عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع صدر للدكتورة أماني الجندي، الباحثة في التراث الشعبي كتاب "المعقول واللامعقول في الثقافة الشعبية" متناولًا أشكالًا شتّى من الثقافات، تجمع في طياتها بين المعقول واللامعقول في ثنائية تبرز التنوع المعرفي.
الثقافة الشعبية.. واستمرارية الصمود
تبدأ الكاتبة دراستها بتساؤل ترى أنه يطرح نفسه أمام كل مهتم بالثقافة أو بالتراث الشعبي، وهو كيف استمرت الثقافة الشعبية صامدة على مدى القرون الماضية رغم التطور التكنولوجي المبهر، والثورة المعلوماتية الهائلة في مختلف العلوم والمجالات؟ ثم تجيب عن ذلك التساؤل بأن الأمة التي لا ماضي لها هي أمة بلا حاضر ولا مستقبل.
وعن الضحك والضحاكين في الثقافة الشعبية تقول: إن العالم خلق من الضحك وللضحك ألواناً مختلفة، وذلك تبعاً للأسباب التي تثيره، فالمصري يتميز منذ القدم بروح الفكاهة، وهو دائماً "ابن نكتة".
وقد تناولت "الجندي" الأراجوز في هذا الكتاب بوصفه فنًا من فنون الفرجة الشعبية المصرية، انتشر في المناطق الريفية والشعبية، خاصة في المواسم والأعياد والموالد، وأنه شكل قديم للمسرح في مصر، يقوم أساسًا على العرائس اليدوية التقليدية، وكيف بدأ ارتجالياً قائماً على التواصل مع الجمهور معبراً عن مشكلاتهم الاجتماعية وغيرها على نحو ما نرى في "المولد". ثم تحدثت عن دور المرأة البارز والمهم من بداية نكسة 1967م وفي حرب أكتوبر؛ حيث ضربت أروع الأمثلة في الإخلاص والشجاعة والإقدام في تهريب الفدائيين، من خلال أنفاق وطرق لا يعرفها العدو.
المرأة حاضنة للتراث الشعبي
بدأت الجندي محورها الثالث عن المرأة بألقاب عظيمة حملتها في عهد المصريين القدماء، وكيف وصلت لمكانة لم تصل لها النساء في أي مكان آخر على كوكب الأرض، كما تقلدت وظائف دينية في المعابد منها كبيرة الكاهنات، حتى وصل التقدير العملي لها لدرجة رفعتها إلى عرش البلاد، وهو ما يشير إليه ما يعرف "بنظام سلطة الأم"، وهو نوع من النسق الاجتماعي الذي يشير إلى مبدأ حق الأم في السلطة العائلية.
وفي حديثها عن المرأة بوصفها حاضنة للتراث الشعبي؛ مؤكدة على ذلك من خلال ارتباط المرأة أدائياً بعدد ضخم من الموروثات الشعبية، كارتباطها برواية الحواديت للأطفال، ورواية الأغاني الشعبية كأغاني الأفراح أو العيد، والأمثال الشعبية، وبعض الحرف والصناعات الشعبية وغيرها من ألوان الإبداع الشعبي.
بعدها تنتقل لتناول المرأة الجنية في الحكاية الشعبية؛ فأساطير أي شعب من الشعوب لا يمكن أن تخلو من حكايات الجان أو الملائكة، وإن اختلف ظهورها من مثيولوجيا شعب آخر؛ ذلك أنها في كل الأحوال ظاهرة متكررة ومعروفة في كل المأثورات الشعبية العالمية.
طقوس استقبال المولود
بعدها انتقلت "الجندي" للحديث عن المولود في الثقافة الشعبية بالواحات البحرية، حيث ذكرت الواحات في الصحراء الغربية بمصر وخصائصها وسكانها وتقسيماتها، ثم تطرقت لسمات الثقافة الشعبية بها، ورصد عوامل التغيير وأسبابه، والتي تعكس بالطبع التغيير في المجتمع المصري ككل متناولة العادات والتقاليد من عادات وطقوس استقبال المولود ورعايته حتى الفطام، لما تتميز به تلك المناطق من خصائص نوعية وسمات فلوكلورية متميزة، ذات طابع خاص يميزها عن باقي الثقافات الأخرى.
ثم تتناول قصة الغزالة في الأسطورة الشعبية "سيف بن ذي يزن"، فقد وقع البطل تحت رحمة أنثى "الغزالة" مزدهرة الأمومة، تحنو على الطفل وتنقذه من الموت، وتحميه بدلا من أن يقع فريسة حيوان جائع.
حكايات الصوفية
تنتقل الكاتبة في سلاسة ويسر للحديث عن "الصوفية و"القوالون" في الثقافة الشعبية، فأبرزت الأصل الذي قامت عليه الصوفية في الغناء والسماع، وذلك في تعريفها "للقوالون" وهو لون من ألوان الفن الشعبي، يسمى الفن الإلهي، ثم تناولت الباحثة الأسبلة والتكايا مبرزة دور التكايا في مصر في إيواء الدارسين والفقراء والغرباء ورعايتهم ماديًا وغذائيًا.
وتناولت بعد ذلك الثقافة الشعبية لمحافظة الإسكندرية، المعتقدات والمعارف العامة لمحافظة الإسكندرية، وهي تنقسم إلى معتقدات مرتبطة بالأولياء والقديسين، ومعتقدات مرتبطة بالكائنات فوق الطبيعة والأفكار الاعتقادية المتعلقة بالسحر والطب الشعبي والأحلام، ومعتقدات شعبية تدور حول جسم الإنسان أو الحيوان والنباتات، والأحجار والمعادن، والأماكن والزمن والأوائل والأواخر، والروح والطهارة والنظرة إلى العالم.
وتناولت الباحثة حكاية "أبو زعبل في الثقافة الشعبية"، وسبب اختيارها لإنشاء أول مدرسة للطب البشري بها، وكيف عاشت "أبو زعبل" بلدة صامدة قوية تصنع المجد، وتزرع الحياة وتحكي قصة المجد والخلود لكل جيل.
واختتمت الجندي هذا الكتاب بموضوع الجذام في المعتقد الشعبي، فتحدثت عن مستعمرة الجذام وما يوجد بها، وعن صفات مرضى الجذام وحياتهم وطرائق معيشتهم.
وأخيرًا فتلك تجربة جادة –تضاف إلى تجارب الباحثة السابقة- لتناول الثقافة الشعبية من منظور مغاير؛ فالتراث الشعبي هو تراكمات فكرية وخيالية تنبع من وجدان الإنسان، وتعبر عن طموحاته وأحلامه ومعاناته وتحدياته وطرائق معيشته، وتسجيل للخبرات الإنسانية والارتباط بالتراث يغذي الإبداع، ويعمق الشعور بالهوية والانتماء فهو من الناس وإليهم، يربطهم بماضيهم ويشدهم نحو حاضرهم ويدفعهم نحو فتح النوافذ لاستشراف مستقبلهم، ويحفزهم على الخلق والإبداع، والحفاظ على الهوية ومقاومة حالة الاغتراب التي يعاني منها العالم اليوم، كما يمثل أرضاً خصبة وميراثاً غنياً بالدلالات والرموز والإيحاءات، يظل دائمًا قادرًا على سبر أغوار النفس الإنسانية، ومن ثم فهو خالد أبدًا وباقٍ بقاء التاريخ.