النقدُ المنهجي العربي.. آراء وقضايا

محمد جعفر


عرف النقد العربي أوج ازدهاره في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولا يعني هذا أن النقد العربي لم يكن موجوداً، بل لقد مارست العرب النقد للمفاضلة بين الشعراء، قبل أن يكون لهذا النقد كيان ووجود، ونورد هنا نصاً يؤكد ما قلناه، حدّثَ بعضهم، قال: "تحاكم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر، أيهم أشعر؟ فقال للزبرقان: أما أنت كلحم أسخن لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وأما أنت يا مخبل فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر"1


فالنقد بهذا المعنى تعبير عن موقف كلي يبدأ بالتذوق، ومن خلاله تبدأ عملية التفسير والتحليل والتعليل والتقييم، لنصل إلى التأصيل لنقد منهجي واضح الرؤى والمعالم؛ وبناء عليه فإن النقد المنهجي العربي تأخر في البروز بالشكل الذي ظهر به مع الآمدي والصولي والمرزوقي؛ لأنه كان بحاجة ماسة إلى مرحلة التأسيس المبنية على التراكم في التأليف، وأيضاً نضج الحركة الأدبية التي زكتها الفرق الكلامية والخصومات النقدية وغيرها.

أولاً: النقد المنهجي وسؤال النشأة


 مذهب البديع مـا بين ابن المعتز وقدامة بن جعفر 

أ-ابن المعتز:

هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد(247-297ه)، الخليفة العباسي الذي ولي الخلافة ليوم وليلة ومات مقتولاً.

توطئة لا بد منها:
هناك حقيقة يستحسن البدء بها في حديثنا عن البديع وهي أن البديع "لم يخترعه أبو تمام، بل سبقه القرآن والحديث وشعر المتقدمين"2، وقد كان ابن المعتز على وعي بأن البديع فن لم يعرفه العلماء بالشعر القديم واللغة، فالبديع بهذا اللفظ لم يكن متداولاً غير أنه ينبغي الإشارة إلى أن بعض المصطلحات التي تدخل فيه استعملت قبل ابن المعتز، ومنها على سبيل المثال لا الحصر "الاستعارة"، "فالاستعارة مثلاً مصطلح قديم"3، لكن السبق في اكتشافه بلفظه يرجع إلى ابن المعتز الذي وطن له بكتاب خصه به سماه "البديع". "فهذا كتاب البديع، للخليفة العباسي: أبي عبد الله ابن المعتز يكشف عن لون جديد من ألوان البلاغة في البيان والبديع، وفي النثر والشعر"4.

ومع أن كتاب ابن المعتز سمي بـ"البديع"، إلا أنه تناول الحديث فيه أيضاً عن بعض محاسن الكلام والشعر من حسن الخروج، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، والهزل الذي يراد به الجد، وكأنه يريد بكتابه أن يكون كتاباً للبلاغة.

البديع عند ابن المعتز:
والبديع عند ابن المعتز يضم الاستعارة، والاستعارة "استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها"5، قال تعالى في محكم كتابه {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}6، كما يضم أيضاً الجناس أو التجنيس وهو أن تضم الكلمتان الحروف نفسها لكن المعنى يختلف فيهما كقوله عز وجل {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}7، فالشاهد عندنا هنا هو الساعة وساعة، فبالرغم من تشابه الحروف في الكلمتين إلا أن المعنى الذي تؤديه الساعة في بداية الآية يختلف عن معناها في نهايتها، فالساعة الأولى تدل على يوم القيامة أما الثانية فتعني الزمن أو الوقت. زد على ذلك الطباق أو المطابقة، ورد أعجاز الكلام والمذهب الكلامي، وقد اخترنا أن نتوقف عند هذا النوع من البديع لتقريبه من القارئ بالشرح والتفصيل، وسنبدأ بتعريفه، فقد عرفه ابن المعتز في كتابه البديع فقال: "وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاً، وهو ينسب إلى التكلف، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"8. وقد عرفه أبو هلال العسكري بأنه: إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل المنطق؛ أي أن يأتي المتكلم بما يبرر كلامه من حجة وبرهان.

يمكننا القول بعدما تقدم أن ابن المعتز وهو يؤسس لمذهبه الجديد قد جمع بين أشياء مختلفة يمكن إجمالها في:
- الاستعارة وهي العنصر الأصيل في الشعر.
- التجنيس والطباق ورد العجز على الصدر، وهي تتعلق بالشكل ولا تمس جوهر الشعر كثيراً.
- المذهب العقلي الذي يمثله المذهب الكلامي.

وتجدر الإشارة إلى أن "ابن المعتز كان ذا مذهب شعري ذي سمات ذاتية خاصة، قد تحول بينه وبين تذوق الأشعار التي تباين مذهبه"9. لقد حاول أن يظهر بمظهر تأثري مما جعله يحقق صفة الناقد العادل أكثر مما تحققه الموضوعية، ولعل كتابه "طبقات الشعراء" خير دليل على المنحى الذي اتخذه ابن المعتز في نقده للشعر والشعراء؛ إذ كان في منزلته الاجتماعية يمثل دور الرعاية والعطف على الحركة الأدبية، "وليس من خلق الراعي ذي اليد العليا أن يتجاوز حدود المجاملة الاجتماعية اللائقة"10. وينبغي الإشارة أيضاً إلى أن ابن المعتز لم يكن دائماً ذلك الناقد التأثري الذي يتملكه الإعجاب أمام الأثر الأدبي، فكتابه "طبقات الشعراء" يضم مواقف نقدية مغايرة بعض الشيء لما سبق، فمثلاً موقفه من شعر أبي تمام في رسالة يوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه البصائر توضح موقفه النقدي، حيث يرى أن أبا تمام قد بلغ غايات الإساءة والإحسان، و"قد جمعنا محاسن شعره ومساوئه في رسالتنا هذه، فرجونا بذلك ابتداع المسهب في امتداحه، ورد الراغب عنه إلى إنصافه، واختصرنا الكلام إيثاراً لقصد ما نزعنا إليه وتوقياً لإطالة ما يكتفي بالإيجاز..."11.

لكن ابن المعتز سيذكر موقفاً أكثر ليناً في الطبقات معتبراً أن أكثر شعر أبي تمام جيد، وأن الرديء فيه إنما بسبب اللفظ المستغلق والغريب.

"فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا"12.

لقد شكل كتاب البديع إذن حدثاً عظيماً في تاريخ النقد العربي، ففيه تحددت خصائص مذهب البديع، كما كان له تأثير في النقاد الذين جاءوا من بعده. فقد حاول ابن المعتز أن يوضح أسس مذهبه، ويحصي خصائصه ويحدد مبادئه، وبذلك أصبح مذهب البديع معروفاً فـ"الناظر في "أخبار أبي تمام" للصولي أو في "وساطة" الجرجاني، أو في غيرها من كتب الأدب، يجد أن ابن المعتز قد أثر على هؤلاء جميعاً. ولو لم يكن له من فضل غير تحديد الاصطلاحات، لكفاه ذلك ليتمتع في تاريخ النقد العربي بمكانة هامة"13. بذلك يكون ابن المعتز قد ساعد على خلق نقد منهجي بتحديده لخصائص مذهبه ووضع اصطلاحاته.

ب-قدامة ابن جعفر:
هو قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج: كاتب، من البلغاء الفصحاء المتقدمين في علم المنطق والفلسفة، "ولد في البصرة في الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري، وأدرك ثعلباً (ت: 291هـ)، والمبرّد (ت: 285هـ)، وابن قتيبة (ت: 276هـ) وطبقتهم، ونشأ وترعرع في بغداد، كان نصرانياً ثم أسلم على يد الخليفة العباسي المكتفي بالله (289-295هـ) كما ذكر النديم"14.

تأثر قدامة ابن جعفر بالثقافة اليونانية، فقد فسر بعض المقالة الأولى من السماع الطبيعي (سمع الكيان) لأرسطو، "وهذه الثقافة نفسها هي التي جعلته يشارك في النقد الأدبي؛ إذ لا نكاد نشك في أن المنزلة الثالثة من كتاب الخراج إنما كانت صدى لكتاب أرسطو في الخطابة"15، وقد كان لتأثره هذا بثقافة اليونان مفعول إيجابي سيتجلى في تأليفه لكتابه "نقد الشعر"، ثم إن صلته بثعلب وغيره من العلماء في زمانه أمدته بالمادة الأدبية الصالحة لبناء آرائه النظرية.

تبدأ النظرية النقدية لقدامة ابن جعفر بنقد الشعر، يقول في هذا "فأما علم جيد الشعر من رديئه فإن الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم، ولما وجدت الأمر على ذلك وتبينت أن الكلام في الأمر أَخَصُّ بالشعر من سائر الأسباب الأخر، وأن الناس قد قصروا في وضع كتاب فيه، رأيت أن أتكلم في ذلك بما يبلغه الوسع"16.

وإذا كان ابن المعتز يبدأ تفكيره من الوقائع والنظر فيها، فإن قدامة يعتمد في تفكيره منطقاً شكلياً صرفاً حيث يبدأ بتكوين هيكل لنقده ثم بعد ذلك يشرع في الدراسة، فمثلاً في دراسته للشعر عرفه أولا فقال: "إنه قول موزون مقفى يدل على معنى"، إنه بهذا التعريف يحدد لنا شروط الشعر رغم أنه لا يمكن الجزم بِعَدِّ كل كلام توفرت فيه شروط الوزن والمعنى شعراً جيداً، وإذن فلا بد من النظر في أسباب الجودة والرداءة. إن العناصر التي ذكرها قدامة عند تعريفه للشعر (اللفظ /الوزن /القافية/المعنى) عند ائتلافها تكون حسب الدكتور محمد مندور أربعة ائتلافات هي:
- ائتلاف اللفظ مع المعنى.
- ائتلاف اللفظ مع الوزن.
- ائتلاف المعنى مع الوزن.
- ائتلاف المعنى مع القافية.

هذه الائتلافات الأربعة هي الخطة التي يعتمدها صاحب "نقد الشعر" للتمييز بين جيد الشعر ورديئه عنده، "تلك هي الصورة الخارجية لكتاب "نقد الشعر" أردنا وضعها على هذا النحو لندل على أن الكتاب قد رسم حسب خطة دقيقة، لا تختل؛ لأن فكرة المؤلف واضحة تمام الوضوح في ذهنه"17، فالعناصر الأربعة التي حددها قدامة واعتبرها ذات أهمية في تمييز جودة الشعر لها مميزات كما لها عيوب، فكلما كانت خالية من العيوب عد الشعر جيداً، وكلما كثرت عيوبها تجردت من عباءة الجودة وعد الشعر في حالتها رديئاً.

فاللفظ مثلاً يجب أن يكون "سمحاً سهل مخارج الحروف من مواضعها"، والوزن كلما كان "سهل العروض، فيه ترصيع" وخالياً من العيوب والخروج عن العروض عُدَّ جيداً، والقافية يجب أن "تكون عذبة المخرج فيها تصريع"18. وخالية من عيوب الإقواء والسناد وغيرها، وائتلاف هذه العناصر بالمعنى هو ما يمنح الشعر حكم الجودة.

ولعل ابن المعتز خير مثل للناقد الانطباعي الذي كان يؤمن بأن "أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"، وهذا قول ورد في كتابه "الشعر والشعراء"، فالناقد بهذا غير معني بالمفاضلة ومشقة البحث عن المعنى، بقدرما "يعبر عن لحظات التحول والتردد في أذواق الناس، ونشوء الميل الآني إلى الشيء، وتجربة صدمة الإعجاب الأول لدى الكشف المفاجئ"19.
 

ثانياً: الخصومات: مبادئ الخصومة الحقيقية ومظاهرها

أ-مبادئ الخصومة:
تعد الخصومات أولى المعارك النقدية في تاريخ الأدب العربي، وتكمن أهميتها في كونها كانت لبنة أساسية في التأسيس لنقد عربي منهجي، بل إنها عدت أساس نظرية عمود الشعر التي سيأتي الحديث عنها فيما بعد، كما مثلت رؤية نقدية عربية خالصة.

تجدر الإشارة إلى أن الخصومات هي خصومات فنية نشأت بين مذهبين في الشعر العربي، مذهب ينتصر للمحدثين ويمثله أبو تمام ومذهب ينتصر للقدماء ويمثله البحتري، ولهذا فإن موضوع الخصومة كما أقره محمد مندور كان "حول تجديد المحدثين لمعاني القدماء وإصابتهم في ذلك أو إخفاقهم"20.

ويعد أبو بكر محمد بن يحي الصولي أبرز المحدثين الذين قادوا هذا المذهب وأداروا خصوماته، وما كتابه "أخبار أبي تمام "إلا دليل قاطع على أنه كان طرفاً في خصومة نقدية حول أبي تمام، محاولا أن ينتصر له.

قدم لنا الصولي أمثلة يوضح من خلالها فكرة محاولة المحدثين تجديد معاني القدماء، فيقول مثلاً: "وقد استحسن الناس –أعزك الله – لامرئ القيس تشبيه شيئين في بيت واحد "قالوا لا يقدر أحد بعده على أن يأتي بمثله وهو قوله في وصف عقاب:
كَأَنَّ قُلوبَ الطَيرِ رَطباً وَيابِساً ... لَدى وَكرِها العُنّابُ وَالحَشَفُ البالي

ولقد أحسن فيه وأجمل، فقال بشار:
كَأَنَّ مُثَارَ النَقْعِ فَوْقَ رؤوسنا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ

وهذا أعمى أكمه لم ير هذا بعينه قط فشبه حدساً فأحسن وأجمل، وشبه شيئين بشيئين في بيت"21.

وهناك أمثلة كثيرة من خلالها نلمس موضع الخصومة، فهي من أجود القديم وأجود الحديث ومع ذلك فهناك فرق واضح في معدن الشعر بكل منها، ولهذا السبب يرى أنصار القديم أن الشعراء الجاهليين كانوا أصدق شعراً وأقرب إلى المألوف من المحدثين، الذين يعربون ويبعدون بنا عن معطيات الحواس المباشرة التي هي مادة الشعر، وسبيله إلى إثارة الصور في نفوس السامعين، وبعث الأصداء الملازمة للواقع (كما أشار لذلك محمد مندور في كتابه: النقد المنهجي عند العرب)، "وعلى هذا النحو نرى الفارق بين المذهبين: مذهب القدماء العريق في حقيقة الشعر من حيث إنه يصاغ من معطيات الحواس المباشرة بعيداً عن التجريد والإغراب، ومذهب المحدثين الذين يسرفون ويقتصرون ويضربون في عالم المجردات"22.

ب-مظاهر الخصومة: خصومة أبي تمام نموذجاً:
أثار أبو تمام نقاشات نقدية حادة بين مؤيد له وبين معارض؛ كان موضوع هذه النقاشات حول طريقة أبي تمام، فهرع المعارضين إلى الكشف عن عيوبها وتتبع أخطائه، فقد كتب القُطْرُبلّي كتاباً في أخطاء أبي تمام، وكتب عنه ابن المعتز في كتاب البديع، وألف ابن الجراح كتاب الورقة، وكتب ابن الصولي كتابه "أخبار أبي تمام حيث دافع فيه عن ابن تمام بشدة رغم أنه لم يكن موضوعياً في دفاعه عن مذهب أبي تمام كما يشير لذلك الدكتور محمد مندور بل أكثر فقد وصفه فقال: "أما الصولي فهو في الحق المتعصب المغرض، وإنه وإن لم يكن في كتابه ما يدل على انحيازه للشعر الحديث؛ فإن الذي يبدو هو أن مناصرته لأبي تمام كانت أقرب إلى اللجاجة والإسراف منها إلى النقد الموضوعي الدقيق. ويزيد الحكم عليه قسوة إفراطه في الغرور والتبجح بعلمه، ثم فساد ذوقه وصدوره عن نظرة شكلية يغرها البهرج وتطرب للغريب"23.

وكتب المرزوقي عن هذه الخصومة أيضاً كتابه "الانتصار من ظلمة أبي تمام"، غير أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن العديد من هذه الكتب التي عرضت للظاهرة الشعرية عند أبي تمام أغلبها مفقود وصلنا ما أشارت إليه من أفكار بخصوص هذا الموضوع عن طريق من جايلهم، ممن حفظت مؤلفاتهم ونجت من الفقد كابن المعتز والآمدي والمرزوقي.

"وقد نبه الصولي إلى ناحية لم يشر إليها أحد قبله –فيما أقدر- وهي ناحية كان بعض الناقدين يتخذ منها منفذاً للطعن في أبي تمام. وتلك هي المعتقد الديني، فقد اتهم أبا تمام بأنه كان يخل بفروضه"24، فمن خلال هذا النص نستخلص أن البعض كان يخلط في نقده لأبي تمام بين الشعر والدين، وقد كان للصولي موقف جميل وطريف من هذا حيث قال: "وقد ادعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره وتقبيح حسنه، وما ظننت أن كفراً ينقص من شعر ولا أن إيماناً يزيد فيه"25.

وقد تجلت مظاهر الخصومات النقدية في: المنافسات الأدبية التي اعتمدت الرواية كركيزة لها ثم التأليف ومنه ما ذكرنا من كتب:
- أخبار أبي تمام للصولي.
- نقد الشعر لقدامة بن جعفر.
- الانتصار من ظلمة أبي تمام للمرزوقي وغيرها.

في خضم هذه الصراعات النقدية بين متعصب لأبي تمام مدافع عنه، ومنتقد له إلى أقصى الحدود، وفي وقت باتت الحاجة فيه ماسة إلى نقد متزن ومنهجي رزين يعتمد على آليات بعيدة عن الغلو حيث لا إفراط ولا تفريط، سيظهر الآمدي من خلال كتابه "الموازنة "، فقد تناول الخصومة بروح الناقد العادل متبعاً منهجاً بعيداً عن الانحياز أو المبالغة في توجيه النقد لغيره، لقد سلك الآمدي مسلكاً خالياً من التعصب يقوم على الحجة الفنية وينظر إلى الأشياء نظرة فاحصة.

ويعد كتاب الموازنة "وثبة في تاريخ النقد العربي، بما اجتمع له من خصائص لا بما حققه من نتائج. ذلك لأنه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على المفاضلة بوحي من الطبيعة وحدها دون تعليل واضح، فكان موازنة مدروسة مؤيدة بالتفصيلات تلم بالمعاني والألفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة، وكان تعبيراً عن المعاناة التي لا تعرف الكلل في استقصاء موضوع الدراسة من جميع أطرافه، ولهذا جاء بحثاً في النقد واضح المنهج"26.

خاتمة:
إن المتمعن في حركة النقد عند العرب، خصوصاً في القرنين الرابع والخامس الهجريين، سيقف على مدى النضج الذي وصل إليه النقد العربي، ومدى المسؤولية التي اشتغل بها نقاد الشعر على وجه الخصوص، مما يدل على أن النقد العربي لم يتأسس على ما هو انطباعي فقط، وإنما كان نقداً منهجياً له خصوصيته التي ميزته انطلاقاً من النقاشات التي أثارها والقضايا التي تناولها، ولعل ما زكى هذا الصراع النقدي بروز الفرق الكلامية التي أضفت على حركة النقد رونقاً خاصاً تمثل في حلقات النقاش وازدهار حركة التأليف والخصومات وغيرها من الأنشطة الأدبية.

 


الهوامش: 1. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، لبنان، بيروت، دار الثقافة (1983)، ط3، ص: 13.2. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مصر، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية (2016)، ط1، ص: 57.3. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 120.4. عبد الله ابن المعتز، كتاب البديع، شرح وتحقيق عرفان مطرجي، لبنان، بيروت، مؤسسة الكتاب الثقافية (2012)، ط1، ص: 5.5. المرجع نفسه، ص: 11.6. سورة الإسراء، آية: 24.7. سورة الروم، آية: 55.8. عبد الله ابن المعتز، كتاب البديع، مرجع سابق، ص: 69.9. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لبنان، بيروت، دار الثقافة (1981)، ط3، ص: 117.10. المرجع نفسه، ص: 118.11. (انظر البصائر لأبي حيان التوحيدي، ج2، ص: 698).12. عبد الله ابن المعتز، طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، مصر، القاهرة، دار المعارف، ط3 ص: 286.13. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مرجع سابق، ص: 59.14. محمد هيثم غرة، قدامة بن جعفر.15. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لبنان، بيروت، دار الثقافة (1981)، ط3، ص: 190.16. أبو الفرج قدامة ابن جعفر، نقد الشعر، الجزائر، قسطنطينية، (1302ه) ط 1، ص: 2.17. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 194.18. المرجع نفسه، ص: 192.19. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 115.20. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مرجع سابق، ص: 98.21. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مرجع سابق، ص: 98-99.22. المرجع نفسه، ص: 101.23. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مرجع سابق، ص: 106.24. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 151.25. أبو بكر محمد بن يحي الصولي، أخبار أبي تمام، نشر وتحيق وتعليق: خليل محمود عساكر، محمد عبده غرام، نظير الإسلام الهندي، مصر، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والنشر، (1937)، ط1، ص: 172.26. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، مرجع سابق، ص: 157.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها