زهرة الحنين والأنين

البُعد الناسوتي في عالم النباتات

سعاد الحمودي

في هذه المقاربة المدوْزنة بلغة غنائية تذكرنا بمجد النثرية العربية المنغومة بالنثر الجميل، تُباشر الكاتبة سُعاد الحمودي تنويعاً معرفياً وذوقياً على ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وكان اختيارها لزهرة الصبَّار معنى خاصاً، ذلك أنها من أجمل الزهور لوناً وبهاءً، بقدر ما هي أكثر وحشية؛ لأنها مُسيَّجة بأسوار شوكية تبدأ منها وتنتشر في أضبارة المرج الورقي الأخضر المُدجَّج بحراب شوكية حارسة للزهرة، وبهذا المعنى تستعيد الكاتبة مجد الرؤى الذهنية التي سطرها الأسلاف، ممن استنطقوا البعد الناسوتي في عالم الحيوان والنبات، غير أن انزياحها الأسلوبي لهذه الأنسنة النباتية يتماهى مع لغة عصرية بيضاء لا تخطئها الأعين، فيما تنثال من جوانبها القيم الأخلاقية والسلوكية من أصل وتضاعيف النص الماثل.

المحرر



 عندما تتحول الزهرة إلى صبَّارة 

حسب قانون الكون نجد أنه عندما تكون الزهرة في كنف من يرعاها ويسقيها ويدللها، فإنها تزهر وتشرق، وتفوح بالعطر والشذى الجميل، وقد تتحول بعد حين إلى ثمرة حلوة المذاق والرائحة، ولكنها وحسب ما هو معروف بذلك القانون الكوني، إذا أُهمِلت ولم تجد الرعاية فأنها تذبل وتموت، ولكن ما حصل مع زهرتنا المتفتحة كان مخالفاً لقوانين الكون. لقد تحولت تلك الزهرة رغماً عنها إلى صبّارة مُرَّة لتستطيع العيش، تحولت فما كان منها إلا أن أنبتت حول جسدها أشواكاً حادةً تدمي من يحاول لمسها، ثم إنها تكيفت مع عدم الرعاية والإهمال، فعاشت مع أقل القليل من الماء، بل وربما استمرت شهوراً بدون ماء، فتلك الزهرة قاست الكثير، ورغم أنها عاشت قبلاً في بيئة مترفة بالجمال والسحر والبهاء بما نالت من عناية ورعاية ودلال في كنف محبيها الذين أغدقوا عليها حباً وعطفاً وحناناً ورعاية. نجدها فيما بعد واجهت اختلافاً في الأحوال، وغادرت كل هذا الترف والحياة الرغيدة إلى مصيرٍ مجهول وُعِدت فيه بالسعادة، ولكنها لم تجد فيه سوى القسوة والذل والإهانة والإهمال، عُنفت أُهملت رُميت بالتهم القاسية، وكادت أن تذبل وتموت، ولكنها في آخر رمق لها قررت زهرتنا الجميلة أن تتحول إلى صبارة لتستطيع العيش والبقاء.

قد يجول في أنفسنا ونحن نقرأ هذه الكلمات أنها تعبيرٌ آخر لرحلة معاناةٍ قاستها امرأةٌ ذبلت على يد سجانها ووليها الظالم، وعانت العبودية، وسلبت الحرية والسعادة، أو لربما أنها كلمات تحكي معاناة وطنٍ تكالبت عليه ظروف الحرب والتشرد والجوع والفساد، وقلما نُشبِّهُ الوطن بالزهرة ولكنه تشبيهٌ جاء في عارض الكلام ليوحي أثراً لرحلة البقاء رغم قسوة العيش، فلربما آن الأوان لكل من عانوا الألم أن يتعافوا من جراحاتهم الدفينة بشيء لا ندرك طريقه للوهلة الأولى، فليس هناك من تميمة سحرية للمعافاة سوى الداخل العميق في قلب المعاناة نفسها، وما عبر عنه القرآن الكريم بكلماته الحكيمة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيرُ مَا بَقَومٍ حَتَّى يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِم)، وهذا معنى عميق يجعلنا نغوص في أعماق نفوسنا لندرك معنى التغيير، ونسلك دربه في حياتنا، فالله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنجد للتغيير الداخلي أثر واضح في حياتنا يُبَدِّلُ النعم إلى نِقم إذا كان تغيراً سلبياً، أو يدفع النقم ويجلب النعم إذا كان إيجابياً، فيكون هذا التغيير تبعاً لنوعه إيجاباً أو سلباً.

نعود لزهرتنا المتحولة لنعرف سبب غضبها من تلك المرارة التي ملأت أحشاءَها وحولتها إلى صبّارة، وسنعرف أن أكثر ما كان يؤذي تلك الزهرة هو أن الصدق والبهاء الذي كانت فيه تحول إلى كذبٍ وغموض، وصمت بلا بوح وكل هذا لتعيش! أيقنتْ الصبّارة المتحولة أنَّ شوكها ومرارتها لا يستحقه كل الناس، فهي في حقيقتها الأصلية زهرة جميلة وثمرة حلوة بهية.

✲ القانون الجديد للعودة إلى الأصل 

لقد عرف العربُ أن لكل مقام مقال، ويمكننا أن نقول أيضاً إنَّ لكل قوم تعاملهم الخاص، وبهذا تعلمت الزهرة ألا تعمم بل أن تخصص، تعلمت قانوناً جديداً للعيش، وهو قانون التصنيف والفرز، فمن كان سبباً في تحولها إلى صبارة، وتعامل معها على هذا الأساس كان يستحق المعاملة بالمثل.

لكن كان لديها أناسٌ آخرون قريبون من القلب والروح، لم تستطع وهي معهم إلا أن تشرق من جديد كزهرة متفتحة، وتفوح بريحانها وعبقها الرائع عليهم، فقد كان محيا وجوههم المضيئة يزيدها تألقاً وجمالاً، فما كان منها إلا أن بادلتهم الحب بالحب، والعطاء بالعطاء، والبذل بالبذل.

وتعلمت من يومها أن تكون طيبة مع الطيبين؛ لأنهم يستحقون ذلك الفيض الجميل من النور والسعادة، ولكنها في خضم ذلك البذل والسعادة اللامتناهية، وإذا عادت إلى ركنها الذي قدر لها أن تعيش فيه تتحول زهرتنا الجميلة مرة أخرى إلى صبارة، وما يسليها في داخلها هي ذكرياتها التي تجعلها تسعدُ كلما تذكرت أيامها التي عاشتها في أحلام السعادة مع من أحبتهم وأحبوها.

✲ في كنف المعاناة تولد المعافاة 

توحي لنا هذه المقولة بشيء من الأمل والراحة الذي ننتظره كلما تكالبت علينا الظروف المؤاتية التي لم نكن نتوقعها ولم تكن بالحسبان، وهذا ما حصل لزهرتنا المتحولة، فلقد تعافت زهرتنا تماماً، وتولدت من شرنقة الصبَّارة التي كست جسدها قسراً نوعاً جديداً من الأزهار أنبثق إلى نور الحياة، ليُّكوِّنَ لنا زهرةً أكثر تألقاً وبقاءً وبهاءً، وبذا أصبحت زهرتنا في كل أحوالها تفيض عبقاً وعطراً، فهي لم تعد تهتم بمن حاول أن يزرع جروح الألم في داخلها لتعبر عنها أشواكاً تدمي يد من يؤذيها، ولم تعد تتكلَّف عنا الرد، ولا يستهويها شعور الانتقام؛ رجعت وعادت من جديد لتحيا في نقائها وصفائها المعهود كما كانت، ولا يعني هذا أنها فقدت حذرها، أو أنها تكبدت عناء تفكيرٍ يستهوي النفس لمعرفة أسباب العدوان عليها، فهي أصبحت تعرف كيف تحمي نفسها، والحقيقة أن ما اختلف معها تماماً أنها كانت تستقي روعتها وحيويتها من مصدرها الداخلي المكنون الذي وهبه لها الخالق في نفسها الزكية، تدور مع الأيام لتعود آخر النهار، وتنفض عن روحها غبش الأذى، وتتألق من جديد، فمن قلب تلك المعاناة التي عاشتها عرفت وأدركت طريق المعافاة، وكانت تلك المعافاة رديفة للتغاضي والعفو، فما حصل كان مفاجئاً فبعد تلك المعاناة تحول كل شيء، ودخلت المعافاة من بوابة سماحة العفو واتساعها الرحب، وكانت عنواناً جديداً لحياة أخرى أكثر سعادة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها