرون، الحج والعمرة، ص: 80-84.5. حجاز ولايتي سالنامسي، ع2، 1885م، ص: 155.6. نور الدين علي بن أحمد السمهودي، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، ص: 234.7. سامي المغلوث، أطلس الحج والعمرة تاريخًا وفقهًا، ص: 67.
الفيديو: قناة العربية © Video 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها