سيقف التّاريخُ كثيراً أمام عام 2020، وما حدث عالمياً في هذا العام على جميع الأصعدة خاصة الاقتصادية، وكيف أن صراع القوى الاقتصادية العالمية قد يؤدي إلى إعادة صياغة النظام العالمي الذي تغير كل عقد تقريباً في العقود الخمسة الماضية؛ ولأن الشرق بثرواته ونطاقه الرحب متمثلاً في منطقة الشرق الأوسط دائماً محط انتباه وتركيز من الغرب -الصناعي خاصة- سِلماً وحَرباً منذ الحروب الصليبية المعروفة، فلا شك أن الظروف العالمية الحالية ستحط على الشرق ربما سلباً أكثر منها إيجاباً.
ولعل ما يحدث عالمياً الآن ينبغي أن يُعيد بنا الذاكرة إلى المفكر الكبير إدوارد سعيد الذي طرح باكراً جداً فكرة التواصل -بمعناه الشمولي- المهمة بين الشرق والغرب عندما طرح أفكاره المائزة في كتابه الأشهر "الاستشراق"، وهو ببساطة دراسة كافة البنى الثقافية للشرق بوجهة نظر غربية. واستخدمت كلمة الاستشراق –في الأغلب– على رؤية الشرق بعيون الهيمنة الغربية خاصة إبان تفشي الفكر الغربي ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر فقد اعتبر بعض متلقي الاستشراق أنه فكرة تدل على المفهوم السلبي للعلاقة بين الغرب المتقدم في مقابل الشرق المعتمد على كل التقدم الغربي خاصة -التكنولوجي- ولعل تصنيف الاستشراق في مراحله الثلاث هو الأكثر شيوعاً، حيث الاستشراق الاستعماري colonial orientalism. وذلك إبان وجود الاستعمار قاراً في كل البلاد التي يُوجّه إليها، وقامت القوى الداخلية المُستَعمرة في مقاومة ذلك الوجود (الإيطالى في ليبيا/ الإنجليزي في مصر/ الفرنسي في شمال إفريقيا)؛ لكن تلك الطريقة من التواجد قد تلاشت مع حركات التحرر التي انتهت في منتصف الستينيات من القرن العشرين.
ثم تلت المرحلة الثانية للاستشراق: الاستشراق ما بعد الاستعمار post colonial orientalism، وهو الذي يرتكز على الجانب الثقافي الذي سماه عدد من المترجمين بـ(المثاقفة) أي التبادل الثقافي واللغوي بين الأمم، فصار إنتاج الفكر الثقافي هو الأوْلَى بالاهتمام وصار تبادل الأفكار -وليس هيمنة فكر محدد– هو أساس العلاقة بين الغرب والشرق. المرحلة الثالثة: الاستشراق الجديد New Orientalism، وهو تكريس علماء الغرب فكرهم للدراسة والبحث في واقع وحياة الشرق لدرجة قد تستلزم اعتزال الحياة الغربية للبدء في الواقع الذي يشجع وجودهم الجديد كشرقيين؛ لذلك لم ير المستشرقون في الشرق إلاّ ما كانوا يريدون رؤيته من تطور الشرق ليبلغ المرحلة التي بلغتها أوروبا كما ظهر جلياً الاهتمام بكل الأطروحات الانثربولوجية (علم دراسة ما يتعلق بالإنسان) البيولوجية/ اللغوية/ العِرقية والتاريخية التي تركز على البشرية والكون، وكذا تطور النظريات الاقتصادية والاجتماعية للثورة الثقافية.
وقد اعتبر علماء الغرب في أحايين أن الاهتمام بالشرق قد يكون شغفاً مستهلكاً للطاقة. ثم يظهر في نهاية القرن العشرين، النزوع السياسي للاستشراق أو استخدام تعبير "النظام العالمي الجديد"، وهو أول تعبير لخّص الوجود الكوني للعالم وكأنه قرية صغيرة مُتضامة الأرجاء كل من يعيش فيها على دراية بالآخر. لذا؛ صار جوهر النظام العالمي الجديد هو مجموعة قوانين وقيم تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين عليه وأولوياتهم واختياراتهم، ويقوم هذا النظام على تبسيط العلاقات بين الأمم وتجاوز حتى فكرة الاستشراق نفسها باعتباره وحدة واحدة.
وقد رأى أصحاب النظام (واضعوا قواعد النظام حسب رؤيتهم) أنه نظام توافقي توثيقي يضم العالم كله، فلم يعد هناك انفصال أو انقطاع بين الأمم، والأهم أن هذا النظام قائم على المصلحة الوطنية في خضم المصالح الدولية ومدى التوافق بين الأمور الداخلية للأوطان والعلاقات الخارجية بما يضمن –حسب رؤية الأمم الكبرى– الاستقرار والعدالة للجميع، ولم يكن من بُد لتحقيق ذلك إلاّ بتولي هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية كي تعين كل أمة على إدارة مسؤولياتها الداخلية وتكييف تلك الأمم مع النظام العالمي الجديد، كل ذلك تحت مظلة الشرعية الدولية القائمة على ترسيخ آليات النظام العالمي الجديد الذي استخدم كمصطلح للإشارة إلى أي فترة تاريخية اتسمت بتغيير جذري في الفكر السياسي العالمي وتوازن القوى على الساحة الدولية ليس بمختلف التفسيرات حول هذا المصطلح، ولكن حسب الارتباط بالمدلول الإيديولوجي للحكم العالمي بصفة خاصة، وما الجهود الجماعية الساعية لتعريف وفهم ومعالجة المشاكل التي يواجهها العالم، والتي يخرج حلها عن سعة الدول بمفردها ويتطلب تنسيقاً بين الدول إلا بفضل ومكتسبات النظام العالمي الجديد.
ولأنّ النظام العالمي الجديد فتح المجال أمام العولمة للاستفحال بين الشرق والغرب، وكذلك من أفعال النظام العالمي ما تعرض له العالم من وجود وباء فتّاك أهلك العالم وجمعه على اتقاء كل بلد الشر أكثر من التضافر العالمي لدفعه، فقد اتهمت القوتان العظميان (الصين والولايات المتحدة الأمريكية) كل منهما الأخرى؛ بأن فيرس "كورونا" مُصنّع في مختبرات مدينة "وهان" الصينية أو مختبرات "ميرلاند العسكرية" في الولايات المتحدة، لكن سواء كان وباءً طبيعياً أم مُصنّعا ً فإن الارتباك العالمي تمخض عن انتشار الوباء أو عدم تكيف أكبر الدول خاصة الأوربية عنه، فقد حدث أن دولاً متقدمة ومتطورة تكنولوجياً واقتصادياً باتت عاجزة وفاقدة للسيطرة على حدث انتشار الوباء واحتوائه أو حتى التقليل من أضراره التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، على الرغم من مرور العالم بأوبئة أصعب من وباء الكورونا وحروب وصراعات وتقاسيم استعمارية إثر الحروب التي مرت على العالم وكانت أكثر فتكاً من هذا الوباء، ولم يخرج العالم أجمع خاسراً مثلما حدث إبان وجود ثم انتشار وباء كورونا. وهذا ما يخالف مبادئ العولمة التي تم فرضها على العالم منذ العقدين الماضيين، حيث المناداة بالهوية العالمية ضمن إطار القرية الكونية العالمية التي ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي والأنترنت على ترسيخ مبادئ العولمة الكونية وهو ما تصدّع حالياً إثر انكفاء القوى العالمية على نفسها لمجابهة وباء كورونا خاصة الولايات المتحدة الأكثر تضرراً.
ومن ثم جاء الوباء العالمي آنياً ليخلخل الأسس التي انبنت عليها مبادئ وأفكار العولمة خاصة الاقتصادية، التي تجسدت منذ عقود في استخدام الأموال عبر الحدود والتوسع المستمر والمتزايد لحدود الأسواق المتبادلة بين الدول، مما يؤدي إلى الترابط الاقتصادي بين دول العالم نتيجة لتبادل السلع والخدمات عبر الدول عندئذٍ برز دور الأهمية المتزايدة للمعلومات، فضلا عن سرعة تحديث العلوم والتكنولوجيا في الأسواق التي تستخدم تلك الأنظمة واستخدام آلية تطوير الصناعات العابرة للحدود في تطوير الصناعات في كل مصانع العالم.
إن من سيحدد مستقبل العالم وشكل النظام العالمي الجديد هو الذي سينتصر في الحرب ضد جائحة كورونا المستحدثة؛ لذا سيتعرض النظام العالمي إلى حالة من التشويش، وعدم الاستقرار على مستوى العلاقات الدولية، وسيكون العالم أقل إنتاجاً وأكثر فقراً، وتنتج التداعيات والنتائج السلبية على جميع المستويات وربما كساد اقتصادي عالمي غير مسبوق، ويبدو أن هذه الجائحة هي الذريعة التي أطاحت بقواعد العولمة خاصة مع تأثيرها على العلاقات الدولية، وقد ظهر جلياً عدم مدّ دولة يد العون لأخرى لتخطّي أزمة هذه الجائحة إلا قليلا، فضلا عن تأثيراتها الاقتصادية التي تضرّ بالشرق الذي يفتقر إلى التكنولوجيا مقابل الغرب المُسيطر تكنولوجياً.
ومن هنا، تصبح فكرة العولمة الاقتصادية ذاتها في محك صعب بين الغرب والشرق خاصة مع تطور وسائل الاتصالات والتكنولوجيا. لذا، يضع وباء كورونا الشرق، خاصة الدول العربية في تحديات تفترض وضع أساليب مبتكرة وفعّالة لمواجهة آثار تلك الجائحة التي ستستمر -حسب المحللين الاقتصاديين والسياسيين- طويلاً مع وضع برامج وخطط توفي بمتطلبات ما يمكن أن يطلق عليه التكامل الاقتصادي العربي، لتحقيق تكامل الإنتاج والتوزيع واستخدام السلع والخدمات بين اقتصاديات الدول العربية.