حلب.. سردية التراث العالمي

وذاكرة القدود والموشحات والطرب

غالية خوجة


تمر العصور على حلب الشهباء لتمكث في ذاكرة أقدم مدينة مأهولة ومسكونة منذ آلاف السنين، وتسطع أشعتها عبْر الأزمنة والأمكنة، لتفصح عن معالمها الأثرية الحضارية المادية واللامادية، وهذا بمجمله ما سجّلته منظمة اليونسكو ضمن التراث الإنساني العالمي، معترفة بأقدمية هذه المدينة العريقة، وقلعتها الشامخة، وأسواقها المسقوفة ومنها أسواق المدينة القديمة، وخاناتها الكثيرة مثل خان الشونة، وخان الوزير، وخان الهوكيدون، وخان الحرير، ومعمارية أبنيتها الشرقية، العربية، والإسلامية، وكنوزها المعرفية والثقافية والعلمية والأدبية والفنية، ومآثرها التي تترك آثارها في كل زمان ومكان. ومنها موسيقاها المميزة المتفردة، خصوصاً، القدود الحلبية والموشحات التي احتفت بها اليونسكو وسجلتها على لائحتها تراثاً معنوياً فلكلورياً عالمياً، وذلك خلال اجتماع الدورة السادسة عشرة للجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي في فرنسا، موضحة: "إن جزءاً من ثقافة وتراث المجتمع السوري العريق أضيف إلى التراث الإنساني العالمي".

عواصم بمدينة واحدة

وبذلك تكون حلب عاصمة للقدود والموشحات، إضافة إلى كونها عاصمة الثقافة الإسلامية، وعاصمة الثقافة السورية، ولا بُدّ لزائر حلب المدهشة أن يكتشف كيف تزدحم شوارعها بالحياة، والموسيقا، والأحزان، والآمال، وكأنها متحف تاريخي، توثيقي، معاصر، بموقع استراتيجي سياحي واقتصادي وتجاري، مفتوح على الأزمنة الماضية والمعاصرة والآتية.

ولا بُدّ للزائر أن يلتفت إلى الحناجر الصغيرة والكبيرة الصادحة بالقدود والموشحات، وهي تمر، أو تعمل، أو تتنزّه، أو تمضي، مرددة فلكلورها وتراثها الشعبي الموروث المتوارث عفوياً مثل "درب حلب ومشيتو، كلو سجر زيتوني"، و"يا مال الشام يا الله يا مالي، يا مال الشهبا يا الله يا مالي".

لقد صدحت الحناجر بهذا الفلكلور منذ حوالي ألفي سنة، وما زالت ظلال تلك الأغاني تعبر من طريق الحرير مع طلبة العلم والتجار والصنّاع الذين كانوا يمكثون في حلب كآخر محطة من المحطات، ليعودوا إلى الانتشار في جهات الأرض، ومنها الصين والجزيرة العربية والخليج، والهند والسند.

هوية حضارية:

تعتبر القدود الحلبية والموشحات من الهوية الثقافية الوطنية الفنية، والتراث المعنوي السوري الأصيل، والإنساني العالمي، مثلها مثل الحِرَف والمِهَن التراثية التي نضيف إليها آلة العود والممارسات المرتبطة بالوردة الشامية، ولذلك، نجد العديد من المراجع والكتب التوثيقية في هذا المجال الذي اهتم به البحاثة والمؤرخون والكتاب والدارسون.
 

منظومة موسيقية تحتفي بالكلمة الروحية والإنسانية

لكن، ما هو "القدّ الحلبي"؟

"القد" لغة هو المقدار؛ أي تصنيع شيء على مقدار شيء، وعلى "قد" شيء في الإيقاع والموسيقا، وقد تتماثل في "القد" القافيتان وحرف الروي، إلاّ أن "القد" الحلبي يتشابه مع "الموشح" إلى حد ما، فكلاهما نص شعري، وله منظومته الموسيقية، ويتميز "القد" بكلمات تُغنّى على ألحان موجودة، وتعني كما كتب الباحث عبد الفتاح قلعه جي: "المقاس، فالألحان الدينية كانت تخرج من الزوايا الصوفية لتبحث عن كلمات فيها الغزل والقضايا الاجتماعية، فيبقى اللحن الذي كان أساساً أنشودة دينية وتصوفية وفقهية، كلمات تدخل في الحياة اليومية، فهذه على "قد" تلك، ومن هنا نشأ القد".

والقد ليس مقاماً موسيقياً، بل يأخذ قالب اللحن الأصلي، ويعمل على أساسه؛ فإمّا أن يصبح موشحاً، أو أغنية، ويؤكد قلعه جي على أن القدود اشتهرت بأسماء مؤلفيها لا ملحّنيها، وأغلبهم شعراء، أو شعراء وموسيقيون في آنٍ معاً.

وترجع ذاكرة القدود الحلبية المنتمية إلى الفنون الموسيقية السورية الأصيلة إلى زمن القس السرياني "مار أفرام" عام 306 ميلادية، الذي وظف الألحان الدينية في الطقوس الكنسية ليجذب الناس وتعتبر قدوده الحلبية المسماة باسمه في الكنيسة السريانية من أقدم القدود الحلبية التي حافظت عليها الأجيال، وانتشرت كأناشيد دينية في "الزوايا الصوفية" و"التكايا"، وحلقات "الذكْر" والمولوية، وبدأت تظهر على ألحان هذه الأهازيج والأناشيد كلمات شعرية على "قدّ" اللحن الديني، وتتحول إلى حالات إنسانية معبّرة عن الذات والآخر والمجتمع والانتماء والوطن، ومنها القدود التي نظمها الشيخ أمين الجندي ("هيمتني، تيمتني/ على نغم "الزهاوي"، عروض الحجاز"، "يا صاحِ الصبر وهي مني، وشقيق الروح نأى عني/ على "نغم نوى"، "يا غزالي كيف عني أيعدوك، شتتوا شملي، وهجري عودوك/ على نغم "أصفهان").

وتجدر الإشارة إلى أن الفرق الإنشادية التي أسسها المنشدون المولودون مع القرن العشرين، أمثال صبري مدلل، حسن حفار، وأديب الدايخ، جابت دول العالم العربية والأجنبية، ونالت التكريم والجوائز، وكذلك، فعلت الفرق الموسيقية المختصة بهذا التراث الفني، ونضيف لأهم مشاهيره كلاً من الشيخ عبد الغني النابلسي ـ الدمشقي، الشيخ عمر اليافي، الشيخ يوسف القرلقلي، الشيخ أبو الهدى الصيادي محمد النشار، وواصل الجيل اللاحق مسيرتها التطويرية محايثة مع القدود الشعبية والغنائية والتراثية والموشحات، وهي مستمرة مع الجيل الشاب، من خلال دراستها، والورش التدريبية، والحفلات المستمرة، والفعاليات الثقافية والفنية التي تنطلق من حلب وتجوب المحافظات السورية ودول العالم.

قصائد مغناة بمحلية عالمية

يحضر هذا الفن التراثي من قدود وموشحات وأناشيد ومواويل مع الحلبية أينما حلّوا، ولا تكتمل أفراحهم الدنيوية، ومناسباتهم الدينية إلاّ به، فالقدود الحلبية مشهورة في كل مكان، ومنها الإمارات العربية المتحدة، وستظل تذكر الذاكرة الإنسانية الأجيال القديمة التي أسست لهذه القدود والمواويل والأغاني الشعبية الفلكلورية والموشحات، ومن الجيل الأقدم إلى الأحدث، أذكر، تمثيلاً، كلاً من الشيخ أبو بكر الهلالي، محمد أبو الوفا الرفاعي، محمد الوراق، عبد الهادي الوفائي، الشيخ أمين الجندي، الشيخ عمر البطش، علي درويش، بكري الكردي، محمد رجب، عزيز غنام، محمد خيري، مصطفى ماهر، مها الجابري، سيد درويش، صبري مدلل، قدري دلال، حسن حفار، أديب الدايخ، شادي جميل، وبكل تأكيد، صباح فخري المطرب العربي الوحيد الذي دخل موسوعة غينيس.

تصدح القدود الحلبية في كل مكان، وتحتفي قلعة حلب بها كما تحتفي بحكمة وبطولات وآثار سيف الدولة المردّدة مع المتنبي: "كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل"، وسيظل التاريخ المعتّق بين القلعة والشهباء والعالم يفوح بعطورها وتوابلها وألحانها وصهيلها وكلماتها وفلكلورها الخاص، ومنه الفن السمعي، وما تبصره القلوب من كلمات مضيئة ومعانٍ روحية باذخة.

وستظل حجارة القلعة الشامخة، تصغي لتلك الجلسات الثقافية التي احتفت يوماً، بكتاب "الأغاني لأبي فرج الأصفهاني"، ولن تنسى، أيضاً، كيف أنجز الفيلسوف الفارابي كتابه الكبير عن الموسيقا، وكذا، سيظل العالم يصغي مع قلعة حلب العريقة للقدود والموشحات، ويردد "اسقِ العطاش تكرماً"، بينما المولوية تدور، وتنبض القلوب مع كل بيت من أبيات القصائد الإنشادية، لتشكّل لوحة فنية فسيفسائية، تملأ الآفاق بدورانها، لتذكّرنا بدائرة "الأوروبورس"، ومرورها الزمني، وزهرة "اللوتس" ورمزيتها الدائرة مثل "النيرفانا"، ودوام مولوية المحبة مع "مدد...مدد"، وتظل تذكّرنا بديمومة الحب المختزلة مع صوت صباح فخري "عيشة لاحب فيها، جدول لا ماء فيه"، وبكل تأكيد، لا تكتمل الاحتفالات والحفلات والمناسبات، وخصوصاً، الأعراس، إلاّ بالقدود والموشحات والمواويل، إضافة إلى "الهناهين" التي يتنافس فيها أهل العريس مع أهل العروس تنافساً فلكلورياً شعبياً أصيلاً يضاف إلى هذه المنظومة الموسيقية الغنائية بمواويلها وقدودها وموشحاتها، لتظل حلب منارة حضارية وأيقونة آثار عالمية متجذرة في الضمير الإنساني وتاريخ البشرية والذاكرة الحضارية المنشدة: "ع الروزانا ع الروزانا كل الحلا فيها، واش عملت الروزانا الله يجازيها".

 

فيديو إدراج القدود الحلبية على لائحة التراث الإسلامي العالمي  ◂  الأمانة السورية للتنمية  Video © Syria Trust for Development, 2019

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها