بعضُ الكلمات.. أدلُّ من طوال المجلدات؟!

العرب وأوروبا.. في فكر عباس العقاد

د. عوض الغباري



 عباس محمود العقّاد 

 

نذر "العقاد" نفسه للذود عن الحـضارة العربية الإسلامية، مبيناً فضلها على أوروبا في مطلع نهضتنا الحديثة.. وتسلح بثقافة عربية أصيلة، وغربية حديثة للحجاج العقلاني، الذي ميز فكره المستنير لتأكيد هذه القضية التي تجاهلها العرب.
تجلى ذلك في كتابه: "أثر العرب في الحضارة الأوروبية". وقد سيطرت العلوم العربية على العالم مدة خمسة قرون –على الأقل– من القرن العاشر الميلادي إلى القرن الخامس عشر.

وأثَّرت أوروبا الحديثة في الحياة العربية بعد ذلك، عبر حركة تفاعل متبادل بين العرب وأوروبا على مر التاريخ. وأدى هذا التفاعل إلى تأثير التراث العربى على كل أصل أوروبي عريق في "شؤون العقل والروح، وأسباب العمارة والحضارة، وهي: 1. العقائد السماوية، 2. آداب الحياة والسلوك، 3. فنون التدوين والتعليم، 4. صناعات السلم والحرب وتبادل الخيرات والثمرات".
وذلك أن "سلالة العرب الناشئين في جزيرتهم الأولى، قد سكنت أواسط العالم المعمور منذ خمسة آلاف سنة على أقل تقدير، وأن كل ما استفاده الأوروبيون من هذه البقاع في هذه العصور هو تراث عربي، أو تراث انتشر في العالم، بعد امتزاج العرب بأبناء تلك البلاد"1.

وفيما يتعلق بالعقائد السماوية يرى "العقاد" أن كل ما عرفه الأوروبيون القدماء من السماء وأفلاكها مصدره العرب، الذين ظهرت الأديان الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام من بينهم، وانتشرت عبرهم في الأقطار التي هاجروا إليها2.

وعرف الأوروبيون تقسيم الشهور والأيام عن طريق العرب.

ويحلل "العقاد" أثر العرب في أوروبا من حيث مزج المعيشة اليومية للأوروبيين بعقائد السماء التي تلقوها عن العرب، والأسماء العربية للكواكب والمصطلحات الفلكية3.

أما أثر الفلسفة العربية القديمة في الفلسفة الأوروبية الحديثة، فقد تجلى في الأخلاق وآداب الحياة والسلوك، وانتقل "التدوين" من الجزيرة العربية أيضاً إلى آسيا وأوروبا، كما عُرفت الأرقام عند الأوروبيين باسم الأرقام العربية4.

ويخلص "العقاد" بعد دراسة علمية تاريخية دقيقة للحضارة القديمة، إلى أن الإغريق تتلمذوا على أمة من سلالة الجزيرة العربية في الصناعات، وأفاد العرب قدماء الغرب في الفنون الحربية5.

ويؤصل "العقاد" تفاعل الحضارات العالمية بين الأصل والنقل، والعطاء والأخذ، وعلى ذلك فلا صحة لاعتقاد الغرب الآن أن العرب اختصت حضارتهم بالنقل دون الإبداع6.

ولعل كتاب العقاد –هنا– هو الرد الذي فند هذه الحجة العنصرية المتعصبة للغرب ضد الحضارة العربية. لقد ساعدت الحضارة العربية الإسلامية على حفظ التراث الإنساني القديم، وزادت عليه ونقلته إلى من تلاها بعبقرية إيجابية وسماحة إنسانية، "وكل حضارة صنعت ذلك فقد صنعت خير ما يُطلب من الحضارات"7.

اشتهرت "مصر" بمهارة أطبائها، وعرف "العرب" التطبيب والعلاج وصحة الأبدان من قديم الزمان من خلال التجارب العملية، والسعي إلى الطب والعلم أساساً للعمران.

ويعرض "العقاد" من موسوعات الطب الإسلامية ما ندر مثله في أوروبا إلى مطلع العصور الحديثة. مثال ذلك كتاب "القانون" "لابن سينا" الذي تُرجم في القرن الثاني عشر، وهو موسوعة جمعت خلاصة ما وصل إليه الطب مما تعلمه الغرب عنه.
وكذلك كُتُب "ابن الهيثم" في البصريات، وغير ذلك من فروع الطب قبل تقدم نظرياته الحديثة.

واستفاد الأوروبيون من بحوث العرب في الكيمياء مثل كتب "الرازي"، و"جابر بن حيان"، وغير ذلك من مؤلفات عربية مرجعية للأوروبيين وغيرهم في العلوم المختلفة قبل القرن الثامن عشر.

وقد نوه بعض فلاسفة الغرب المنصفين بدور العرب8 في نشر العلوم بالغرب في عصوره الوسطي، فتحول من الظلام إلى النور. وانتقلت جغرافية "بطليموس" إلى أوروبا عن طريق الثقافة العربية. وكتاب "نزهة المشتاق" في اختراق الآفاق للإدريسي مرجع جغرافي رائد اعتمد عليه العالم القديم، اعتماده على الخرائط والمعلومات الجغرافية التي انتقلت عبر العرب، وساعدت في الكشوف الجغرافية للعالم الجديد، وكذلك ما يتعلق بدوران الأرض حول الشمس، وهو ما جهله الأوروبيون آنذاك. واشتهر في الرحلات "ابن جبير"، و"ابن بطوطة"، وأشار "العقاد" إلى كثير من الكلمات العربية التي دخلت العلوم الغربية محوَّرة عن أصلها العربي9.

وعلم الجبر معروف باسمه العربي في اللغات الأوروربية، وكذلك تتجلى الإسهامات العربية في علوم الرياضيات. وقد أثرَّ الأدب العربي في الآداب الأوروبية من خلال الصلات المتنوعة في عصور أوروبا الوسطى.

ومن أظهر الآداب العربية تأثيراً في الغرب "ألف ليلة وليلة"، التي أُطلق عليها الليالي العربية، وأشهر من تأثر بها "شكسبير". كذلك تأثر "دانتي" بالإسراء والمعراج، وربما برسالة الغفران لأبي العلاء المعري.

والأثر العربي الإسلامي بالغ الأهمية في "إحياء اللغات الأوروبية، وترقيتها إلى مقام الأدب والعلم، بعد أن كانت مجفوة مزدراة في حساب العلماء والأدباء"10.

وتأثرت القصة الأوروبية "في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص"11. مثل المقامات، وقصص الفروسية. أما في الفنون الجميلة فقد كان "بناء المسجد" أساساً لفن العمارة في الحضارة الإسلامية. وكذلك كان معمار القصور العربية الفارهة معبراً عن طبيعة العرب وروحهم وشخصيتهم، وقد اقتبس الغرب بعض هذه الفنون المعمارية العربية. ومن أكثر الطُرُز المعمارية شيوعًا "الأرابيسك"، الذي تأثرت بفنونه الهندسية الأبنية الغربية المختلفة في القرون الوسطى، التي ظهر فيها الحرص على "محاكاة الزخارف والمزركشات العربية"12.

وحلَّل "العقاد" اختلاف الموسيقى العربية عن الغربية، فالموسيقى الغربية هي موسيقى التنويع والتركيب السيمفوني الأوبرالي. وقد تعلم الأوروبيون أفانين الغناء على أساتذة من العرب الأندلسيين13، وكذلك نقلوا إلى لغاتهم بعض أسماء آلات الموسيقى العربية، وبحوث العرب في الموسيقى النظرية. وأثرت المصادر الشرقية في الفلسفة الإغريقية، وبرز من فلاسفة العرب والشرق الإسلامي "الكندي"، و"الفارابي"، و"ابن سينا"، و"ابن رشد" وغيرهم، ممن اطَّلع عليهم الغربيون. وتأثر نُسَّاك المسيحية بابن عربي الفيلسوف الصوفي، وذلك في إلهاماته عن وحدة الوجود وتقارب الأديان.

والمشهود عن "ديكارت" "أنه إمام الفلسفة الأوروبية الحديثة، وهو مسبوق إلى أهم قضاياها الفلسفية بما كتبه الغزالي وابن سينا على الخصوص"14.

وتفاعل فلاسفة الإسلام مع الفلسفة اليونانية وأضافوا إليها، لتستمر شعلة الثقافة الإنسانية – على حد تعبير العقاد"15. وتعانقت الصوفية المسيحية بالإسلامية؛ "لأن أشواق الروح الإنسانية قسط مشترك بين بني آدم لا تنفرد به أمة من الأمم، ولا تخلو منه أمة من الأمم، ولم تستوعبها عقيدة واحدة كل الاستيعاب دون سائر العقائد الدينية"16.

وتتجلي الروح الفلسفية العميقة للعقاد، وثقافته الواسعة؛ عربية وغربية في عرض المذاهب الفلسفية في الشرق والغرب، وفي عرض الجوانب المختلفة لحضارات الإنسانية في تجرد ونزاهة، وبحيادية وموضوعية رداً على المطاعن الظالمة للحضارة العربية الإسلامية من قبل الغرب، الذي يراه "العقاد" في إطار من التسامح والإنصاف، رغم تجني الغرب على الشرق، محللاً ما له وما عليه. ويصدر "العقاد" مقارنته لأحوال الحضارة بين العرب والغرب بعبارة بليغة هي قوله: "بعض الكلمات أدل من طوال المجلدات"17.

ذلك أن دخول الكلمات العربية في اللغات الأوروبية تدل على ما انتقل معها من ألوان الحضارة، وأنماط الحياة. ويعدد "العقاد" الكثير من هذه الكلمات العربية في اللغات الأوروبية، ويورد الكثير من شهادات علماء الغرب دالة على أثر المعيشة العربية في الأخرى الأوروبية، خاصة في تاريخ العرب خلال حكمهم للأندلس، وأثر حضارتهم الإسلامية في أوروبا.

وعلى وجه أخص؛ فقد رفعت الحضارة العربية نظام الدولة18 إلى واقع إنساني قائم على الشورى والعدالة بين الراعي والرعية. ويعقد "العقاد" المنصف فصولاً بعنوان: "أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية، وتلك أحوال الزمان التي تبدل حالاً بحال.

تغيرت بعض التقاليد التي عمت الشرق، واستقبلت تيارات أوروبية مختلفة، كان لها ظواهر فيما يتعلق بشؤون المرأة، وتحريرها من بعض ما كبلها من قيود اجتماعية. وقد خسر المجتمع العربي بتفريطه في قيمه الأصيلة انسياقاً وراء "حرية الفرد" في أوروبا، ونسيان الالتزام بالقيم الخاصة به، وتجاهل التوازن بين الحرية الفردية والواجب والمسؤولية. كما أُسيئ فهم "حرية المرأة" في بعض أنماط سلوكها في تربية الأبناء.

ولم يؤثر الفعل الاقتصادي والسياسي الأوروبي كثيراً في الشرق لتحقيق استغلاله للموارد الطبيعية الغنية في الشرق، صحيح أن الشرق تفاعل مع الغرب الحديث، لكن ما أصابه من تجديد وتغيير كان في إطار أصالته وقيمه وعمله، مما استطاع به أن يعتمد على قدراته وموارده التي يحاول استنقاذها من براثن الاستغلال الغربي. واليقظة العربية –كما استشرفها العقاد– "حقيقة ماثلة، وحركة طبيعية لاشك فيها"19، في سعي حثيث للسيادة والاستقلال عن تيارات الغرب المناوئة لهذا الهدف.

وما تزال مقولات العقاد مؤكدة مع بعدها الزمني النسبي من الواقع العربي في علاقته مع أوروبا، وأمريكا من ثمَّ، وعلاقة الآخرين بالعرب لا تخلو –عامة– من تثبيط للهمم، وقرارات دولية تؤكد ذلك الموقف المقاوم للنهضة العربية، المتطلع إلى استنزاف ثروات العرب.

و"الشورى" أصيلة دستوراً ونظاماً للحياة العربية، كما أقرها القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان سابقة الغرب: بمبدأ الحكومة الشورية في مجال العقيدة والأخلاق"20، والغرب سبق الحضارة العربية "بحكومة الشورى في مجال النظم الواقعية، التي تتمخض عنها حوادث التاريخ"21، فهي أصيلة في الحضارة العربية، منفعية لدى الغرب وفق مراحله التاريخية المتغيرة.

أما الاستعمار الأوروبي الحديث؛ فقد أجَّج الوطنية العربية الأصيلة التي تحقق استقلالها بالكفاح. وقد تعلم الشرقيون من أوروبا ليقاوموها بسلاحها، كما قال العقاد، وقد أصاب؛ لأن اقتباس العلم الحديث هو المنهج الأمثل للإصلاح22. وكذلك التوفيق بين الدين والعلم الحديث على أسس صحيحة، "والاستواء على نهج التفكير الصحيح، والإيمان بالدين إيماناً لا يمنع التقدم"23، ويلبي حاجات الإنسان المادية دون إلغاء مطامح الروح. واقترنت النهضة في الشرق العربي بإحياء كتب الذخائر العربية، وتجديد الأسلوب الأدبي، ونشاط حركة الترجمة.

وأدى التأثر بالغرب الحديث إلى شيوع السهولة في لغة الصحافة العربية، واتساع موادها المختلفة، خاصة بعد اكتشاف المطبعة. وراجت الفنون الجميلة، وتعددت فنون الموسيقى والغناء، وطرز المعمار الحديث في البناء والعمران.

ويأمل العقاد أن يؤدي التطور الحديث رسالة سامية، ويجمل القول بتأكيد الوازع الروحي بالشرق، والحرص على سلامته مما يؤثر سلباً عليه، ويرى أن الإرث الحضارى مشترك في الشرق والغرب. وتؤكد نظرات العقاد في هذه القضية وغيرها، دوره الرائد المستنير الذي يتسع بالحوار الثقافى الأصيل، فيعمق النوازع الإنسانية النبيلة، ويحلق بها عبر آفاق عقلانية سمحة.


الهوامش:  1. عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروربية، نهضة مصر، 1995، ص: 9. ┃2. الكتاب، ص: 10. ┃3. الكتاب، ص: 13. ┃4. الكتاب، ص: 18. ┃5. الكتاب، ص: 20. ┃6. الكتاب، ص: 22.┃ 7. الكتاب، ص: 26. ┃8. الكتاب، ص: 36. ┃9. الكتاب، ص: 44، ص: 46. ┃10. الكتاب، ص: 51. ┃11. الكتاب، ص: 53. ┃12. الكتاب، ص: 58. ┃13. الكتاب، ص: 62. ┃14. الكتاب، ص: 75. ┃15. الكتاب، ص: 77. ┃16. الكتاب، ص: 80. ┃17. الكتاب، ص: 83. ┃18. الكتاب، ص: 95. ┃19. الكتاب، ص: 103. ┃20. الكتاب، ص: 103. ┃21. الكتاب، ص:ـ 109. ┃22. الكتاب، ص: 117. ┃ 23. الكتاب، ص: 120.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها