تقصد العرائس دارها الكائنة في طرف النجع الشماليّ قبيل الزفاف، وبالتّحديد صبيحة ليالي الحناء، يدخلن منطفئاتٍ ذابلاتٍ، فتجهزهن بالأحجار، والعجائن، ثُمَّ تعمد إلى حنائها، تخلطها بالزّيوت. نقش الحناء صنعتها، تستقبل بوجهها النّسوة والفتيات والبنات، تجثو أمامهن، وتنكبُّ على أيديهن، وأقدامهن تنساب إبرتها على جلودهن برشاقةٍ وليونةٍ، تضفي عليهن من سِرّ يديها. لزخارفها سحرٌ كسحر عينيها السّوداوين، بعضها على هيئة أوراق شجرٍ، وأغصانٍ تتدلَّى، وبعضها على هيئة وردٍ، وطيورٍ.
بَعْدَ ساعاتٍ تخرج العروس من دارها كنجمةٍ في أوج الزّينة، تتحلَّى بالضوء، تفاجئ اللَّيل الناعس؛ فيستيقظ.. نجمة تخطف أنظار شباب النجع؛ فيبدؤون العرس، وتهوى ملاعقهم الفضيّة على آنية النّحاس، يضربون الأكفّ بالأكفّ، وتشدو الحناجر بـ"الشّتاوي"، و"غناوي العلم، و"المجاريد"، ومن خلفهم تشعل البنات حلقات "الحجل" بالرقص، والتصفيق، والغناء.
[1]
لروحها خفَّة الغزلان، ونقاء المطر، سمراء البشرة، جاوزت الخامسة والثَّلاثين من عمرها، مفعمةٌ بالحياة. لها جسدٌ كالأيقونة، يجري في أوصاله نهرٌ من جمرٍ، تجذب إليها الأنظار من أوَّلِ وهلةٍ. نقش الحنَّاء عملٌ واحدٌ من أعمال شتَّى تتقنها؛ فهي تبيع العطور، وملابس النّساء، وأدوات الزّينة.
[2]
تزوجت في العلن مرَّةً واحدةً، اشتهاها البعض بَعْدَ موت زوجها، وفي أحاديثهم الجانبيَّة فوق مساطب الدُّور الطّينية، وتحت ظلال أشحار "الجازورين" زوجوها في السِرّ عِدَّةَ مراتٍ، بل زادوا، وجاروا، وجعلوها رفيقة رجالٍ، لم تعلم عنهم شيئًا. وجنبات النجع خائنةٌ تصغي، تبعثر نميمتهم، وتصبُّها في آذانٍ أخرى. الشَّائعات تحوم؛ فيحجم عن الأرملة طلاب الحلال؛ مخافةَ سوء السمعة؛ فثَمَّة هالةٌ سوداءُ، باتت تحوطها، هالةٌ سوداءُ يبصرها الجميع إلَّا هي، زادها سوادًا فوق السّواد غيبةُ نسوةٍ، تأكل الغيرة قلوبهن، كُلَّما لمحْنَ نظرات الشَّغف في أعين أزواجهن، الَّذين طاردوا الأرملة بأبصارهم في كُلّ مكانٍ. وبين شهوات الرّجال وغيبة النّساء، كانتِ الْأرملة على عهدها القديم لا تتأخر عن مجاملة الأهالي جميعًا، كأنَّ زوجها ما زال حيًّا؛ تهرع إلى الأعراس، في أثر كُلّ عروسٍ، زيَّنتها بيديها، تحمل فوقَ رأسِها سبت الخوص الممتلئ عن آخره بعبوات الشَّاي الأحمر، والأخضر، وعبوات السُّكر، وزجاجات شراب الورد، وأكياس الحلوى، تدسُّ المال في يد أم العروس، وتعود سريعًا إلى دارها. وفي المآتم تتشح بالسَّواد، وتعصب رأسها بطرحتها السَّوداء، تبكي ميتهم بحرقةٍ. وفي مواسم حصاد القمح والشعير تراها وسطَ الحقول، تمدُّ يدَ العون للجيران، يحصد منجلها العيدان المحمَّلة بالسَّنابل، تفرح لخيرهم، وتحزن لحزنهم، حتَّى جاراتها العاكفات على خبيزهن أمام أفران الحطب المشتعلة في أفنية الدُّور أصابهن من عونها نصيبٌ.
[3]
منذ سنين، وفي ليالٍ حالكة الظلام وُلِدَ من نسل أصحاب المساطب والظّلال بنونَ، وحفدةٌ، يكرهون الضَّوء، ولا تضحك وجوههم للشَّمس، سرقوا الوقت، وشبُّوا على عجلٍ، حتَّى اشتدَّت سواعدهم، ولما غرَّتهم كثرتهم، راحوا يمشطون الطرقات كالجراد، تقبض أيديهم على عصواتٍ، يملأها الشوك. تحاشى الأهالي غضبتهم؛ فداهنهم الصّغار والكبار.
[4]
في نهارٍ متربٍ برياح الخماسين، خرجت الأرملة من دارها لشراء بعض حوائجها، وبينما هي تسير في باحة النجع بالقرب من دكان العطار، إذْ بهؤلاء الشُّبان يعترضون طريقها، وسُرعانَ ما شكَّلوا حولها دائرةً بأجسادهم، ولَمْ يمهلوها وقتًا؛ لتستبين حقيقة ما يجري؛ فنزلت كلمات كبيرهم على سمعها كما تنزل السّياط على الظَّهر العاري، ألقوا عليها التُّهم، وواجهوها بما يتردَّد في النَّجع من أقاويلَ، يومها علمت ما خفي عليها منذ سنين، يومها غضبت، كما لم تغضب من قبل؛ فانتفض جسدها، ونفرت عروقها، واحتقن وجهها، وصرخت بكل عزمها في وجوههم الكريهة، ودعت أن تُصَابَ ألسنتُهم بالبتر، والخرس، وشرعت تدافع عن نفسها، لكنَّهم لَمْ يمنحوها الفرصة؛ بل عَلَتْ أصواتهم الزاعقة على صوتها، ولَمَّا احتدم الحديث، انفلتت أعصابهم، ورفع كبيرهم عصاه، وهوى بها على جسد الأرملة؛ وما إِنْ فعل، حتَّى حاكاه أصحابه دونما تفكيرٍ؛ فرفعوا عصواتهم، وهووا بها على بدن المرأة، الَّتي استغاثت بأهالي النَّجع، لكنَّ أحدًا منهم لَمْ يغثها، بَلْ لاذوا جميعًا بالصّمت.
[5]
الأرملة تكورت فوق الرّمل، وشدَّتْ يديها على وجهها، ولكن جسدها ظل مستباحًا، تنهال عليه العصوات العمياء. كان الحَرُّ غليظًا، وكانت الشَّمس حارقةً، وكان الغبار كثيفًا ساخنًا، وكانت ألسنة الأهالي معقودةً كأنَّها الحجارة، وكانت أعينهم جاحظةً كأنَّها الزُّجاج. راحتْ الأرملة تئنُّ من فرط الألم، كان الصَّمت يمزقها قَبْلَ الكلام، وكان الوقت متجمدًا، لا يمرُّ، وبَعْدَ أَنْ ارتوتِ الْعصوات من دمها نهضتْ شبه عاريةٍ، وبجسدٍ مرتجفٍ مترنحٍ سارتْ خطواتٍ، ولَمَّا لَمْ تحملها قدماها، سقطتْ، لكنَّها تحاملت على نفسها، ونهضتْ من جديدٍ، وراحتْ تتخبَّط في دمها، وجروحها الغائرة إلى أَنْ اختفت عن الأنظار.
[6]
مُنْذُ ذلك اليوم البعيد شحبت النُّجوم، ما عادتْ تضيء سماء النجع، وصمتتْ الملاعق وأنية النُّحاس، وخاصمتْ الأغنيات و"المجاريد" الحناجر، ما عادت تسمع في الأعراس على الإطلاق، في حين انطفأتِ العرائس، ما عُدْنَ لامعاتٍ، بينما خيَّم على الدار القابعة في طرف النجع الشماليّ الوحشة والسكون، وداخلها تيبَّستْ أكياس الحِنّاء.