مُسوخ سبهان آدم.. أبْطالٌ في مأساة الحياة

أمير الشلّي



تجنحُ الممارسات الفنيّة المعاصرة عن التّصوّرات الكلاسيكيّة، كما تتخلّى عن المعايير الجماليّة التي لا شأن لها سوى الحدّ من إبداع الفنّان والتّضييق على حريّته. لقد حوّل الفنّانون المعاصرون اهتمامهم إلى كلّ ما هو قبيح ومنفّر وصادم، متمرّدين على كلّ المقاربات الجماليّة والأخلاقيّة، مستكملين ما سارت عليه الفنون الحديثة بطريقة أكثر إسرافًا وجرأة. لقد أطلق الفنّانون العنان للأشكال والألوان عبر خلق أبجديّات تشكيليّة تقطع مع قوانين التّمثيل والمحاكاة وصياغة نظم تعبيريّة يصير فيها الجسد محرّفًا ومهجنًا، تنبثق من أعماقه صور فنيّة تعبّر عن مدى هشاشة الذّات الإنسانيّة، كاشفين عن آلامها وهواجسها ورغباتها. فلم يعد دور الفنّان منحصرًا في رسم ما تستحسنه أنفسنا وتستلطفه بصيرتنا، بل في إرباك حِسّنا من خلال تشكيل صور ينثر عليها نذر الإبداع والتّخيّل.
 

يعدّ الفنّان التّشكيليّ سبهان آدم من بين الرّسّامين العرب القلائل الّذين راهنوا على الصّور الملغزة الّتي تخترق نظم الواقع، غير مكتف بالمعطى الثّابت كيفما كان شكله، بل يعمل على المبالغة في تحويره مشكلاً شخوصًا غريبة ودميمة، أطلق عليها اسم "كائنات العزلة". وُلد الفنّان سبهان آدم في سوريا سنة 1972 بمدينة الحسكة، منحدرًا من عائلة فقيرة. لم يكمل سبهان تعليمه كما لم يتعلّم الرّسم في مدارس الفنون ولا على أيادي مختصّين، لقد آمن بموهبته فعلم نفسه بنفسه. بدأ سبهان آدم الرّسم في الحسكة، قبل أن يترك بيئته الفقيرة وينتقل إلى العاصمة دمشق الّتي عرض فيها أعماله للمرّة الأولى. وبفضل إصراره وعمله الدّؤوب والمتواصل، انفتحت له أبواب النّجاح على مصرعيها بعد رحلة طويلة مليئة بالمحن والصّعوبات. طافت لوحاته مختلف دول العالم من دمشق وبيروت والأردنّ إلى باريس وإسبانيا والولايات المتحدة. يُعدّ سبهان اليوم رائدًا في مجال الفنون التّشكيليّة في سوريا والوطن العربي. مسيرة ما زالت إلى اليوم مستمرّة لأكثر من أربعة عقود تلقى خلالها عديد الجوائز والأوسمة العربيّة والعالميّة.

يتميّز أسلوب سبهان آدم في الرّسم بالطّابع التّشخيصيّ، يجمع في لوحاته بين الخيال السّرياليّ المفارق للواقع والحسّ التّعبيريّ القائم على تكثيف الألوان والمبالغة في تحريف الأشكال. ما جعلها لوحات مثقلة بالمشاعر الّتي تطفوا خارج أسارير الوجوه وإيماءات الأجساد. تسكن لوحاته شخوص غارقة في العزلة يلفح محياها السّواد؛ وكأن الوجود انطفأ منه الضّياء وحل محله الظّلام. هي شخوص أشبه بوحوش بائسة ذات أجساد هزيلة أعياها الألم. بعضها يمتلك أفواهاً فاغرةً ووجوهاً منتفخةً، والبعض الآخر ينظرون إلينا بعيون رباعيّة وثلاثيّة، يطرأ على بعضها تحوّلات فتظهر في هيئة حشريّة ممسوخة، يجتمع في كنفها الحيوانيّ بالآدميّ. هي مسوخ سوداء مُتلحّفة بنقاب القبح والغموض والغرابة، تعكس أقصى درجات الكآبة والهذيان. يطلق الفنان العنان لخياله فيحرف في الجسد ويطمسه ويجعله مضاعفًا وملتويًا، يستعير من الحيوان والنّبات عناصر يؤلف فيما بينها ويقدّمها بصورة هجينة. هي شخوص تصل غرابتها إلى أقصى درجات القبح والنّشّاز.

أحياناً تكون متوحّشة فتبث فينا الخوف والجزع، وأحياناً تبدو أليفة بملامح بائسة فتجعلنا نشفق عليها. تشترك جميع هذه اللّوحات بألوانها السّوداويّة المتشائمة. يستخدم الفنّان ألواناً تُرابيّة قاتمة يحقّق من خلالها طابعًا دراميًا مُحوّلاً من خلالها مسوخه إلى أبطال في مأساة الحياة. يستوحي الفنّان إلهامه من العزلة، تأتي الشّخصيّات والوجوه التي يرسمها من وحدته. مؤكّدًا أنّ إبداعاته مرتبطة بـالألم والخوف والرّهاب الّذي يعاني منه. حسب الفنّان، لا يمكن أن يرسم الطّيور والزّهور، بينما يغرق واقعه في المرارة وبذلك تكون لوحاته ترجمة سرياليّة لحالة القلق التي يصطبغ به واقعه. يتخلّى الفنّان عن المنهج الذي يُحاكي الحقائق الموضعيّة فيقوم بإعادة تشكيل الواقع بحسب ما تمليه عليه عاطفته. وبذلك يدخل القبح إلى معالجته التّشكيليّة من خلال تشويه الأشكال، فالجسد المتغيّر والمخلوع والمشوّه يجسّد رؤيته المتشائمة.

عندما نتأمّل لوحات سبهان آدم الّتي رسمها في بداية مسيرته الفنّيّة، ونقارنها بالّتي رسمها حديثًا سنلحظ أنّ السّواد الذي كان مخيمًّا على لوحاته قد حلّت محله تلوينات مبهجة تملأها الحيويّة. أمّا شخوصه فقد غدت متزيّنة بثياب وإكسسوارات وكأنّها تبحث عن طريقة لتخفّف من آلامها. بهذا المنهج السّخيف في تمظهره والجادّ في طرحه يعبّر الفنان عن عجز الملابس المبهرجة والإكسسوارات البرّاقة عن إخفاء تمزّقات الذّات البشريّة. فمهما تبرّجت الوجوه وتزيّنت الأجساد، سيبقى العالم الدّاخليّ قبيحًا ومضطربًا في حالة من الآلام والصّراعات المتواصلة.

حسب سبهان آدم؛ لا يكمن دور الفنّان في تجميل الواقع بل في القدرة على التّعبير عنه بجماله وقبحه وجنونه وعبثيّته. ومن هذا المبدأ يروّج الفنّان للملتقي محاولاً إيقاظه من سباته جاعلاً إياه يرى دمامة الواقع حتّى وإن تطلب الأمر صدمه وتعنيف إحساسه.. وقد استخدم الفنّان الألوان والأشكال الاستعاريّة البشعة لتحقيق هذا الغرض. هي شخوص تعبّر عن روح الفنّان ونفسيّته، هي لوحات ليست موضوعيّة بل ذاتيّة فعندما يكون الفنّان حزينًا يغدو الوجود كلّه قاتمًا حتّى وإن كان في وضح النّهار. وهكذا فإنّ لوحاته ليست نقلاً وفيّاً للواقع الخارجيّ، بل هي إفراغ لشحنة الفنّان العاطفيّة المتولّدة عن سوداويّة الوجود من حوله.

 

Photos © Facebook.com/Sabhanadam

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها