ترتبط الأمكنة عادة بسلسلة معينة من الصور، ما إن تُذكر حتى تقفز إلى الذهن متتالية ومتساوقة، لتميّزها عن أي مكان آخر، ومن هذه الأمكنة بيت الشاعر الراحل مصطفى وهبي التل المعروف باسم "عرار" في مدينة إربد (شمال الأردن) الذي بني قبل نيّفٍ ومئة عام، وتحول منذ أكثر من 20 عاماً ليكون متحفاً ينقل الزائر عبر رحلة حافلة بالقلق وعدم الاستقرار، لشاعر لا منتمٍ هجر المدنية والحضارة، وعشق حياة الصعلكة والترحال والانعتاق من كل القيود والأسوار.

بعد اجتياز مدخل البيت، وهو عبارة عن قوس منكسر وعبور عتبات حجرية من البازلت الأسود، يلج الزائر إلى رحابة المكان لتستقبله شجرة توت ضخمة ملتفة يختصر عمرها تاريخ هذا البيت، وتبدو هذه الشجرة وكأنها تحاكي قوام غجرية راقصة من اللواتي تغزل بهن عرار:
يا جيرة البان إنّ الكأس قد عصفت.. بالرأس عصفا، فنضو الكأس كيف يعي
نار ورعد وماء كلّها اختلطــت.. في الصدر والنفس والعينين من جزع
وعلى جوانب الباحة السماوية تقابلنا غرف متشابهة على شكل حرف U اللاتيني، وليوان كبير توسطت في صدره صورة للشاعر عرار من الفسيفساء باللونين الأسود والوردي بشعره الطويل المرسل ونظراته الثاقبة الموحية، وفي وسط الليوان ينتصب قبر عرار الخالي من أية نقوش أو زينة؛ فكأنه صورة عن حياة الشاعر، وعلى شاهدة القبر دُونت العبارة التالية (الفاتحة هذا ضريح المرحوم الشاعر المحامي مصطفى وهبي التل دون ذكر (اللقب الأشهر له وهو عرار)، توفي في يوم الثلاثاء في 27 رجب 1391ه الموافق 24 أيار 1949 م رحمه الله)، وإلى يمين القبر إحدى قاعات البيت التي أعدت كمقر للإدارة، وخصصت كمكتبة للكتب والدراسات التي تناولت حياة وأدب عرار، ومنها كتاب البدوي الملثم (عرار شاعر الأردن) الصادر عن دار القلم ببيروت، وديوان عرار (عشيات وادي اليابس) جمع وتحقيق وتقديم الدكتور زياد الزعبي، وأعداد متفرقة من مجلة عرار الثقافية الشهرية التي كانت تصدرها وزارة الثقافة الأردنية.
ومقابل هذه القاعة تواجهنا قاعة واسعة خصصت لعرض صور فوتوغرافية نادرة تعكس جوانب من تاريخ الشاعر عرار، ومنها صورة له مع الملك عبد الله بالبزة العسكرية، وإلى جانب الملك عبد الله عبد القادر الجندي، والدكتور جميل فائق التوتنجي، وصورة لعرار وهو يخطب في المؤتمر الوطني الأردني عام 1928 وصورة للشاعر وبجانبه ابنه وصفي الذي أصبح رئيساً لوزراء الأردن فيما بعد، وهناك صورة لعرار في شبابه يبدو فيها مسترخياً على مقعد وقد وضع يده على رأسه في حالة انخطاف وتأمل، وصورة للشاعر بوشاح القضاء مع بعض المحامين والقضاة في أربد، وفي منتصف القاعة انتصبت طاولة سوداء اللون من "الفارميكا" أُطّرت بقضبان حديدية، قيل لنا إنها الطاولة التي كان الشاعر يكتب عليها قصائده.
كرام مغاليس:
عند الخروج من هذه القاعة والانسلال من تحت شجرة ضخمة تقابلنا غرفة خُصّصت للكثير من الكتب والمؤلفات، وعشرات الصفحات الصحافية الأردنية والعربية التي تناولت سيرة عرار وأشعاره، ومراحل نضاله الوطني والقومي ضد الاستعمار البريطاني للأردن وفلسطين، ومنها صحيفة الأردن الصادرة بتاريخ السبت 13 آب سنة 1949 التي جعلت المانشيت الرئيسي لها تحت عنوان (وصف حفلة التأبين الكبرى في أربد لشاعر الأردن الملهم)، وفي القاعة وثيقة شراء جريدة باسم الأنباء بتاريخ 26 نيسان 1938 بمائة جنيه فلسطيني، والطريف أن الشاعر بعد مطالبته بالموافقة على إصدار هذه الجريدة والالتزام في نشرها وفقاً للقوانين المرعية في البلاد، كتب في آخر الطلب البيت الشعري التالي:
الله يعلم والأيام شاهدة.. أنا كرام ولكنا مغاليس

صرح ثقافي وحضاري:
بعد جولة في قاعات البيت – المتحف التقى كاتب التحقيق الأستاذ "محمد محاسنة" الذي أنجز فيلماً وثائقياً يتحدث عن حياة الشاعر عرار، ويتولى إدارة متحفه، فذكر لنا جوانب من تاريخ هذا البيت الأثري الذي بُني كما قال من قبل والد الشاعر "صالح المصطفى التل" عام 1890 في الطرف الجنوبي لتل المدينة، الذي لطالما تغنى به الشاعر:
يا أردنيات إن أوديتُ مغترباً.. فانسجنها بأبي أنتن أكفاني
وقلن للصحب واروا بعض أعظمه.. في تل إربد أو في سفح شيحان
واستخدم البيت لأغراض متعددة منذ إنشائه، حيث أصبح مستشفى لبعض الإرساليات، وشغله طبيب إنكليزي من أصل هندي يدعى (سينان)، ثم تحول كمقر لمدرسة العروبة في بداية الأربعينات لمدة خمس سنوات، ثم عاد إليه الشاعر ليعيش فيه آخر أيامه قبل أن يتوفى في مستشفى عمان في 24/ 5 / 1949
وحول فكرة تحويل البيت إلى متحف خاص بالشاعر عرار يقول المحاسنة:
بدأت فكرة تحويل بيت عرار إلى متحف وصرح ثقافي وحضاري بارز بالتعاون مع أقرباء الشاعر، الذين قاموا بنقل رفاته من المقبرة المجاورة في التل، وقامت شقيقات الشاعر بالتبرع بهذا البيت على أن يكون متحفاً مخصصاً للشاعر، يضم إرثه من كتب وصور فوتوغرافية ووثائق، كما يحتضن دراسات كتبها النقاد حوله، وللأسف فالمتحف اليوم لا يضم أشياء من متعلقات عرار، باستثناء الطاولة التي كان يكتب عليها؛ لأنه حقيقة لم يترك شيئاً من متعلقاته بسبب تنقله وترحاله الدائم ومرافقته الدائمة لغجر الأردن، لكن هناك بعض من هذه المقتنيات موجودة بحوزة أهله، وتم إهداء بعض منها لجامعة اليرموك في إربد، ونحن نجهد للحصول عليها من أجل ضمها لما هو موجود في المتحف من إرث الشاعر عرار.

يذكر أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" اعتمدت الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل "عرار" رمزاً عربياً للثقافة لعام 2022، وفقًا لقرار مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي في دورته الثانية والعشرين.
▴ الفيديو: التلفزيون الأردني Video © Jordan TV