فيم تفكرُ الحيوانات؟

د. فيصل أبو الطفيل



أصدر المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، كتاباً بعنوان: فيم تفكر الحيوانات؟ السلوكيات، الإدراك، والمشاعر (À quoi pensent les animaux ? Comportement, cognition, émotionsمن تأليف كلـود بودان (المتخصص في علم سلوك الحيوان).



وفي هذا الكتاب الفريد من نوعه، يضع المؤلف الخطوط الكبرى لما أسفرت عنه أبحاثه وتجارِبه في مجال دراسة طبائع الحيوانات وسلوكاتها وكيفيات اشتغال قدراتها الإدراكية، وذلك لفترة طويلة تمتد من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم.. حيث سعى إلى تجديد النظر على نحو مستمر في الأسئلة الحارقة التي شغلت هواجس علماء سلوك الحيوان.. ومن بين هذه الأسئلة: إلى أي حد تمكن الملاحظة المتأنية لسلوك الحيوانات من تزويدنا بمعلومات كافية عن قدراتها الإدراكية والعاطفية؟ ما التمثلات التي تكونها الحيوانات عن نفسها وعن الكائنات الأخرى المحيطة بها؟ ما طبيعة التبادلات القائمة بين الحيوانات في إطار المجموعات التي تنضوي تحتها؟ وأخيراً ما مدى جدوى الأسئلة التي تطرحها الإيتولوجيا (علم سلوك الحيوان) في تحديد موقع الإنسان ضمن الأنواع الأخرى وفي مقدمتها مملكة الحيوان؟

تولى التقديم للكتاب طبيب النفس الفرنسي بوريس سيرولنيك، الذي ركّز بالأساس على استئناف وضع التحولات التي شهدتها "سيكولوجيا الحيوان" في ستينيات القرن الماضي، ضمن بؤرة اهتمام الإيتولوجيا المعاصرة. وقد استفادت هذه الأخيرة كثيراً من البحث العلمي الدقيق والمتعمق، ومن صورتها الإيجابية التي شاعت لدى الجمهور الذي تضاعف فضوله، وازداد انشغاله بالتفاعلات القائمة بين الإنسان والحيوان.

شكلياً، يتألف الكتاب من أربعة فصول رئيسة، مذيّلة بخاتمة استعرض فيها الكاتب مجموعة من المعلومات، تجلي بعضاً من الغموض الذي يلف الأسئلة التي ما تزال قائمة، والتي تتناول على الخصوص التطورات المستقبلية للقدرات الإدراكية التي تمت ملاحظتها سابقاً عند الثدييات العليا (نوع من القردة). كما أن كل فصل يتناول بشيء من التفصيل عدداً من النقاط النظرية التي تم تدعيمها بتجارب ملموسة تؤكد صحة منطلقاتها. أما على مستوى المضمون فيتبنى الكتاب في مجمله فكرة مفادها أن "علماء سلوك الحيوان لا يملكون أجوبة شافية لكل الأسئلة التي طُرحت في الموضوع، ولكنهم يبذلون كل ما في وسعهم لإعادة طرحها بطريقة تمكنهم من الحصول على أجوبة دقيقة وفعّالة وعلى تفسيرات مقبولة في ضوء المعارف والمعلومات المتوفرة حالياً".

خُصص الفصل الأول من الكتاب لدراسة السلوكات الحيوانية انطلاقاً من الأبحاث التي قدمها كونراد لورنز بصدد ميكانيزمات مبدأ التطبع عند الطيور، وتلك التي أنجزها كارل فون فريش حول رقصة النحل الاهتزازية. ويعتبر هذان العالمان الحاصلان على جائزة نوبل رفقة نيكولاس تنبرغن سنة 1973 المؤسسين الأوائل لعلم سلوك الحيوان بوصفه حقلاً علمياً مستقلاً بذاته.

وهنا يمكن أن نميز بين اتجاهين: أحدهما يهدف إلى دراسة سلوك الأنواع في محيطها الطبيعي، بينما يفضل الاتجاه الثاني العمل في المختبر باعتباره مكاناً مؤهلاً لملاحظة عدد من الميكانيزمات التي يصعب تتبعها في الفضاء الطلق. فعلى سبيل المثال، يتولى فريق دولي منذ أكثر من عقدين من الزمن دراسة مجموعة من النموس الإفريقية (حيوانات السرقاط) في صحراء كالاهاري، حيث تسمها بعلامات تميزها بشكل فردي منذ ولادتها كما تتعقبها بواسطة جهاز تحديد المواقع GPS خلال تنقلاتها في الصحراء. ويركز الكاتب بشكل خاص على تقلّب السلوكات الفردية لهذه النموس داخل النوع نفسه. ويتم البحث في الأسباب الكامنة وراء هذه السلوكات لا من زاوية "الميكانزمات الفطرية" التي وضعها نيكولاس تنبرغن فحسب، بل أيضاً من جانب الهرمونات والناقلات العصبية التي بدأ علماء سلوك الحيوان في تعميق معرفتهم بها.

وكذا في دراسة الميكانزمات التطورية مع ظهور نظرية اختيار ذوي القرابة في تفسير السلوكات التي تتسم بإيثار الغير: فالنموس الإفريقية تعرض أنفسها للمزيد من المخاطر في سبيل حماية الأنثى المسيطرة، والتي يتوقف عليها أساساً بقاء الجماعة على قيد الحياة.

يتناول الفصل الثاني كيفية تفكير الحيوان، وهو ما يشكل -إلى جانب عنوان الكتاب- جوهر محتواه. ففي حالة عدم تعذر القيام بملاحظات مباشرة للميكانزمات الإدراكية عند الحيوانات، فبإمكاننا أن نستعير من علوم الأعصاب فحوصات تصوير الدماغ، أو تبني مقاربات سلوكية غير مباشرة. إذ يمكن مثلاً دراسة تمثلات الحشرات والطيور في الفضاء الخارجي. إذ تظهر الملاحظة بهذا الشأن قدرات الحيوانات على التعلم. ومن ذلك مثلاً تذكر الروائح عند صغار النمل، وقدرة النحل على تمثيل أوجه التجاذب أو التنافر.

وقد استثمرت هذه الدراسات في محاكاة تعلمات مماثلة في مجال الذكاءات الاصطناعية. وبالإضافة إلى ذلك، يجري حالياً استكشاف قدرات الطيور والجرذان على العد وقدرة القردة على تمثل نظام الإشارات، وعلى استخدام لغة معينة في التواصل كما هو الحال في رقصة النحل الشهيرة وصيحات التحذير التي تطلقها القوارض وحيوانات البابون. ناهيك عن قدرة النمل على استخدام أدوات أولية (حبوب الأرض-حصى..). وفيما يتعلق بمسألة الوعي بالذات لدى الحيوان، فقد تم إحراز تقدم ملموس في فهم دور الخلايا العصبية المرآتية لدى قردة المكاك. بيد أن الكاتب ينبه إلى ضرورة توخي الحذر المنهجي في مقاربة هذه المسألة: فعلى الرغم من أن العديد من الأفراد قد أظهروا نوعاً من الوعي بذواتهم، فليس من الممكن دائماً تعميم هذه النتيجة على جميع الأنواع. ولتحقيق فهم أعمق بخصوص التمثيلات الاجتماعية والتفاعلات عند قرود الشمپانزي، فينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الإكراهات التي تفرضها البيئة وكذا التفاعلات الاجتماعية، حيث ينص الكاتب على أن "كل حالة معينة تمثل تجربة طبيعية في حد ذاتها يمكن النظر إليها باعتبارها نظاماً فريداً من نوعه".
 

يركز الفصل الثالث على الجانبيْن الحسي والعاطفي عند الحيوانات بالاستناد إلى معايير موضوعية وقابلة للقياس، تواجه التقاليد التي تكرّس مبدأ مركزية الإنسان والتي طالما نفت كل إحساس عن الحيوانات. وقد كان داروين يفترض منذ 1872 أن الحيوانات تتقاسم مع البشر عدداً من المشاعر الأساسية مثل الفرح والحزن، والغضب والخوف والاشمئزاز والدهشة. وتؤكد مجموعة كبيرة من الأبحاث العلمية المعاصرة صحة هذه الفرضية، إذ يتم تقاسم هذا النوع من التعاطف بين الأنواع الاجتماعية، ومن ذلك تقلب المزاج الذي يختلف من شخص لآخر، وردود أفعالنا الناجمة عن حالات الإجهاد.

في الفصل الرابع تقودنا كل هذه التجارِب السابقة عند الحيوانات إلى أن نطرح بطريقة أكثر وضوحاً ودقة مسألة الحفاظ على التنوع البيولوجي على الرغم من الآثار الناجمة عن الأنشطة البشرية، وتلك المتعلقة بالعناية الحيوانات، والتي يمكن أن نشرع في قياسها بطريقة أكثر موضوعية، خاصة في ما يتعلق بحيوانات المزارع والحيوانات الأليفة، أو الحيوانات المستخدمة في التجارِب داخل المختبرات، والتي تظلّ نموذجاً يُستفاد منه في معالجة الأمراض السلوكية البشرية.
 

لا شك أن هذا النوع من الكتب يحتاج إلى قارئ فطن، يعمق فضوله ويشبع تطلعاته إلى سبر أغوار التفاعلات القائمة بين الحيوان والإنسان، على مستوى السلوك وقدرات التفكير. وعلاوة على ذلك، يتعين تناول هذا الكتاب باعتباره خريطة تقدم رؤية موسعة للتطورات التي تجعل من سلوك الحيوان علماً لا نعرف عنه إلى حدود الساعة إلا القليل. فالعديد من الحيوانات تملك القدرة على الوعي بالذات، والقدرة على التفكير وإن حُرمت القدرة على الكلام. كما أن علاقة الإنسان بالحيوان انعكاس لعلاقته بالطبيعة. ويقع على عاتق علماء سلوك الحيوان تفسير طبيعة العلاقة التي تجمع الإنسان بالحيوان سيكولوجياً وعاطفياً، وذلك حفاظاً على نوعه، وعلى الأنواع الأخرى المهددة بالانقراض.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها