دير المدينة... القرية التي صنعت المجد

د. محمد إمام صالح


حرص المصريون القدماء على تسجيل تفاصيل حياتهم اليومية بشكل كبير على جدران مقابرهم، لتكون سجلاً حافلاً يحكي تفاصيل دقيقة عنهم، ومن خلالها وبعض الوثائق الأخرى يمكن أن نتعرف على سماتهم، فهم كأي مجتمع به الصالح والفاسد، والبر والفاجر.


تكوَّن المجتمع في مصر القديمة من ثلاث طبقات رئيسة:
1. الطبقة العليا: تكونت من الأمراء والأميرات أفراد البيت الملك، والوزراء، وكبار موظفي الحكومة، وكبار الكهنة الذين ينوبون عن الملك في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وكبار رجال الجيش، وكبار قادة الشرطة، ورؤساء الكتبة الملكيين، ورؤساء العمال، والحرفيين والفنانين المشرفين على الأعمال الملكية.
2. الطبقة الوسطى: تكونت في أعقاب الدولة القديمة، من الموظفين والكتبة الذين يعملون في الجهاز الإداري للدولة أو الضياع الكبيرة.. وهم: المهندسون، الأطباء، أصحاب الحرف من الصناع الفنانين، العمال المرتبطون بأعمال الملك، والتجار الذين حصلوا على امتيازات كبيرة لم تصل إلى مستوى الطبقة العليا، إلا أنها فرقتهم عمن هم أدنى منهم، فهم اقتنوا الخدم، وأرسلوا أبناءهم إلى المدارس، وسكنوا في منازل واسعة، وجهزوا مقابرهم بأثاث جنزى كبير.
3. الطبقة الدنيا: وتمثل قاع الهرم الاجتماعي، تكونت من صغار الموظفين والفنانين، والصناع، والحرفيين، والنساجين، والفلاحين، والجنود، والخدم، والرعاة.

ومن أشهر الأمثلة على مجتمع الطبقات الدنيا قرية دير المدينة:

 قرية دير المدينة 
 


تقع قرية دير المدينة في البر الغربي منها بالقرب من معبدي مدينة هابو والرامسيوم، وعلى قرابة ثلاث كيلومترات من مقابر وادي الملكات، وإلى جنوبها جبانة شيخ عبد القرنة وقرنة مرعى، تشبه المدينة في تخطيطها العام السفينة، ولها بابان يُغلقان ليلاً، ويحرسهما رجال من الشرطة النوبيين المدججين بالسلاح، يقطعها طريق رئيس يمر بمنتصفها تقريباً، يقسمها إلى ميمنة وميسرة، تصطف المنازل متجاورة وتكاد تكون متلاصقة، وما تزال توجد بقايا المنازل قائمة إلى الآن.
 


مقابر عمال دير المدينة


عاش في هذه القرية الفقراء، والعمال، والحرفيون ناحتوا مقابر ملوكهم في وادي الملوك، مجتمع مغلق على نفسه، لا يكاد ينضم إليهم غريب، ظل نجمها ساطعاً منذ عهد الملك تحتمس الأول، حتى بدأ يخفت في عهد الملك رمسيس الرابع، بعد قرابة 500 عام من سكنهم فيها، عقب سلسلة من الإضرابات لعدم صرف مستحقاتهم، واستمر السكن فيها والعمل على استحياء، وليس كسابق عهدها حتى العصر البطلمي.
 

خلّف سكانُها وراءهم آلاف الوثائق من شقافات، وبرديات، ولوحات تحكي قصتهم، وهو كنز معرفي عن حياة عامة المصريين القدماء يفوق ما تركه الملوك قاطبة، مثل تعاليم "مري كا رع" لابنه، ووثائق للزواج، والطلاق، والبيع، والمحاكمات كذلك، والتي تُعد جزءاً من كم كبير عن الحياة الاجتماعية في مصر القديمة، وليس في دير المدينة فقط، مسجلين أحداث حياتهم اليومية على العديد من المواد، وهي:
1. البردي: وكان استخدامه شائعاً جداً لتوافره، وتميز بسهولة الكتابة عليه، ويمكن طيه.
2. الشقافة: انقسمت بدورها إلى شقين:
أ- كسرات الفخار: استخدمت كمسودات قبل نقل محتواها إلى البردي.
ب- كسرات الحجر الجيري: استخدم بشكل كبير في النصوص التي كُتبت بالخط الهيراطيقي.
3. الخشب: واستخدم على نطاق ضيق.
 

منظر من مقبرة العامل باشدو يتعبد فيه

تحسن الأحوال الوظيفية للعمال:

تحسنت أحوال عمال البناء كثيراً إذا ما قورنت بمثيلتها في العصور السابقة، خاصة في عصر الدولة الحديثة؛ لارتباطهم بالملك، فهم المسؤولون عن تجهيز مثواه الأخير بعد مماته، فبلغ المشرفون على بناء المقابر الملكية منزلة كبيرة، ودرجة رفيعة، وشغل بعضهم مراكز وظيفية مرموقة، كما حرصت الدولة على تنمية مهاراتهم في الكتابة، وهو ما يشير إلى وجود شكل من أشكال المدارس لتعليم العمال.

ويبدو أن هذا التصور به شيء من المبالغة، فلقد وصف "خيتى دواو إف" حال العمال في معرض حديثه لابنه ليحثه على تلقي العلم، واصفاً ما لاقاه عمال البناء من مشقة وتعب، فهم يعتلون أسطح المنازل للقيام بأعمالهم، وهو ما لا يمارسه أبناء الطبقة العليا: "بَنَّاء الجدران كليته مُتْعَبَة، فهو موجود في الهواء الخارجي، يداه مُتْعَبَة من الإرهاق والصلابة، ملطخ بالوحل، ويأكل الخبز بأصبعه ويغسلها مرة واحدة"، وفي نص آخر يعود أيضاً لعصر الدولة الوسطى، يحكي عن ظروف العمل الشاقة التي عانى منها العمال، أثناء نقل تمثال "جحوتي حتب" بالبرشا: "الطريق الذي اجتازه (التمثال) عسيراً، شديد الوعورة، وجرُّ ذلك الوزن الثقيل شاقاً على قلوب الرجال؛ لأنه من كتلة واحدة ثقيلة من الحجر الصلب".

كما أن نسبة المتعلمين في مصر لم يزد عددهم في أقصى تقدير على 1% في فترة العصر المتأخر، لذا؛ فإن توفير مدارس لتعليم العمال القراءة والكتابة شيء صعب، وإلا فلماذا لم يتحولوا جميعهم إلى كتاب ليتخلصوا من شقاء مهنتهم! وإذا احتج قائل بأن هذه المشقة ربما كانت في عصر الدولة الوسطى حيث عاش صاحب النص، خاصة وأنه كان يُحَقِّر من المهن الأخرى ليكون ابنه كاتباً متعلماً، بينما تحسنت الأوضاع في عصر الدولة الحديثة؛ فإن هذا الاحتجاج غير منطقي، فحتى مع تحسن الأوضاع لن يكون عامل البناء مرفهاً، أو يكون عمله بلا مشقة، وهذا لا يزال وضحاً حتى يومنا هذا، فالتحسن ربما نتج عن اهتمام الدولة بأوضاع العمال آنذاك، ومن الحقوق التي حصلوا عليها:

تنظيم العمل

أنشأت الدولة في جهازها الإداري إدارة للأشغال العمومية، ترأسها أحد كبار الشخصيات الذي حمل لقب المشرف على كل أعمال الملك، تخضع سلطته الإشرافية إلى الوزير، وكان يتلقى الأوامر الملكية بخصوص الإنشاءات، ومكلفاً بإمداد العمال بالمعدات والمواد الغذائية، وإرسال البعثات للمناجم، والمحاجر لاستخراج مواد البناء، ويدير العمال.

وخضع عمال البناء لسلطة مدير يسمى المشرف على البناءين، الذين ينقسمون إلى قسمين: اليمين واليسار، وتنقسم كل فرقة منهم بدورها إلى فرقتين، ويشرف على كل فرقة منهم رئيس البناءين.

ومع مطلع الفجر تقريباً، يتحرك العمال من القرية، بعد أن يسلمهم الكاتب المصحاب أدوات العمل، الذي يسجل بياناتهم على شظايا من الحجر لينسخها في يوميات الجبانة، ومع الظهيرة يتوقفون عن العمل، ليحصلوا على قسط من الراحة في أكواخ مبنية من بقايا أحجار المقابر، ليحتموا من لهب الظهيرة، ويحصلون على وجبة خفيفة، قبل أن يعودوا إلى أعمالهم مرة أخرى. وتحددت ساعات العمل بثمان ساعات يومياً، مع منحهم يوم إجازة كل عشرة أيام، بخلاف الأعياد الكبرى واحتفالات المعبودات الرئيسة، كما كان يحق للعمال أن يتخلفوا عن العمل، مثلما سجل أحد رؤساء العمال على لوحة ترجع إلى عهد الملك رمسيس الثاني، محفوظة في المتحف البريطاني، أسماء ثلاثة وأربعين عاملاً كتب أمام أسمائهم بالمداد الأحمر أيام وأسباب غيابهم. ولقد تنوعت الأعذار ما بين المرض، لدغة العقارب، تقديم قرابين للمعبودات، انحراف مزاج الزوجة والابن، وأداء بعض الأعمال المنزلية مثل تخمير الجعة.

أجور العمال:

أشارت السجلات الحكومية إلى أجور العمال التي تقاضوها نظير عملهم، وكانت في صورة جرايات عينية، أو مواد غذائية من الحبوب أو الخبز، توزع عليهم طبقاً لدرجاتهم وأعبائهم الأسرية، إلى جانب الأسماك، الخضر، الزيت، الأقمشة، تُصرف إما مرة واحدة شهرياً مثل: الجعة، حبوب، البصل، لحم مجفف، أملاح، ملابس الكتان، أو كل عشرة أيام مثل: الدهون، علاوة على الفواكه، خشب الوقود، ففي نص للملك سيتى الأول يذكر فيه كرمه مع عماله قائلاً: "كل عامل سيتقاضى أربعة أرطال من الخبز، حزمة من الخضروات، قطعة من اللحم المشوي كل يوم".

وفي نص آخر مؤرخ بعصر الملك رمسيس الثانى، عثر عليه في منطقة منشية الصدر جاء فيه "أيها العمال المهرة الشجعان، لن توجد صعوبة في زيادة نصيبكم من الفول، سوف أوفر لكم السرور، سوف تُملأ لكم المخازن، كل شخص سيستلم جرايته شهرياً، سوف تملأ المخازن من كل صنف من الخبز، واللحم، والفطير، والنعال، والملابس، والعطور.. سوف توزع عليكم الملابس سنوياً، ستنتعلون شهرياً حتى لا يمرض أحد". وفي نص آخر لموظف يدعى "كاوسر" يتحدث عن الأجور في دير المدينة أنه "أعطى مكيالاً من القمح لجنود الجيش (أي العمال)، وللعابير والذين يجرون الأحجار للصرح العظيم... إنني أعطيهم تعينهم من القمح كل شهر طبقاً للطريقة التي أخبرني بها سيدي".

وربما احتوت هذه النصوص كذلك على نوع من المبالغة، وهي شائعة في الأدب المصري القديم، خاصة إذا تعلق الأمر بالملك؛ لأنه خليفة المعبود على الأرض وممثلاً له، فأصبح كل ما يتعلق به يتعلق بالتبعية بالمعبودات، فلا بد وأن يظهر أنه قادر ومسيطر على الأوضاع في مصر القديمة.
 

 أفول نجم القرية 

دخل الملك رمسيس الثالث عدة حروب ضد شعوب البحر، وتعرض الاقتصاد لهزات شديدة، أدت إلى تعثر صرف رواتب العمال، الذين أضربوا عن العمل كأول إجراء عمالي في التاريخ، وتدخلت الشرطة في الأمر، واستطاع قائدها إقناع كهنة أمون بصرف جزء من رواتب العمال من مخازن معبد مدينة هابو، مع وعود بالانتظام في صرف رواتبهم.

مرت الأيام ولم تستطع الحكومة تدبير رواتب العمال، الذين حملوا المشاعل واتجهوا صوب معبد مدينة هابو للاحتجاج، ولكن ازدادت الأمور سوءاً لتردي الأوضاع الاقتصادية، فبدأ العمال بالهجرة من القرية ليأفل نجمها بعد مرور مئات السنين على تواجدهم في قرية دير المدينة، وعلى الرغم من محاولات بعض الملوك في العصر البطلمي إعادة القرية إلى ما كانت عليه سابقة، إلا أنها لم تَعُد كما كانت من قبل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها