تزخر مدينة الرباط المغربية، بعديد المآثر التاريخية التي تختصر تاريخ البلاد والحضارات التي تعاقبت عليها. فشالة، حاضرة فينيقية رومانية وإسلامية، يمتد تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد، وما زالت أسوارها وأبوابها وبقايا معالمها تقاوم الزمن، والمآثر الموحدية (سور المدينة العتيقة وأبوابها، وصومعة حسان..)، والمآثر العلوية (سور القصر الملكي، وضريح محمد الخامس..)، ناهيك عن التراث المعماري الكولونيالي الذي تحتضنه المدينة خصوصاً شارع محمد الخامس، حيث البرلمان وفندق ومقهى "باليما" الشهيرين.
فزيارة هاته الأماكن، هي رحلة في الزمن المغربي وصيرورته التاريخية، وذلك يقتضي من الزائر البحث عن راحة للنفس والعين، وذلك لن يجده إلا في قصبة الأوداية خصوصاً في مقهاها الموريسكي.
موقع استراتيجي وإطلالة متميزة
قصبة الأوداية، هي حصن استراتيجي للدفاع عن العدوتين وعن مصب أبي رقراق والمحيط، حملت اسم "قلعة تاركة" شيدها المرابطون، لمحاربة قبائل "برغواطة". وفي سنة 1150م، أمر السلطان عبد المؤمن بن علي (أول السلاطين الموحدين) ببناء قلعة على الضفة اليسرى لمصب وادي أبي رقراق، لشن حملات عسكرية ضد الإسبان، وأطلق عليها اسم "المهدية" تيمناً بالمهدي بن تومرت مؤسس الدول الموحدية، واتخذها عبد المؤمن داراً ومعسكراً، وبنى مسجدها وسمح للناس بالسكن فيها، وأجرى لها الماء من عين غـبولة.
كما سكنها "الموريسكيون" الذين جاؤوا من الأندلس في العهد السعدي، فأعادوا إليها الحياة من خلال إدخال النمط المورسكي على بعض المنشآت العمرانية بالقصبة، واتخذوها مقراً لدويلة أبي رقراق المعروفة. وفي العهد العلوي، أصبح اسم القصبة "الأوداية"، وتعدّ الأسوار الرشيدية والقصر الأميري، وكذلك منشآتها العسكرية كبرج الصقالة أهم ما يجسد الفترة العلوية الأولى داخل القصبة.
لكن نحن لسنا بصدد التعريف بالقصبة، بل جزء منها يدخل في نطاقها؛ إنه المقهى الموري أو الموريسكي، أو ما يعرف بمقهى الأوداية. فماذا عن هذا المقهى؟ وما خصوصياته ومميزاته؟
مقهى الأوداية، مقهى شعبي متواضع، أسس في عشرينيات القرن الماضي خلال فترة الاحتلال الفرنسي داخل الموقع الأثري لقصبة الأوداية، مطل على مصب نهر أبي رقراق حيث يعانق النهر البحر، ما جعل المقهى يكتسب شهرة واسعة لدى زوار المدينة من الأجانب والمحليين، ليصبح تراثاً تاريخياً للمدينة.
المقهى الموريسكي، هو مكان للتأمل والراحة، ولمعانقة البحر بإطلالته البانورامية على مصب أبي رقراق، حيث التقاء روافد النهر بأمواج المحيط الأطلسي، يزيده بهاء وجمالا نسيم الوادي والبحر الذي يبعث في النفس الراحة والاطمئنان والانتعاش. كما يمنح المقهى إطلالة على مدينة سَلا العتيقة وأسوارها، وصومعة حسان، ومعالم الرباط العصرية: برج محمد السادس والمسرح الكبير. كما تمكنك من مشاهدة القوارب التقليدية التي تنقل الناس بين ضفتي أبي رقراق، والتي يقبل عليهم سكان سلا العتيقة منذ سالف الأزمان، وما زالت تقاوم رغم توفر مختلف أنواع المواصلات، لتصبح جزءاً من تاريخ وذاكرة مصب نهر أبي رقراق والعدوتين.
مقهى بطابع تراثي
يحمل مقهى الأوداية في طياته وفي كل رقعة منه عبق التاريخ في تمظهراته المختلفة، فانطلاقاً من تواجده داخل موقع أثري، حيث الحضارة والتاريخ والآثار العمرانية التي تسافر بك عبر الزمن المغربي من العهد المرابطي ثم الموحدي، مروراً على الموريسكيين الذين استوطنوا القصبة، وجعلوها منطلقاً لنشاطهم البحري في مجال الجهاد البحري وصولا للدولة العلوية. فالوصول إلى المقهى الموريسكي بالأوداية يقتضي منك المرور عبر أزقة القصبة الملتوية، والحديقة الأندلسية المتميزة في شكلها وهندستها عن باقي حدائق المغرب.
ما يميز مقهى الأوداية، بساطته وتواضع محتوياته من سرايا وحصير قديم وكراسي وطاولات، كما أنه يعكس فن العيش التقليدي المغربي، فنادل المقهى يلبس زياً مغربياً تقليدياً، ومعروضاته عبارة عن كؤوس شاي بالنعناع توزع في صينية نحاسية، إضافة إلى مختلف أصناف وأنواع من الحلويات التقليدية المغربية المختلفة الأصيلة ككعب الغزال، يتم الاستمتاع بها مع نسمات رياح بحرية رائعة.
تشرف على المقهى وزارة الثقافة المغربية، باعتباره جزءاً من المآثر التاريخية لمدينة الرباط، كما يصنف تراثاً عالمياً من طرف منظمة اليونسكو منذ سنة 2012. وعرف المقهى عدة ترميمات وتحسينات عبر تاريخه، للحفاظ على طابعه وأصالته وتميزه ضمن مآثر مدينة الأنوار. وقد أثارت عملية الترميم الأخيرة في إطار تهيئة المدينة، والتي توقف على إثرها المقهى عن عمله لمدة سنة تقريباً، ليعيد فتح أبوابه في وجه زبنائه في 15 مايو 2021 الكثير من الجدل، بين من اعتبر الترميم أفقد المقهى الكثير من تفاصيله وذكرياته وخصوصياته، خصوصاً التخلي عن اللون الأزرق في محتوياته، والذي كان يمتزج مع زرقة البحر وزرقة السماء وتعويضه باللون الأبيض، وبين من اعتبر أن عملية الترميم أعادت المقهى إلى عهده الأول بناءً على دراسات أهل الاختصاص كالمؤرخين.
ختاماً، المقهى الموريسكي بقصبة الأوداية هو أكثر من مقهى؛ إنه جزء من تاريخ وذاكرة مدينة الرباط، حيث الموقع الاستراتيجي والإطلالة المتميزة والتصميم التراثي والعراقة التاريخية، حيث امتزاج الترفيهي بالسياحي بالتراثي، ما يجعل من هذا المقهى حلقة مهمة من حلقات السياحة التراثية بالمدينة، ويفرض على المسؤولين الاهتمام والمحافظة عليه وصيانته، والتعريف به وتنظيم الأنشطة الثقافية في فضاءاته تدعيماً لدوره السياحي.