الجنتلمان

وجدي الأهدل


قنديل يؤنس مدخل عمارة سكنية وجانبًا من دُشْمة عسكرية.

إعلان الطوارئ في عدن؛ الجيش البريطاني انتشر في الشوارع وأنزل المصفحات، كان هذا في أبريل 1967.

أقام الجيش نقاط تفتيش في تقاطعات الشوارع ومداخلها، مجهزة بسواتر ترابية وكشافات لكشف تحركات العدو في الليل.

أُسندتْ إلى توماس بناءً على اختياره نقطة تفتيش في أحد شوارع حي التواهي الراقي، حانت نوبته الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

كان موقعه يشبه كشكًا؛ مسقوف بالخشب للوقاية من شمس عدن التي تذيب الحديد، ومحمي من كافة جهاته بأكياس رملية يصل علوها إلى مترين، وعلى حوافه من الداخل والخارج سواتر إضافية ارتفاعها حوالي نصف متر، يرتقي عليها أفراد الحراسة لممارسة مهامهم.

أعلى كشك الحراسة لافتة مكتوب عليها من الوجهين "رويدًا- SLOW" لكي يبطئ السائقون سياراتهم وينتظروا إذن العبور.

وقف توماس في مترسه متربصًا ويده على الزناد؛ إذ تشتد هجمات المقاومين اليمنيين المطالبين باستقلال بلادهم عن التاج البريطاني في الهزيع الأخير من الليل.

هو جندي من شيفلد، في الخامسة والعشرين، فارع الطول قوي البنية، له شارب أشقر وأنف لحيم، أزرق العينين وحاجباه يشبهان فرجارين منفرجين، وجهه طويل وفي ذقنه غمازة.

كان يقبل بأريحية أن يناوب في أشد الساعات خطرًا، الندوب في بدنه تشهد له بشجاعته المنقطعة النظير في القتال.

كان يُشمِّر قميصه العسكري إلى منتصف ساعديه، ويحجب جبينه بالبيريه ويُلمِّعُ حذاءه، ويحرص على هندام عسكري لائق.

لكن في تلك الليلة الحارة المنبئة بقدوم صيف لاهب، لم يكن المتسلل إلى مترسه العدو الذي تأهب لملاقاته؛ وإنما فتاة مالطية ذات جمال أخاذ.

كانت تهبط إليه من عمارة سكنية مجاورة لا تفصلها عن موقع هذا الجندي الوسيم سوى بضع خطوات.

هي في الثالثة والعشرين، تشبه وردة بيضاء تميد على فنن رفيع، خصلات شعرها الفاحم السواد تغطي جبينها وتحف بوجهها كالهالة، وتنسدل إلى عظمتي الترقوة، عيناها سوداوان تصطخب فيهما أمواج البحر، وشفتاها رقيقتان، وجهها العريض يعكس قوتها الداخلية واعتزازها الشديد بنفسها.

أتت مرتدية ثوبًا كحليًا -كما نبهها توماس- يصل إلى ركبتيها بكمين قصيرين، وفي قدميها خفين أسودين.

عانقها ووقف الشعر في ذراعيه حين استنشق شذى العطر المنبعث من عنقها. اختلس قبلة قبل أن تدفعه بعيدًا عنها وتشير إلى بندقيته، أطاعها وعاد إلى التمركز وبندقيته في وضع التصويب متأهبًا لأيّ هجوم.

كانت تقصد الزاوية التي يصل إليها ضوء ذهبي آتٍ من حيث جاءت، وتقعد على الأكياس الرملية.

تعارفا قبل أربعة أشهر؛ حين أُسعف للمستشفى الذي تعمل فيه ممرضة، وهو مصاب بجروح في وجهه وصدره جراء اشتباكات مع المقاومين اليمنيين. شُفيتْ جروحه، وتركت تلك المعركة ندبة في منتصف حاجبه اليمين خالية من الشعر.

نوبة توماس تمتد إلى الرابعة فجرًا، لذا كانت تجلب معها ديوانًا لتقرأ له الأشعار، فلا يشعر بالسأم أو يغمض جفنه ويكون فريسة للذئاب الحمر.

هي مغرمة بالشعر، وأما توماس فله محاولات شعرية لم يجرؤ أن يُطلع عليها أيّ إنسان، باستثناء فلور.

في هذه الليلة المعتمة التي لا قمر فيها اختارتْ ديوان "The Hawk in the Rain" للشاعر الإنجليزي تيد هيوز، وراحت تنشد على مسامعه القصائد بصوتها العذب الرنان.

عندما مرت سيارة الدورية توقف الضابط وطلب أن تسمعه قصيدة، قرأت "Two Wise Generals". أثنى على صوتها وقال إنها جديرة بالعمل مذيعة في البي بي سي.

بعد انصراف الدورية سألها: "لماذا الشعر"؟ لاحظتْ التماع عينيه وهو ينظر بإعجاب إلى الضابط الرفيع الرتبة، فحدست أنه مشتت ما بين طموحه في الجيش ورغبته في كتابة الشعر: "هذا السؤال يشبه أن نقول لماذا نحلم"؟

تململ توماس ونقل ثقل جسمه من قدم لأخرى: "وهل من الضروري أن نحلم؟ أنا أُفضِّل النوم بعمق وألا أرى أية أحلام".

احتضنت فلور الكتاب وكأنها تحميه: "أمي عندما أصيبت بجلطة في الدماغ قالت إنها لم تعد ترى أحلامًا، كانت تأسف لذلك وتحنُ إلى أحلامها".

جفل حين سمع نعيق غراب: "ربما الجلطة أعطبت الجزء المسؤول عن توليد الأحلام في دماغها، وإذا لم أكن مخطئًا فإن هذا الجزء هو نفسه مصدر الإبداع"، رمقها بنظرة خاطفة ثم ضحك: "أحتاج جلطة خفيفة أو خدشاً من رصاصة غير قاتلة تتلف دودة الشعر التي تنخر في دماغي"!

جففت فلور عرق جبينها بمنديل قماشي تحمله معها دائمًا: "الشعر هو أحلام الأمة، الأمة التي لا تكتب الشعر أو توقفت عن قوله هي أمة مريضة وعلى شفا الموت".

كان الهدوء شاملًا، لذا توقع أن صوت فلور كان مسموعًا بوضوح من المساكن القريبة، قال بصوت خفيض: "قرأت ولا أذكر أين أن الإنسان السعيد لا يرى أحلامًا، وقياسًا عليه فإن الأمة السعيدة لا تكتب شعرًا".

خفَّضت فلور من صوتها أيضًا: "وهل نحن أمة سعيدة حتى نكف عن كتابة الشعر"؟ كانت تبحث عن عينيه، لكنه تجنب النظر إليها حين تكلم: "أعتقد أننا أسعد أمة على وجه الأرض.. الحقيقة.. نحن أمة لم نعد بحاجة للشعر".

ردت فلور وقد شعرت أن رده مهين لها شخصيًا، وكأنه يقصدها هي بطريقة غير مباشرة: "لو كان كلامك صحيحًا فلماذا أنت هنا؟ هل أنت سعيد لأنك توجه بندقيتك إلى صدور أناس أبرياء"؟

التفت إليها ورد بحدة غير عابئ بخفض صوته:" ليسوا أبرياء.. هؤلاء إرهابيون.. لو وجدوا فرصة لقتلونا جميعًا".

وقفتْ فلور ونكستْ رأسها، سكتت على مضض مدركة أن مجادلته لن تزعزع من قناعاته، غادرت دون كلمة وداع.

لم يحاول استرضاءها ليستبقيها، لقد اشتعل غضبه ولم يعد قادرًا على تحمل مزيد من النقاش معها. لم يلتفت إلى الوراء، أرهف سمعه وهو ينصت إلى خطواتها المبتعدة ثم صوت انغلاق باب العمارة الحديدي خلفها.

تنهد كأول بادرة ندم على انفلات أعصابه، واستغرب كيف تغيّرت مشاعره في ثوانٍ ورغب في اللحاق بها ليعتذر لها.. وهو في غمرة مشاعره هذه سمع صوت ارتطام جسم آتٍ من خلفه، التفت بسرعة فإذا هي قنبلة يدوية تتدحرج باتجاهه، قفز إلى خارج الدُشْمة متشبثًا بسلاحه وقد ندَّت عنه صرخة مكتومة، انبطح على الأسفلت وحمى وجهه، وحين انقضى الوقت اللازم ولم تنفجر أدرك أنها معطوبة، فجلس على ركبة ونصف وراح يطلق النار باتجاه الموضع الذي خمن أن القنبلة قد رُميت منه. ثم استجمع رباطة جأشه واندفع ملاحقًا الرامي، سمع فلور تناديه فلم يعبأ بإجابتها، جرى بأقصى قوته، وتوقف في نواصي الشوارع الفرعية محاولًا استراق صوت أقدام هاربة ولكنه فقد أثره.

تبعته سيارات الدورية وبدأت بتمشيط الحي، وطلبوا منه المرابطة في موقعه. كانت الدشمة تغص بالجنود، ناوله أحدهم القنبلة الفاسدة التي كادت أن تنهي حياته، اتسعت حدقتا عينيه وهو يتأملها وأطلق زفرة ارتياح غير مصدق نجاته.

شقت فلور طريقها من بين الجنود الملتفين حوله وعانقته بحرارة والدموع تترقرق في عينيها، ألبسته البيريه الذي سقط منه عند قفزته وسوَّته على رأسه، لامته قائلة: "لماذا لم ترجع عندما ناديتُ عليك"؟ اكتسى وجه توماس بحمرة الخجل لإظهارها عواطفها في حضرة رفاق السلاح: "أردتُ أن أرديه ولكنه سريع للغاية"، قالت فلور وهي تنظر في عينيه: "أقصد أننا لا نعلم كم مكث في الجوار يستمع إلينا فلما تيقن أنني انصرفتُ رمى القنبلة"، ارتد توماس بجذعه للوراء متفاجئًا ثم هز رأسه بقوة: "أوه نعم.. إنه جنتلمان".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها