انعكَسَ الثَّراءُ الحضاريُّ في عصورِ الازدهارِ الإسلاميِّ على الفِكرِ الإنسانيِّ لعلماءِ الأمَّةِ الأفذاذِ، والعالمُ اللغويُّ سيبويه (180هـ) أحدُ هؤلاء العلماء، فلم تَكُنْ رؤيتُهُ إلى اللغةِ شكليَّةً تكتفي بالوقوفِ على تحليلِ الأساليبِ اللغويَّةِ المُجَرَّدَةِ، بل كانَتْ رُؤيَةً عميقةً وشموليَّةً، فأفادَ مِن تقاطُعِ العُلومِ المعرفيَّةِ، فدَرَسَ طبيعةَ اللغةِ ووظائفَها وكلَّ ما يُحيطُ بها مِن مُلابساتٍ خارجيَّة، ولذلك يَجِدُ مُتعَلِّمُ اللغةِ العربيَّةِ بعضَ المُعضِلاتِ التي تَعتَرِضُ دراستَهُ، ابتداءً مِن الأحكامِ المقاميَّةِ والحاليَّةِ والسياقيَّةِ والذوقيَّة، وانتهاءً إلى كونِها لغةَ البيانِ والإعجازِ والفصاحةِ، وهذا ما يَجعَلُ الأمرَ أكثرَ صعوبةً، وقد فَطِنَ سيبويه إلى هذه الأمور، فمِن المسائلِ التي كان يراعيها سيبويه في كتابِهِ - خارجَ دائرةِ قوانينِ اللغةِ الشكليَّةِ - كلُّ ما يُؤَثِّرُ بالخِطابِ، ومِن ذلك غَرضُ المُتكلِّمِ، وعِلمُ المُخاطَب، ودلالةُ الحالِ، وسِعةُ الكلامِ، وطلبُ الخِفَّةِ، وإنَّ قارئَ كتابِ سيبويه يلاحظُ تكرارَ هذه الألفاظِ في تحليلِهِ أساليبَ العربِ، ومقاصدَهُم، وسَنَعرِضُ هذه المسائلَ بصورةٍ موجزةٍ، ونُمثِّلُ لها على النحو الآتي:
أولًا: غَرَضُ المُتكلِّم
وَضعَ سيبويه قاعدةً تركيبيَّةً في تقديمِ الألفاظِ وتأخيرِها في قولِه: "إنَّما يُقدِّمونَ الذي بيانُهُ أهمُّ لهم، وهم ببيانِهِ أعنَى"1، فالأمرُ يَرجعُ في ترتيبِ الألفاظِ إلى أهميَّتِها عندَ المتكلِّم، ويقدِّمُ عبدُ القاهرِ الجُرجانيُّ دراسةً تطبيقيَّةً على هذه القاعدةِ التركيبيَّةِ في تحليلِهِ الآيةَ القرآنيةَ الكريمةَ التي جاءتْ حكايةً عن قولِ المُشركينَ مِن قومِ إبراهيمَ عليه السلام: (أَأَنتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبراهيمُ)2، وفيها يُعلِّلُ تقديمَ الضميرِ (أنتَ) - الذي أفادَ التخصيصَ - على الفعلِ (فعلتَ) حيثُ قال: "لا شُبهَةَ في أنَّهم لم يقولوا ذلك لهُ - عليه السلامُ - وهم يُريدونَ أنْ يُقِرَّ لهم بأنَّ كَسْرَ الأصنامِ قد كان، ولكن بأنْ يُقرَّ بأنَّهُ مِنهُ كان"3.
ثانيًا: المخاطَب
إنَّ عِلمَ المخاطَبِ وجهلَهُ يُسهِمُ في تشكيلِ ألوانِ الخطابِ، وتَنَوُّعِ ضروبِهِ وأساليبِهِ، وعلى سبيلِ المثالِ ما أجازَهُ سيبويه في بابِ الإخبارِ بالنكرةِ عن النكرةِ عندَ حاجةِ المخاطَبِ إلى ذلك، فقال عن المثالِ الذي أجازَهُ وهو (ما كانَ أحدٌ خيرًا منك): "وإنَّما حَسُنَ الإخبارُ ههنا عن النكرةِ حيثُ أردتَ أنْ تَنفيَ أَنْ يكونَ في مثلِ حالِهِ شيءٌ أو فوقَهُ، ولأنَّ المُخاطَبَ قد يحتاجُ إلى أنْ تُعلِمَهُ مثلَ هذا"4، فكأنَّ سيبويه يجعَلُ عِلمَ المخاطَبِ وجهلَهُ قانونًا خاصًّا يُبيحُ للمُتكلِّمَ استعمالَ أمثلةٍ تُخالِفُ نِظامَ الكلامِ المألوفِ، ويَظهرُ ذلك أيضًا فيما يُطلِقُ عليه النحويُّونَ بابَ التنازع، "وهو قولُك: ضَربْتُ وضربني زيدٌ، وإنَّما كان الذي يليهِ أولى لقُربِ جوارِهِ، وأنَّهُ لا يَنقُضُ معنًى، وأنَّ المُخاطَبَ قد عَرَفَ أنَّ الأوَّلَ قد وَقَعَ بزيدٍ"5، ولهذا كان عِلمُ المُخاطَبِ وراءَ ظهورِ أساليبَ لغويَّةٍ، ومِن ذلك ما صَرَّحَ به سيبويه في تسميةِ أحدِ أبوابِ كتابِهِ حيثُ قال: "هذا بابٌ مِن الاستفهامِ يكونُ الاسمُ فيه رفعًا؛ لأنَّكَ تبتَدِئُهُ لتُنَبِّهَ المُخاطَبَ، ثُمَّ تَستَفهِمَ بعدَ ذلك، وذلك قولُكَ: زيدٌ كمْ مَرَّةً رَأَيْتَهُ، وعبدُاللهِ هلْ لَقِيتَهُ"6، فهو يُعَلِّلُ اختيارَ حركةِ الرفعِ للاسمِ مع الاستفهامِ بتنبيهِ المُخاطَبِ، فكأنَّ هذا التركيبَ اللغويَّ صورةٌ مِن صُورِ الالتفاتِ التي تكونُ تنبيهًا للمُخاطَبِ، وتنشيطًا لذهنِهِ، ولا شَكَّ في أنَّ ما ذَهَبَ إليهِ سيبويه تحليلٌ يشمَلُ أطرافَ الخِطابِ ومُؤثِّراتِهِ، والانتقالِ في هذا التحليلِ مِن اللغةِ في ذاتِها إلى ما وراءَها.
ثالثًا: دلالة الحال والمقام
قَرَنَ سيبويه الموقِفَ وحالَ المُتكلِّمِ بألفاظِهِ وما يَكتَنِفُ التركيبَ اللغويَّ للجُملِ، وما يَطرَأُ عليها مِن حذفٍ واختصارٍ وتأويل، ومِنها استدلالُهُ على جوازِ حذفِ الفعلِ عندَ دلالةِ الحالِ عليه في الأمرِ والنهي، "كقولِك: الأسدَ الأسدَ، والجِدارَ الجِدارَ، والصبيَّ الصبيَّ، وإنَّما نَهَيتَهُ أنْ يَقربَ الجِدارَ المَخوفَ المائل، أو يَقربَ الأسدَ، أو يُوطِئَ الصبيَّ"7، وحَسُنَ هنا إضمارُ الفعلِ؛ لأنَّهُ حَمَلَ معنى التحذيرِ، وكانت الحالُ دالَّةً عليه، وقد تظهَرُ دلالةُ الحالِ والمقامِ في غيرِ الأمرِ والنهي، قال سيبويه: "ولو رأيتَ ناسًا يَنظرونَ الهلالَ وأنتَ مِنهم بعيدٌ، فكَبَّروا، لقلتَ: الهلالَ وربِّ الكعبةِ، أي: أَبصَرُوا الهلالَ"8، وهو بهذا المثالِ يَجعَلُ رؤيةَ مشهدِ اجتماعِ الناسِ عندَ النظرِ إلى الهلالِ وهم يُكبِّرون دليلًا على الفعلِ المحذوف (أَبْصَرُوا) في تعليلِ نصبِ (الهلالَ) وفي موضعٍ آخرَ يُفرِّقُ بين الرفعِ والنصبِ مستعينًا بدلالةِ الحالِ والمقامِ في قولِهِ: "هذا بابٌ يُختارُ فيه الرفع، وذلك قولك: له عِلْمٌ عِلمُ الفُقهاء، وله رَأيٌ رأيُ الأُصلاءِ، وإنَّما كان الرفعُ في هذا الوجهِ لأنَّ هذه خِصالٌ تَذكُرُها في الرَّجل، كالحِلمِ والعقلِ والفَضْل، ولم تُرِدْ أنْ تُخبِرَ بأنَّكَ مَرَرْتَ برجلٍ في حالِ تَعَلُّمٍ ولا تَفهُّمٍ، ولكنَّكَ أردتَ أنْ تَذكرَ الرجلَ بفضلٍ فيه، وأنْ تَجعَلَ ذلك خِصلةً قد استَكمَلَها"9، فهو يرى الرفعَ في كلمة (علمُ الفقهاء، ورأيُ الأصلاء) دلالةً على الحالِ التي صارتْ ثابتةً كأنَّها صفةٌ ملازمةٌ لصاحبِها، وفي مُقابلِ حركةِ الرفعِ قال عن حركةِ النَّصبِ: "وإنْ شِئتَ نَصَبْتَ، فقلتَ: له علمٌ عِلمَ الفُقهاء، كأنَّكَ مررتَ به في حالِ تَعلُّمٍ وتَفقُّهٍ، وكأنَّهُ لم يَستكملْ أنْ يُقالَ له: عالمٌ"10، وهذه الفُروقُ الدلاليَّةِ التي أشارَ إليها سيبويه تكشفُ عن انتقالِهِ مِن التحليلِ اللغويِّ اللَّفظيِّ إلى ملابساتِ الخِطابِ الخارجيِّ وظروفِهِ وأحوالِهِ.
رابعًا: سعة الكلام
قَرَنَ سيبويه بينَ مصطلحِ سِعةِ الكلامِ بالاختصارِ والإيجازِ، وفي ذلك إشارةٌ إلى أمرَيْنِ: الأولُ ارتباطُ مصطلحِ سِعةِ الكلامِ بالحذفِ، والأمرُ الثاني ارتباطُ مصطلَحِ سِعةِ الكلامِ بالتنوُّعِ الاستعمالي للَّفظِ الواحدِ، وهو أنْ يُستَعْمَلَ اللفظُ على غيرِ ما وُضِعَ له؛ لأنَّ الشيءَ قد يَكونُ له أَصلٌ ثُمَّ يُتَّسَعُ فيهِ؛ أي: بخُروجِهِ عن هذا الأصلِ، وقد مَثَّلَ له سيبويه في أبوابٍ مُتفرِّقةٍ مِن الكتابِ، ومنها قولُهُ: "هذا بابُ ما يكونُ فيه المصدَرُ حِينًا لِسِعَةِ الكلامِ والاختصارِ، وذلك قولُكَ: متى سِيرَ عليهِ؟ فيقول: مَقْدَمَ الحاجِّ، وخُفوقَ النجمِ، وخِلافةَ فلانٍ، وصلاةَ العصرِ"11، فالمصادر التي في أمثلةِ سيبويه (مقدم، وخفوق، وخلافة، وغيرها) استُعمِلَتْ ظروفًا على تقديرِ: زَمَنَ مَقدَمِ الحاجِّ، وحينَ خُفوقِ النَّجمِ، وهذا الاتِّساعُ في الكلامِ كلُّهُ راجعٌ إلى عِلمِ المُخاطَبِ، قال سيبويه: "وإنَّما أَضمروا ما كان يَقَعُ مُظهَرًا استخفافًا، ولأنَّ المُخاطَبُ يعلَمُ ما تَعني"12، والذي يبدو مِن تحليلِ سيبويه لظاهرةِ الاتِّساعِ اللغويِّ في كلامِ العربِ ميلُهُم إلى الاقتصادِ في الكلامِ إذا عَلِمَ المُخاطَبُ مُرادَ المُتكلِّمِ، وكأنَّ نقيضَ هذا الاتّساعِ والاختصارِ فُضولٌ مِن الكلامِ، لا يُضيفُ شيئًا عندَ عِلمِ المُخاطَب.
خامسًا: طلب الخِفَّة
يشرحُ سيبويه شذوذَ بعضِ التراكيبِ اللغويَّةِ في كلامِ العربِ بنظرةٍ فاحصةٍ في قولِهِ: "فقد يشذُّ الشيءُ مِن كلامِهِم عن نظائرِهِ، ويستخفُّونَ الشيءَ في موضعٍ، ولا يَستخفُّونَهُ في غيرِهِ"13، وهو بهذا ينتقلُ مِن التحليلِ اللغويِّ الشكليِّ إلى تَتَبُّعِ الطابعِ الذوقيِّ في رَصفِ أبنيةِ اللغةِ عندَ العربِ، وإنَّ الميلَ إلى الخِفَّةِ في الكلامِ عن طريقِ الحذفِ سمةٌ ذوقيَّةٌ يَجنَحُ إليها اللسانُ العربيُّ في مواضعَ لا يختَلِفُ فيها المعنى، ومِن ذلك ما يراهُ سيبويه في استخفافِ الحَذفِ الذي لا يُفضي إلى اختلافٍ في المعنى، كحذفِ النونِ في قولِهِم: (لم يَكُ) وطلبُ الاستخفافِ عن طريقِ الحذفِ الذي لا يُغيِّرُ المعنى، يُبيحُهُ كثرةُ الاستعمالِ الذي هو أحدُ أسبابِ الحذفِ، ويظهَرُ الارتباطُ بينَ كثرةِ الاستعمالِ وطلبِ الخِفَّةِ جليًّا في اللغاتِ، واللهجاتِ القديمةِ، والمعاصرةِ، ولهذا كانتْ أَوْلَوِيَّةُ ألفاظِ الاستخفافِ فيما يَكثُرُ استعمالُهُ في الكلامِ، وقد صَرَّحَ بذلك سيبويه في قولِهِ: "لأنَّهُم إلى تخفيفِ ما أكثَرُوا استعمالَهُ أحوَج"14.
وبعدَ هذا العرضِ لأبرزِ مؤثِّراتِ الخِطابِ عندَ سيبويه، يتبيَّنُ أنَّ سيبويهِ كان على دِرايةٍ فيما يُحيطُ في البيئةِ اللغويَّةِ، فقد تَتَبَّعَ عناصرَ الخطابِ اللغويِّ مِن المتكلِّمِ والمُخاطَبِ والمقامِ والحالِ والمُحيطِ الاجتماعيِّ المُؤثِّرِ في الأساليبِ اللغويَّة، وجاء هذا كلُّهُ بعدَ الجهدِ العظيمِ في جمعِ شواهدَ مِن كلامِ العربِ، وتَتَبُّعِ الأمثلةِ الكثيرةِ التي في أساليبِهِم، فنَظَرَ إليها بعينٍ فاحصةٍ، وشَرَعَ يشرحُها ويُفسِّرُها غيرَ منعزلةٍ عن سياقِها، لذلك كان كتابُ سيبويهِ أنموذجًا للدرسِ الشموليِّ الذي فَتَحَ البابَ لِمَنْ جاءَ بعدَهُ في الدرسِ النحويِّ شرحًا وتعليقًا ونقلًا.
الهوامش: 1. الكتاب، تأليف أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المُلقَّب بسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، دار التاريخ، بيروت، الطبعة السادسة، الجزء الأول، صفحة: 56. ┃ 2. سورة الأنبياء: الآية 62. ┃ 3. دلائل الإعجاز، تأليف عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، جدة، الطبعة الثالثة 1992م، صفحة: 113. ┃ 4. الكتاب: 1/71. ┃ 5. الكتاب: 1/86. ┃ 6. الكتاب: 1/129. ┃ 7. الكتاب: 1/225. ┃ 8. الكتاب: 1/228. ┃ 9. الكتاب: 1/301-302. ┃ 10. الكتاب: 1/302. ┃ 11. الكتاب: 1/202. ┃ 12. الكتاب: 1/203. ┃ 13. الكتاب: 1/192. ┃ 14. الكتاب: 2/116.