
حين نحاول الاقتراب من العنونة التي تسم أي عمل إبداعي؛ فإننا نكون في مواجهة مع العنوان وما عنون له، الاسم والمسمى. وهذا العنوان الذي نحاول مناقشته -هنا في هذه القراءة العجلى- يبدأ بفعل، فنكون أمام (فعل البداية)، و(بداية الفعل) بداية القصيدة، وبداية السيرة التي تسعى القصيدة لتدوينها، أو بالأحرى بوضع معالم دالة فيها، ولا شك في أن الوقوف أمام النص الذي حمل هذا العنوان يكشف لنا عن طبيعة هذه البداية:
وقبل الأحد
بدأتُ مع البحر
أركب أمواجه
يوم بشرت (الداية) البيتَ
قالت: ولدْ
يقولون: حارتنا ابتهجت
والنساء يصافحن أمي
وأمي تهز البشارة في قلبها
ثم يسقط عنها الكمد
وأبي لك العالم الشيخ أذن ثم أقام الصلاة
أتبدأ رحلة هذا الصبي
مع الوقت
ثم كبِرتُ
وقلمت من غفواتي
أظافر نومي
حين يأتي إلى بابنا الباص
يأخذ قلبي إلى المدرسة
سلام علي إذا ما بدأت الحياة
بسجادة
ألفت وجه أمي
وسجادة فاض دمع أبي فوقها
ثم قالوا انطلق
أنت وحدك في الدرب
فوقك رب أحد...
هذا النص يوثق سيرة البداية وبداية السيرة؛ إنها سيرة طفل كان بُشرى لوالديه، بل تمتد البشارة؛ من صوت الداية إلى قلب أم أمام الفرحة لا تلبث أن يتساقط عنها الكمد، لتعم البشارة المجتمع برمته؛ وكأن الحارة كانت تنتظر ميلاد هذا الولد. كما انتظره، بحر الشعر، وقلوب المحبين.
نحن أمام سيرة شعرية، وعادة ما تكتب السير نثراً، وهنا نكون مع بداية، لكن الجملة الأولى في هذه البداية، أو في هذه السيرة هي بداية يحملها "تعبير ماكر"، فعن أي بحر يتحدث النص؟ أهو البحر العربي الواقعي الذي ربما ولد الشاعر معه، أو قريبًا منه؟ ربما، لكننا أمام شاعر، وأمام خطاب شعري، فقد تجنح الدلالة إلى البحر الشعري، وهو المعادل للشعر، فكأن الشاعر أراد أن يوثق لحظة اقترانه بالشعر، بلحظة اقترانه بالوجود، مولوداً، بدأ مع البحر، بحر الواقع، وبحر الشعر، وبحر اللغة.
وتتأطر هذه السيرة بملامح الطفولة التي يلوذ بها الشاعر بوصفها قناعاً سيرياً يستدعيه ليكتب حاضره، وينسق ملامح سيرته، سيرة تتفتح بصرخة الميلاد، تعقبها بشارة الحياة، وتنختم بصرخة (البعض) عند الرحيل.
سلام على البدء والمنتهى
على فرحة الأهل عند قدومي
على صرخة البعض عند رحيلي
على الأرض حين تفتش عن ضحكة فوقها
إنما لا أحد...
لا أحد.
هي سيرة محفوفة بصرختين وضحكةٍ، صرخة بداية تبعث ضحكة الأهل والحي، وصرخة كانت مع مشهد الوادع، لكنها صرخة (البعض) عند الرحيل، صرخة ألم وفاجعة على (الأرض)، الأرض التي تبحث عن ضحكة فوقها، لكنها الضحكة الآفلة، فلا أحد. لقد غاب مشعل الشعر، وصوت الحياة الذي كان يختزنه.
بدأت الرحلة في القصيدة قبل يوم (الأحد)، وانتهت الرحلة حيث تبحث الأرض عن ضحكة ولكن لا (أحد)، فقد غاب (أحدٌ) كان يمنحها الدفء والضحك، والشعر، غاب من جاء مع البحر، ومنه تسللت ضحكة البحر، وابتسامة الشعر، غاب في السيرة من لا يزال يمنح الحياة ضحكتها، وجمالها. -معنا هنا- في المشهد الإبداعي والثقافي.
إن السيرة تنفتح على بحر مجازي، وتنفتح في ختامها على وداع مجازي في الوقت نفسه، بين البدء والختام، نجد صبياً يحمل الباصُ قلبَه لمؤسسات المعرفة يتهجى الحرف، والحياة، بين البدء والمنتهى نلمح سجادة للصلاة ألفت وجه أم تبدو في السيرة، وأب يبلل تلك السجادة بالدمع، يرتقيان للسماء بروح صوفي في خلوته (يحرق مدمعه)، ويكتشف (سر التبتل والجوى)، والدانِ عشقا السجادة وعشقتهما، والتمسا خيط النور والإشراق السماوي، فأخذا يمنحان فلذة كبدهما سناءَه، ثم يقذفان به إلى الدرب، ويخاطبانه: (أنتَ وحدك في الدرب، فوقك رب أحد).
يكتشف الصبي خلال رحلته، تفاصيل قريته.. عالمه الأثير الذي يلقي عليه السلام، وقد بدأ بداية أخرى، وها هو يطارد أرغفة الصبر، يوم الأحد:
سلام على قريتي
وهي تنفض عنها النعاس
وتلبس فجر البلد
سلام علي إذا ما بدأت أطارد
أرغفة الصبر
يوم الأحد
يتكرر(الأحد) في القصيدة مراراً؛ وكأنه الخيط الذي ينتظم إيقاع السيرة والقصيدة، فهو بزوغ البداية مع البحر، قبل يوم الأحد، وهو محطة انطلاق الصبي إلى معاركة الحياة، والتقاط أرغفة الصبر مع بداية كل يوم أحد، و(الأحد) الرب الذي أوكل الوالدان -المتبتلان في سجادة النقاء- إليه حفظ هذا الصبي ورعايته. و(الأحد) هو الإنسان الذي غاب، فغاب من يمنح الحياة ضحكاتها، تفتش الأرض عن ضحكة فوقها؛ إنما لا (أحد)، وهنا تلتئم الدلالة بين الأحد الزمن، والأحد الإله، والأحد البشر، لتوثق لنا سيرة شاعر، تتجلى ملامح شخصيته الإبداعية، والروحية، والعملية، طبقات المعنى الذي تكثفه القصيدة. القصيدة التي ترجمها الإهداء "إلى البحر في سكونه الهائج.. الذي لونته بدماء الشعر... لعله يعرف سر السر، ويخبئه في موجه الذي لا يحفظ السر".
القصيدة التي امتدت قصائد في الديوان، فكانت قصائد الديوان ترجماناً لسيرة المولود مع البحر، ولقصيدة (ولدت مع البحر). أي أننا أمام عالم إبداعي جمالي، وأمام سيرة شعرية مفعمة بالضوء، تتوزع تفاصيلها في نصوص الديوان، فهل نحن أمام حالة سيرية شعرية؟ ربما!

إنها سيرة شاعر ولد مع البحر، (يساقط شعرًا)، وما يزال (يفسح المجاز)، ويستوي على (جودي القصيدة)، يغزل لنا من (وحدته قمرًا)، ويفسر (رقصة الأشجار)، شاعر ينعى زمن (العبور على الرماد) والحرائق، وينتظر (ثمر الأرض)، يكتب توقيعاته بـ(براءة) طفل (على صراط الرؤية)، (معجون بالأرق) ينادي –مع النّفَّري- يا معشر الشعراء: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".