جدلية الراوي والبطل

في "حمام الدار" لسعود السنعوسي

حسان العوض


قسّم الروائي الكويتي سعود السنعوسي روايته "حمام الدار/ أحجية ابن أزرق" إلى جزئين: الأول بعنوان "العهد القديم/ صباحات عرزال بن أزرق"، والثاني بعنوان "العهد الجديد/ صباحات منوال بن أزرق" تكون العلاقة بينهما جدلية: اختلافاً وافتراقاً وتعارضاً وتناقضاً، ولكن في النهاية اتفاقاً وتكاملاً. تماماً مثل الكتاب المقدس الذي استقى منه المؤلف التقسيم والعنونة في إشارة إلى قدسية العمل الإبداعي بالنسبة لمبدعه الذي قد (يلعب دور إله في أسطورة قديمة) [ص: 85]. وهذه الفكرة سوف تتكرر بأسلوب يبدو ساخراً عندما تقوم إحدى الشخصيات بتمجيد مؤلفها (له المجد الأدبي عدد مؤلفاته وما حملت من حروف وكلمات) [ص: 85]. والدعاء له (مؤلفنا دام حرفه واتسع خياله) [ص: 87]. (مؤلفنا، كثر قراؤه وأصابت معانيه) [ص: 89].


الراوي بطلاً:

قسّم الكاتب "العهد القديم" إلى ثلاثة أجزاء: الأول بعنوان "قبل ساعة تأمل" مروي بضمير المتكلم على لسان كاتب أصلع، اسم زوجته منيرة، يخبرنا أنه على الرغم من حرق كفه اليمنى بقي يكتب لاثنتي عشرة ساعة متواصلة حتى انتهى من نص عن شخص اسمه عرزال بن أزرق، تسلل إلى رأسه فجأة من دون أي صلة قديمة به، كما يدعي الكاتب الذي جنّس نصه أدبياً وعنونه بـ"مشروع رواية/ نص لقيط"، وهذا هو العنوان الفعلي للجزء الثاني من "العهد القديم" وقد سماه نصاً لقيطاً لأنه (ولد من دون فكرة) [ص: 14]. وهو يتألف من (فصول خمسة يمثل كل فصل منها صباحاً انتقيته من صباحات شخصية كهل مضطرب مريب ممل، منصرف عن كل شيء إلا بضعة اهتمامات تافهة تلفها الغرابة؛ قراءة مذكرات غامضة، وتطفل على حمامة تمكث في دكة نافذته، يزاحمها مساحتها الصغيرة، يرى حلماً يومياً لا أرى منه إلا أجزاء مبتورة لا تسعفني مخيلتي على إتمامها. شخصية ينبغي لها أن تلقي بنفسها من النافذة انتحاراً ولكنها، لسبب أجهله، لا تفعل) [ص: 14]. وهذا تلخيص مكثف للنص كتبه الراوي/ الكاتب الذي أراده الروائي/ المؤلف سعود السنعوسي بطلاً لعهده القديم.

حمل كل فصل عنوان صباح متبوع برقمه المتسلسل: صباح أول- صباح ثان- صباح ثالث- صباح رابع- صباح خامس. يبدأ الفصل الأول بجملتين اثنتين، ستضاف إليهما في الفصل الثاني جملتين أخريين تسبقهما، وهكذا حتى الفصل الخامس الذي يبدأ بعشر جمل تشكل مشهداً مبتوراً من الكابوس الذي يوقظ عرزال كل صباح. وعرزال رجل خمسيني أصلع يعيش وحيداً في شقة تطل على البحر، يتصل فور استيقاظه بطليقته ليسألها عن ولديهما إلا أنها تقفل الخط عندما تسمع صوته. ثم يذهب إلى مطبخه ليجهز القهوة التي حرق بها كفه الأيمن في الفصل الخامس.

تتناوب في الفصول الخمسة ما يفعله عرزال في الزمن الحاضر مع مذكراته التي تتحدث عما فعله في الزمن الماضي، وقد وضع الكاتب لكل مقطع من المذكرات عنواناً إضافة إلى طباعته بخط عريض تمييزاً وتسهيلاً للقارئ كيلا يربكه السرد المتقطع، وتوقيعه باسم عرزال.

لا شيء يكسر روتين عرزال اليومي إلا حمامة سماها فيروز بسبب لطخة فيرزية في عنقها، تحط على دكة نافذة غرفته حيث تبني عشاً تضع فيه بيضتين تفقسان عن فرخين أسماهما: رحال وزينة.

عرزال بن أزرق علاقته مضطربة مع والده (هو يمقت الأزرق. يمقته بحراً، يمقته سماء، ويمقته أباً) [ص: 24]. فعندما كان في الخامسة ألقاه أبوه في الهواء عالياً غير مبال بهلعه، وهدده أن يلقي به بعيداً إلى السماء إن لم يتوقف عن البكاء. (لم يبك، لكنه كره السماء) [ص: 24].

وعندما أراد أبوه أن يعلمه السباحة، حمله بين ذراعيه، وخاض في الماء موغلاً في العمق حتى كتفيه، ثم رمى به في الماء طالباً منه أن يجرب الغرق حتى يتعلم السباحة، وهدده بأن يتركه يغرق إذا بكى (لم يتقن السباحة قط. لم يبك، لكنه كره البحر) [ص: 41].

مذكرات عرزال:

عمره في مذكراته بين السادسة والرابعة عشرة. ليس لديه إخوة، وأمه التي كانت تحب الحمام وهديله رحلت.

تحضر في مذكراته بصيرة، جدة أبيه، وهي عمياء صماء بكماء، ومع ذلك فهو يعتقد أنه سمعها تقول (حمام الدار لا يغيب وأفعى الدار لا تخون) [ص: 27]. وهي لازمة تتكرر كثيراً في الرواية. الأفعى يراها عرزال أكثر من مرة من دون أن تؤذي أحداً من أهل الدار. وأما الحمام فمن الواضح أن أباه يهوى تربية الحمام، وفي إحدى المرات أطلق ست حمامات إخوة بعيداً عن البيت في الصحراء قرب الحدود، عادت منها أربع أسماؤها: غادي، سفار، عواد، ورابحة. ولم يعد أصغراها اللذان سماهما عرزال: زينة ورحال. في ذلك الوقت كانت الحمامة الأم ترقد على فرخين جديدين بعدها نحل جسدها وتواصل هديلها حتى فصل أبوه رأسها. وبعد موتها سماها عرزال فيروزاً.

كان لدى عرزال معزة بربرية بيضاء اسمها قطنة، يحادثها وخيل إليه أكثر من مرة أنها تكلمه، وقد أجبره أبوه على إطلاق النار عليها من بندقية صيد هوائية لم تقتلها ولكنه فقدها.

الجزء الثالث من "العهد القديم" بعنوان "أثناء ساعة تأمل" يتألف من فصلين مرويين بضمير المتكلم على لسانَي شخصيتين من الرواية هما قطنة وعرزال، حمل كل اسم منهما عنوان فصله.

تخبرنا قطنة أن الكاتب في ساعة تأمله حولها كشخصية من معزة إلى فتاة تكبر عرزال بعشر سنوات، فكالت له الكثير من عبارات التمجيد والدعاء. يطلب منها الكاتب أن تذهب لاستنطاق عرزال (لماذا لم يلق بنفسه من النافذة) [ص: 90]. وبأسلوب الاستشراف سوف تكتشف قطنة أن عرزال يشبه الكاتب كثيراً. وسوف تحاول إقناعه أن كليهما (قطنة وعرزال) شخصيتان وهميتان في رأس مؤلفهما، وهما الآن خارج النص في ساعة تأمله وقد منحهما فرصة مشاركته الكتابة. ولكن عرزال يؤمن بثورة الشخصيات على مؤلفيها، يتمرد، ويكتب نصاً نسيباً، لأنه منسوب إلى فكرة واضحة المعالم (يحدث أن يكون المؤلف شخصية في رواية كتبها مؤلف آخر) [ص: 108].

البطل راوياً:

يتألف "العهد الجديد" من جزء واحد حمل عنوان "مشروع رواية/ نص نسيب"، وهو يتطابق مع "النص اللقيط" تماماً ما عدا المذكرات التي جاءت مختلفة وإن حملت نفس العناوين، مع توقيعها باسم منوال. ونسبة أحداث الزمن الحاضر إلى منوال، مكتفياً مما ورد سابقاً ببعض جمل ملخصة ومركزة. وإضافة فصل سادس بعنوان معرف "الصباح السادس".

مذكرات منوال:

كان في الخمسين من عمره عند كتابة مذكراته. (حمام الدار لا يغيب، وأفعى الدار لا تخون) [ص: 122]، هذا ما يقوله هاتف داخله يجيء وقت ضعفه وخوفه من تلقاء نفسه.

كان في السادسة عندما هاجر والده بصحبة إخوته الأربعة الكبار، وأسماؤهم: غادي وسفار وعواد ورابحة. (ليعيش هو مع زوجة جديدة في بيت جديد على تل في جزيرة ليست بعيدة؛ بيت واسع مقابل البحر) [ص: 123].

وهكذا بقي منوال مع أمه، واسمها فيروز، التي أسمت إخوته حمام الدار، وقد أمضت أيامها تتحرى عودتهم من دون جدوى حتى وفاتها حزناً.

الوالد كان يتاجر بالعبيد وقد أحضر لزوجته وابنها منهم الخادمة فايقة وابنتها قطنة التي تكبر منوال بعشر سنوات وسوف تصبح صديقته، وسوف يتحرش بها الوالد خلال زياراته منفرداً، وعندما يصبح منوال في الرابعة عشرة يجبره أبوه على مناداة قطنة بالعبدة، فيفعل مرغماً، وهكذا يفقدها.

مبرر ما اقترفه الأب تجاه زوجته وابنها يبدو ذا علاقة بشبهة خيانة زوجته مع أحد العبيد، وشبهة أن يكون الابن ثمرة هذه الخيانة. لا يبدو هذا المبرر مقنعاً فكل ما ورد بخصوصه قبلاً وبعداً، بما فيه ردة فعل الزوج، تنفي حدوثه.

عمته تركت بيت عمه وانتقلت للعيش معه بعد وفاة أمه التي صارت ذكرى وفاتها السنوية موعداً لعودة إخوته الأربعة.

لاحقاً سوف يتزوج منوال من منيرة التي أنجبت له توأمين، ولداً اسمه رحال، وبنتاً اسمها زينة. التوأمان سوف يغرقان في البحر.

جدلية الراوي والبطل:

كل ما ورد من رموز في مذكرات عرزال سوف نجد تفسيرها في مذكرات منوال.. أفعى الدار التي لا تخون هي فايقة التي سوف تعود مرة أخرى للاعتناء بمنيرة بعد مصابها الأليم.. الحمامات الأربع التي عادت هن إخوته، والحمامتان اللتان لم ترجعا هما طفلاه...إلخ.

في نهاية الفصل الخامس من صباحات منوال يضيف الكاتب إلى نهاية نظيره من صباحات عرزال أن البطل (وضع فوق المخطوط الناقص ورقة بيضاء صقيلة، وراح يخط في زاويتها: نص لقيط) [ص: 176].

وهكذا نرجع مرة أخرى إلى الجزء الأول من الرواية في سلسلة يؤدي أولها إلى آخرها، وآخرها إلى أولها.. الكاتب/ الراوي في الجزء الأول يتقنع خلف رموز يحاول أن يخفي بها اضطراباته النفسية بآلية دفاعية للتوازن؛ محاولاً أيضاً التحكم بشخصياته الروائية حتى يضيق به البطل ذرعاً؛ فيأخذ منه دور الكاتب، ويعطيه دور البطولة معريّاً إياه ورموزه.

"الصباح السادس" يتكون من مقطعين: الأول هو الكابوس وقد اكتمل؛ غرق التوأمين. والثاني كما يبدو هو النهاية: نهاية الفصل السادس، نهاية مشروع الرواية، نهاية الرواية؛ حيث تقع يد منوال على جريدة يحتل صدر الصفحة الأولى منها خبر غرق توأميه. ثم يهم بالقفز من نافذة غرفته قبل أن يسمع طرقاً على باب شقته.

ورد هامش في بداية الفصل الأول من صباحات منوال (لم ألحظ تغييراً في أحداث الصباحات الخمسة إلا اسم الشخصية المحورية، فارتأيت الاكتفاء بإعادة قراءة بضعة سطور) [ص: 121]. وقد تم توقيع الهامش باسم قطنة، مما يفتح مجال التأويل على راو ثالث أكثر حيادية من كلا الراويين السابقين اللذين كتب كل واحد منهما مشروع رواية، ولكن ما فعله المؤلف سعود السنعوسي بكيفية جمع هذين المشروعين جعله ينجز رواية موفقة.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها