يقف والدي وعلى رأسه شعر فاحم السواد منظم بطريقة هندسية محكمة، أسفل أنفه شارب من النوع المنسق الذي لا تستطيع شعرة منه مهما بلغت قدرتها الشذوذ عن النظام الصارم للتنسيق العام له، فيبدو دوماً في حالة من النظام رائعة، وكلما رأته عين انشدت إليه وإلى الحرفية العالية في تهذيبه، أما فمه فله بسمة هادئة واثقة تجبرك حينما تراها على الوقوف فوراً ومبادلته الابتسام ناظراً إلى عينيه وما تحويه من نظرات -رغم بساطتها- تفيض بالقوة، وإلى جواره واقفة بوداعة ورقة بالغة امرأة تبدو كأنها قد انطلقت في لحظتها لتطلب جانبه وتركن إلى ركنه وتلوذ بحماه، كحمامة وديعة تجد أمانها في كنف نسر.
كانت تلك الصورة تشدني دوماً برومانسية خطوطها إلى أن قرأت أول أمس في الكتاب الضخم الذي يتحدث عن تاريخ العائلة وبخاصة جدي لوالدي، أبحرت في القراءة طويلاً، وحينما مررت بعدها بتلك الصورة رأيتها تبدلت، ملأ جدي فراغها بشاربه الكبير مثله جالساً على مقعده ببسمة تفضل بها على المصور، واضعاً ساقاً على الأخرى، وزوجته -جدتي - تقف خلفه مزهوة برضاه عنها لدرجة أنه قبِل تواجدها معه في الصورة، ولكي يثبت تقديره لها أنعم عليها بالوقوف خلفه كأي زوجة مطيعة لزوجها.
رأيت هذا فابتسمت لجدي الذي اهتز شاربه بطريقة طفيفة جداً، واعتدل أكثر فارداً صدره ليؤكد لي ويقنعني أن ما أراه حقيقة وليس خيالاً، مضيت عنه وأنا أهز رأسي باقتناع تام كما أراد.
...
بالأمس كان أحد أقاربي يحدثني عن أمه الأرملة التي توفي عنها زوجها وهي شابة وترك لها أولاداً ثلاثة، ورفضت الزواج بعده لتتفرغ لتربية أبنائها، تأثرت بكلامه كثيراً، تذكرت حالات عدة حدث فيها هذا، وبخاصة في الصعيد مع الدكتور علي باشا إبراهيم الذي ترملت أمه الفلاحة البسيطة، لكنها أصرت أن يستكمل تعليمه إلى أن أصبح من أشهر الجراحين، بعدها مررت بالصورة كالمعتاد، فإذا بي أرى تلك السيدة التي حدثني عنها قريبي جالسة وحيدة، وعلى رأسها تاج من الفل وعلى صدرها قلادة من الياسمين، وأبناؤها حولها ينثرون البسمات على الناظرين، فحييتها بانحناء رأسي ومضيت.
...
اليوم حدث أمر جلل في نطاق عائلتنا، حدث لم أسمع عنه من قبل، علمت بحالة طلاق في عائلتنا التي كان الطلاق فيها محرماً كعرف مرفوض تتناقله الأجيال، على الأقل من نساء العائلة، فكلما فكرت إحداهن في الطلاق؛ أو اشتكت من زوجها؛ يجيء جواب الأم دوماً قاطعاً كحد السيف:
- اصبري من أجل أولادك.
فإن لم يكن لها أولاد قيل:
- اصبري وتقربي من الله ليهدي لك زوجك، الطلاق يابنيه يقلل من المرأة، ونحن نساؤنا غاليات.
وهكذا.
لكنه حدث أخيرا في عائلتنا.
مررت بالصورة محاولاً تجاهلها هذه المرة ولكنني بالرغم مني حدقت فيها، كان فيها زوجان كلاهما يحمل على سيماه ملامح غضب، وجهاهما منقبضا الأسارير، متجهما العينين، يعطي كل منهما ظهره للآخر في حنق. أعطيتهما ظهري أنا أيضاً عازماً على معاقبة الصورة على جرأتها في خرق تقاليد العائلة!
...
لم أصدق عيني وأنا أرى الصورة تتبدل وتتغير بصورة عشوائية، فمرة أرى زوجة تجادل رجلها، وأخرى أرى زوجاً يتشاجر مع زوجته، وثالثة في قاعة محكمة تستمع وتحاول فض خلاف، أرهقتني متابعة هذا التغيير المستمر، مما دفعني إلى حمل الصورة قاصداً إقصاءها عن مكانها فوراً، وضعتها في دولاب المهملات ونسيت أمرها إلى أن جاءت ابنتي الوحيدة تحمل ابتسامة خجلة، وهي تهمس: مراد زميلي يريد مقابلتك غداً.
أدركت قصدها فوراً، أجلستها أمامي وبدأت مرحلة الاستفسار كيف وأين ولماذا؟
كنت مندفعاً بحكم أبوتي، لكن أخرسني فوراً رؤيتي للصورة في مكانها المعتاد، لكنها هذه المرة لم تكن تحمل صورة صامتة بل فيديو قصير تقف فيه فتاة أمام والدها تطلب منه أن يذهب معها لبيت زميل لها، الأب يسألها لماذا؟ فتقول ببراءة:
- نخطبه من أهله!