عين القلب؟!

في رواية "سلطان الغيب"

محمد نجيب قدورة

لَشدَّما أحببت التمسك بخيوط شمس الصباح، رغم أني أعي أن لا طاقة لي بذلك التمسك، ولو كنت مثل الأديب السارد د. عمر عبد العزيز، لأمكنني إقناع نفسي بأن الإمساك ممكنٌ حتى بألوان طيف قوس قزح، إذا كنتُ أمتلك خيوط حرير الكلام. لكن شاعرية الكاتب الروائي أغرتْني بأن أنصب قلبي حكماً في فصائل الأدب والفن، حيث رأيت كغيري أن التاريخ ليس هو الحياة الواقعية فحسب، لأنه مسكونٌ ما بين سطوره بقابلية الاستلهام والاستنبات من جذور تحت الطمي والرخام، ذلك لأن عابر "سلطان الغيب" اتخذ الرواية وعاءً لشرح فكرة فلسفيّة وتجليات صوفية تجعل السرد مثقفاً، فالنفس ترى بعين القلب أبعد مما تراه العين المجردة.

والسؤال الذي يطرح ذاته: إلى أيّ حدّ كان الأديب مجوداً في تحليل نفسيات وأحداث شخوصه التي كان هو محرك بحثها عن معنى الوجود، حيث لا أحد يقوى على سرقة الشمس والهواء والماء والتراب مهما طالت أياديه؟

الكاتب في رواية سلطان الغيب ذو حدسٍ فلسفي قائم على نشوة النص الملحمي في مباحثه السردية، حيث يصارع الزمنَ الموجودَ والزمن الضائع والزمن الحلم، فالمُجارح هو الطبيب الشعبي المكابد المتقصي المتفاعل مع الطبيعة كإحدى سمات الفن التشكيلي، التي تنطق بمفاهيم الغيب في فهم سرّ الجمال السحري للورود الجميلة المتعلقة بالسحاب، وتكيف الكائنات قوة كافة في سلطان الغيب، فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له في اعتقاد المتصوّفة وهم ينشدون:
على العقيق اجتمعنا
نحن وسود العيون

والحمودي الأب روحُه مسكونةٌ بابنه في عدن، حيث الآمال معقودة على قلب المعادلة التي ترسم بقلم الرصاص شجرة الحياة، أو إشارة من أم تشير إلى البحر في مقديشو قائلة: مِن هنا سيأتيكم العدو! فالأم ترى مرئيات بحدس القلب لا يراها غيرها، وما ذلك إلا لأن هناك فرقاً بين رؤية البصر ورؤية البصيرة.

ومن عجائب ما يسرد الكاتب أن جدَّه المدعوَّ لقباً بالطيار، عندما ضاقت عليه السبل في الارتحال على متن سفينة، فاجأ القبطان بأنه يطير فوق عمامته صوب اللامكان، غيرَ عابئ بإبصار الأعين المذهولة.

يموت أخو الراوي عباس المقاوم، ثم يعود عبدالعزيز بن محمد المجارح إلى تعزّ ليشهد موت أخته بعد أربعين عاماً، ويصاب هو بالملاريا القاتلة بعدما ولد العابر الناجي من التسمم الولادي خارجاً من شرنقة الموت ليجد نفسه بعيداً عن تعزّ، في بلاجة عرب في مقديشو، متحدثاً باللغة العربية والصومالية والإيطالية، فيشغف بالمكان ويصف وصف العاشق، ويتعلم الحكمة من باعيسى، ويشهد الحضرات الصوفية في مسجد النور الموسوم بأنه مدرسة كبرى لعالم الأرواح، فكانت أحلام الحمودي عمر السارد رحلة منامية صافية، تمخضت عنها تجربة في إيقاع الفن في مصفوفة لونية، قيمةُ لوحاتِها أنه أوصلته من مقديشو عدن حاملاً معه شريط ذكريات سيعود لسردها بعد عودته من رومانيا، التي تأثر فيها بلغة النثر واهتم بكتب الفلسفة وعلم الجمال وتاريخ الفن، ثم ازداد تأمُّلاً واطّلاعاً على فلسفة الحلاج وابن الفارض وابن عربي، وتبقى عدن في ذاكرته محطةَ ربط بين الخليج العربي وبحر العرب وخليج عدن.

وخلال سرديات الكاتب، لا يستطيع انفكاكاً من عين قلبه التي رأت ما رأت من عاشقين، كأمثال الوسيم الذي يغدو قبييحاً بعد جلوسه على كرسي الحلاقة، وفوز العازف المعقوف ظهره بفضل نغماته الشجية الدالة على الفروسية، رغم أن الحصان تسبب بأن يكون الأحدب الذي لا يتخلى عن حلمه بأن يكون كما أراد، ثم نرى حامد جامع (الاسم على مسمى) يرتبط بشعبه وبلده وبيئته، وهو يقول: فيها ولدت وفيها أموت، بعد أن تعلق قلبه بالقديسة العدنية اعتدال ديرية، كارهاً ثقافة الأحزاب المدججة بثقافة مراعي العشيرة، في وعي عدمي لا يسأل عن الغيب في حكايات القات وحلقات الذكر، فزمن الرذاذ لا يكتمل، مثل زمن سقوط الطائرة الدبلوماسية الذي أدى إلى ضحايا من أصدقاءَ يُؤسَف على كونهم قضوا والوطن بأمس الحاجة إليهم. وكانت حركة سلطان الغيب وراء نجاة الحمودي عمر الذي كان من المفروض أن يكون ضمن الوفد لتغطية تحركاته لولا انشغاله بتغطية أخرى.

وتبقى عدن في الذاكرة؛ فهي التي لا تمحى صهاريجها التاريخية الطويلة من الذاكرة، ولا يغيب عن فكر الكاتب أن جزءاً منها يقع على فوهة بركان الجبل الشامخ، وعدن هي التي حملت ثنائية المجذوبة مريوم، التي تتنبأ بعواصف البحار وتحديد موعد الأمطار، وتُسكت كلاب الحي وتستدعي أسماك البحر بصفيرها بمؤازرة نديم ومرئياته البحرية في (بلاجة عرب)، بعد الوصول من عدن إلى مقديشو هرباً من التنازعات الحضرمية.

الجميع في رؤية الكاتب يعشقون البحر كلهم يرون واقعهم بعين القلب؛ من مريوم الطفرة في دبي وعدن ومقديشو، إلى (مرام) الفكرة في (بلاجة عرب)؛ فالأنثى تحمل الزهد وتتجلى مناجية زوجها الغائب في جزر واق الواق، وهي ذاتها في دبي كذلك تقتات مما يجود به البحر عاطفة على قطتها المتشردة، حيث صورها المصور الأعور في عين واحدة وهي سعيدة بالموت الجميل غير آبهة ببهلوانية (حَسَنُو)، الواقف على رأسه بدلاً من رجليه ويديه، ثم كأن الجميع يتحولون إلى سحابة ثم يعودون كما كانوا يطيرون مع منديل ويختفون بين السحاب، ثم يستسلمون لنوم اليقظة، يرون حصاناً يجري بسرعة البرق فيدركون مغزى الغائب الحاضر، وأحدهم يعيش بين منزلتين من الحيرة والغياب في مدينة المرايا العالية والكائنات الملتصقة بالأرض، حتى وإن بدت كالنعامة التي لا تكاد تطير فنراها بعين الدهشة تستعيد ذاكرتها بين البحار (نديم وبائع البسكويت با يعشوت، والعاشق حسنو والفاتنة مكة)، ليبقى حسنو اليماني عاشقاً افتراضياً.

هكذا يدرك الحمودي الحفيد المعنى العميق لما يعول عليه، وهو يسرد ملحمة فلسفية في عمقها، واقعيةً في توثيقها الاجتماعي والتاريخي، حيث يكون سلطان الغيب وحده القادر على شطب ما كان، وفتح الأبواب والنوافذ لما سيكون، في رحلة الحمودي الجوّال المترحل، فيسمى الحمودي الكاتب السارد لذاته في صورة نفسية تبصر بقلبها دون أن تنسلخ عن مفاهيمها ومبادئها.

أجل لقد وضع الأديب عمر قدميه في عرضه الأحداثَ فوق درجة الصفر؛ مستنيراً بأبعاد الأساطير، كالجنية المعطرة في المعتقد الشعبي عند أهل الإمارات وأهل اليمن والصومال، وهو في كل ما يروي يقصد بأن وراء المعرفة ما هو أعمق في الشيفرة والجين، وهو ينسج كلامه في جودة السياق، فيشبك بالسرد طرفي كل حلقتين بتقدير محكم، لأنه في الأصل فنان تشكيلي يتعامل مع مرايا الصورة ويفهم التداخل بين الأجناس الأدبية في لغة تعبيره الشاعرية، وهو الحاكي والرائي والمتأمل في أسرار اللوحة الكونية، متدبراً في عالم الأحلام وسيرورة الخلق، وهو يستخدم بأسلوبه الدال والمدلول في حقيبة الذاكرة التي تتسع كلما استخرج من دررها ما يصلح لعقد الرواية الفريدة.

وبعد: فلقد وجدت في رحلتي مع الرواية متسَعاً من تطواف عامر بالواقعية وما يتجاوزها، وهو يسلك مسلك صديقه الروائي المفكر إبراهيم الكوني حيث الدكتور عمر عبدالعزيز في رواية (سلطان الغيب) لا ينقص قدراً، إن جاء في تداعيات واسترجاعات غير منتظمة، فهو يريد المعاني والمغاني معاً، ليبدو لنا علاّمة في إبداعه الروائي كما ذكرت الدكتورة (أمل الجمل) في تقديم الرواية، فإذا كان د. عمر سارداً فناناً فهو معبر شاعري نسّاج ماهر في الحبكة السردية، تحسّ وأنت تقرؤه بغنائية الدراما حتى في أشدّ التوصيفات الساخرة عفوَ الخاطر، بما يذكّرنا بسخرية أرنست همنغواي المؤلمة في رواية (الشيخ والبحر)، وضحك الأقدار له، والكاتب هو الناجي من عدة تسممات.. تسمم الولادة وتسمم الفكر، ناهيك عن تسمم السياسة في الحروب الأهلية، وهو يرى بقلبه دائماً انعطافاً في كل مرحله باتجاه فكر نيّر لافت، هو العابر فيه إلى رحلة القلب المثقف الذي يعي أن لا أحدَ يقدر على منع الورود من أن تفوح بعطرها.. ذلك ما يدعوه الكاتب حلم اليقظة أو يقظة الحلم، الذي راود المسرحي الشاعر أحمد علي باكثير والشاعر البصير عبدالله البردوني في رؤية الجميع بعين القلب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها