"داميانو دامياني" ثلاثية المافيا

(السياسة، الاقتصاد، الجريمة)

د. السهلي بلقاسم



يعتبر المخرج الإيطالي "داميانو دامياني" من أهم مخرجي السينما الإيطالية، ينتمي إلى جيل رواد السينما السياسية "فرانشيسكوا روزي"، و"جيلو بونتيكورفو" وغيرهما.. ممن نشأوا في ظل الواقعية الجديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، الاتجاه السينمائي الذي حاول وبكل الأساليب السينمائية عرض واقع ما بعد الحرب. لكن سرعان ما تحول هذا الاتجاه في إيطاليا إلى تبني اتجاه جديد، انتشر بسرعة في أوروبا هو اتجاه "السينما السياسية"، أو "سينما الرؤى الذاتية" على غرار سينما العديد من المخرجين الإيطالين أشهرهم المخرج الكبير "بازوليني".
 

ويعود هذا التحول في الاتجاهات والمذاهب السينمائية في العالم بشكل عام، وفي أوروبا على وجه التحديد، إلى طبيعة الأنظمة السياسية التي تولت حكم الدول الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية وعلاقة هذه الأنظمة الحاكمة بالمشهد السينمائي والثقافي في بلدانها من جهة. ومن جهة أخرى حظيت سينما الواقعية الجديدة بمقاومة شديدة من طرف كبار مخرجي السينما الإنجليزية، باعتباره اتجاهاً متمرداً على التقاليد والأساليب السينمائية في "هوليوود" من وجهة نظرهم بطبيعة الحال. بالإضافة إلى أن العديد من نقاد ومنظري السينما، اعتبروا أفلام "الواقعية الجديدة" أفلاماً، عرضت طبائع الإنسان الأوروبي، طبائع تأثرت بنتائج الحرب العالمية وأثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعية. فهي أفلام شعبية في جوهرها تفتقد إلى العمق في تحليل البنيان الاجتماعي للإنسان الأوروبي... وقد تكون هذه الآراء مجانبة للصواب؛ لأن موجة السينما الواقعية الجديدة، سينما حاولت أن تنقل وبأمانة واقع الخوف والقلق والإحباطات والانتكاسات المتعددة الابعاد... التي انتابت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية.
 


شغف البدايات الفنية

ولد "دامياني" عام 1922م، وبدأ حياته الفنية مهندساً للديكور، ثم كاتباً للسناريو مع "سيزار زافاتينني" أحد الرواد الكبار للواقعية الجديدة في إيطاليا في عام 1959م أخرج "دامباني" أول أفلامه "أحمر الشفاه"، ثم أخرج عام 1960م "القاتل المأجور"، وأتبعه بفيلم "جزيرة أرتورو" عام 1961م، و"العائد" عام 1962م، وفيلم "الملل" عام 1969م، و"الساحرة العاشقة" 1969م. "ومن يدري"؟ 1966م، "وفتاة معقدة بعض الشيء" 1968م، و"يوم البوم" 1969م، وفيلم "أجمل زوجة" 1970م، و"اعترافات مفتش الأمن إلى المدعي العام"، وفيلم "انتهى التحقيق المبدئي" عام 1971م، ثم "جير وليموني 1972م"، وغيرها من الأفلام.

ولقد حاول "دامياني" في مجموع أفلامه، التأكيد على معالجة وحدة التطور الاجتماعي والنفسي، لدى الشخصية الأوروبية. وحتى وإن عمل على كل عنصر على حدة في بعض أفلامه، إلا أنه في مجموع إنتاجاته السينمائية الأخيرة، عمل على ربط العنصريين الاجتماعي والنفسي معاً. وهذا دليل على نضح المستوى الفكري والدرامي الإبداعي لذا المخرج، هذا النضج الذي دفع "دامباني" إلى تبني اتجاه آخر في العمل السينمائي، وهو اتجاه المعالجة السينمائية للقضايا السياسية، داخل المجتمع الإيطالي، على وجه الخصوص. بعد أن لاقى هذا النوع من المعالجات السينمائية نجاحاً مهماً في أغلب دول أوروبا، في بداية الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. من خلال العروض السينمائية التي حاولت طرح المشاكل والمعاناة الاجتماعية تحت غطاء "سياسي".
 

 هواجس الدراما السياسية

إن من أهم مميزات سينما "دامياني" السياسية، كونها سينما خيالية، روائية، وافتراضية، فهي لا تعتمد الوقائع الحقيقية، بالإضافة إلى ميزة أخرى لا تقل أهمية عن الميزة الأولى. فهي سينما سياسية من داخل النظام السياسي القائم، وليس من خارجه، هي إذا سينما موازية للفعل السياسي ومستنبطة من تداعياته المجتمعية السياسية والاقتصادية... في فلمه السياسي الأول مثلا "من يدري"؟ يعبر المخرج الإيطالي عن موقفه من حكم الجنرالات في أمريكا اللاتينية وموقف الولايات المتحدة من هذه الأنظمة السياسية، التي كانت تحكم من وجهة نظرها بقوة السلاح... في حين تختلف الأفلام السينمائية الثلاثة الباقية التي أخرجها "دامياني" في كونها عرضاً درامياً فكرياً لقضايا وظواهر اجتماعية سائدة، يعيشها المواطن الإيطالي بشكل خاص والمواطن الأوروبي بشكل عام، فهذه الأفلام ترتبط في ما بينها بأكثر من رابط أهمها رابط "المافيا" حتى إن العديد من نقاد السينما أطلقوا عليها في حينها "ثلاثية المافيا " فهي الثلاثية التي صنعت اسم مخرج عالمي كبير، حيث فاز فيلم "اعترافات مفتش" بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكوا السينمائي عام 1971م، وفاز فيلم "انتهى التحقيق" بجائزة الإخراج في مهرجان "طهران السينمائي" عام 1972م. وعندما سُئل المخرج عن هذا الرابط المشتركة بين الأفلام الثلاثة، أوضح بأنه كان يقصد إثارة موضوع المافيا في الأفلام الثلاثة، لما له من أهمية كونه يمثل العقلية المشتركة في المجتمع الصقلي؛ ولأن المواطن الصقلي لا يثق في سياسات الحكومة؛ فإنه يعتبر "المافيا" بديلاً للعادلة المنشودة العدالة المفقودة والتي تمثل فيها المافيا، حلقة وصل بين المجتمع والدولة.
 

             

أما عن فلمه الثالث "جرائم المافيا"، أو "يوم البوم" الذي عرض في إحدى مهرجانات القاهرة السينمائي المقتبس من رواية الكاتب "ليوناردوا سوسيا" تحت عنوان: (سوف يظهر في وضح النهار)، الذي تناول فيها المخرج تواطؤ رجال المافيا في مصرع أحد السائقين، الذي كان يملك أدلة قاطعة، على تلاعب المقاول الذي رفضت الحكومة لشركته الهندسية بناء سد كبير، وفجأة يختفي السائق في ظروف انتابها الغموض والدهشة. بعدها تنتشر إشاعة مؤكدة، يتم فيها اتهام السائق بربط علاقة مشبوهة مع زوجة مدير الشركة. وتحولت الجريمة بفضل السيناريوهات المحكمة لعناصر "المافيا" إلى جريمة شرف ومسح للعار.. وإذا كان الفيلم يحاول عرض ما تقترفه المافيا من جرائم مقابل المال - الاقتصاد- فإنه يركز أيضاً على طبيعة العلاقة بين "المافيا" وسلطة السياسيين. لقد انهار السد فعلاً ومات ألف مواطن، وقتل المهندس الذي رفض السكوت عن الجريمة، بعد أن رفضت الشركة تعويض أهالي الضحايا.

إلا أن فيلم "اعترافات مفتش" لم يتناول موضوع الفيلم قضايا "المافيا" المبنية على أساس الدواعي المادية أو الاقتصادية لهذه المنظمة، بل تناول موضوع "المافيا" من خلال تحليل نشاط آلية الدولة في اعتمدها على "المافيا" من أجل تحقيق أهداف سياسية ذاتية، ويأتي فيلم "اعترافات مفتش" من أجل أن يؤكد بأن القانون ليس هو الحل؛ لأنه قانون وضعه النظام من أجل أن يحمي نفسه.

إن المدعي العام الذي يحقق في جريمة قتل، يحاول أن يتمسك بشدة بالقانون، ويستبعد كل البعد من وجهة نظره، بأن يكون المحافظ ونائبه ومدير البنك ورئيس لجنة الإسكان في البرلمان، ضمن شبكة مافيا محلية، تتاجر بالعقار بأثمان باهظه. وبعد أن فازت الشبكة بمناقصات المزاد العلني لمساحات أرضية شاسعة مملوكة للدولة، بأثمنة بخسة... وبعد التحقيقات المطولة وجرائم القتل المتبادل، يكتشف المشاهد بأن المدعي العام قد يكون متورطاً في شبكة المافيا!

بينما يعرض فيلم "انتهى التحقيق" طول يد "المافيا"، وقوتها حد وصولها إلى داخل السجن وتنفيذ جريمة القتل.. إن جميع جرائم المافيا عند المخرج "دامياني" بالغة التعقيد ومحكمة التنظيم. فهي تعبر عن عبقرية كتابة سيناريوهات متقنة الحبكة ودقيقة التنفيذ من جهة. وتعبر هذه الجرائم من جهة أخرى، على قوة طغيان الفساد السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، داخل المجتمع الإيطالي من خلال رؤية إخراجية لقصص روائية محكمة في أسلوب البناء التقليدي الذي يعتمد البداية والوسط والنهاية.. ضمن محنى مضمون درامي، ينتهج التكثيف في العناصر الدرامية من الفكرة إلى الشخصيات، مروراً بالحوار والصراع والذروة وانتهاء بالحل -الخاتمة أو النهاية- التي غالباً ما كانت تنتهي بعبارات لفظية، تحيل المتلقي -المشاهد- إلى أسئلة كبيرة: من يدري؟ هل هنالك شيء ما خطأ؟ إنني لا أعرف شيئاً!

وهي أسئلة وعبارات لفظية، تشير بشكل غير مباشر، على الواقع المفتوح على كل المتناقضات، وعلى الأسئلة العقيمة. واقع الحياة في المجتمع الإيطالي في ظل حكم الأنظمة الفاشية إبّان نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن السؤال المهم حول ثلاثية المافيا، ماذا كان يريد المخرج الإيطالي "دامياني" خريج مدرسة السينما الواقعية الجديدة في إيطاليا، أن يقوله من خلال "السينما السياسية" لمواطنيه وللعالم.. بعد محاولة فضح أساليب وطرق عمل المافيا أمامهم؟

التركيب الفكري في ثلاثية المافيا

إن جرائم المافيا في الأفلام الثلاثة محبوكة وكاملة التنسيق، في تركيزها على فشل كل محاولات "البطل الإيجابي"، وفي السعي لفك جميع ألغاز الجرائم؛ لأن نجاح البطل في فك العقدة الدرامية والقانونية في ثلاثية المافيا، سيكون حتماً تزيفاً حقيقياً للواقع المُعاش، في تلك المرحلة التاريخية من حياة المجتمع الأوروبي والإيطالي؛ لأن الأفراد وبكل بساطة من وجهة المخرج، لا يستطيعون أن يغيروا الواقع.

ولكن من هو البطل الإيجابي الذي يحاول أن يقدمه "دامياني في "ثلاثية المافيا"؟ إنه ضابط الشرطة في فيلم "يوم البوم"، ومفتش الشرطة في فيلم "اعترافات مفتش"، والمهندس المعماري في فيلم "انتهى التحقيق". إن جميع الأبطال الإيجابيين في الثلاثية من وجهة نظر مخرجها، هم جزء من البرجوازية الحاكمة، ولا يمثلون بتاتاً الطبقة الأخرى، الطبقة التي يقع عليها الاستغلال، ووحده الوازع الأخلاقي يدفع أبطال "دامياني" إلى الفعل النبيل، ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئاً! إن ثلاثية المافيا من هذا المنطلق وعلى ما يبدو واضحاً من الناحية الفكرية، اعتمدت نهجاً هداماً، من خلال بناء درامي فوضوي، غير متسق، وغير قابل للجدل، حاول فيه المخرج في العديد من المشاهد، التركيز على فكرة "هدم الدولة" من خلال فضح هشاشتها الداخلية فيها من الداخل، حينما يعلق على ثلاثيته الشهيرة بأنه ليس شيوعياً، وليس عبداً لأي نظام سياسي؛ إننا جميعاً أشخاص تتحكم فيهم السلطة، ومع ذلك يجب أن نقول شيئاً!

 


 هوامش 
نقصد هنا بمصطلحات: السياسية، الاقتصاد، الجريمة: المواضيع التي استندت إليها السينما الإيطالية في معالجتها لظاهرة "المافيا".
التفسير الأكثر شيوعاً لمصطلح "المافيا "يرجع إلى القرن 13م، بعد أن غزى الفرنسيون جزيرة صقلية عام 1282م. وتؤكد العديد من الروايات بأن الفرنسين اختطفوا فتاة صقلية في يوم زفافها، مما أثار حفيظة واستياء ساكنة صقلية، فأسسوا عصابة لمحاربة الغزو الفرنسي والانتقام من مرتكبي الجرائم، واطلقوا عليها اسم: (موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا-Morte Alla Francia Italia Anela )، واختصرت في الحروف الأولى من الكلمات MAFIA وجاءت كلمة الصرخة تأثراً بالصرخة الهستيرية لأم العروس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها