لقد ذاع صيت ثُلةٍ كبيرة من شَواعِر الأندلس، وضربن أروع الأمثلة في قصبة السبق ببيانهن الشعري؛ فكانت منهن المكثرة والمقلة، في أغراض الشعر كلها، مدحًا وهجاء وغزلًا... فكانت الطبيعة لها النصيب الأوفى كما كان سائدًا في ذلك العصر عند الشعراء، ولهذا، فإن (حمدونة الأندلسية) إحدى الشاعرات الأندلسيات المقلات توقفت عند الطبيعة الحركية، في ثوب تغزل مرة، وتارة أخرى تصف الشاعرة ديناميكية الطبيعة في مجلس أنس؛ فالديناميكية التي أقصدها هي (الحركية)، وسأفصل هذا فيما يأتي:
حمدونة الأندلسية خنساء المغرب
ومن هؤلاء الشاعرات الأندلسيات المقلات الشاعرة (حمدونة بنت زياد)، التي عرفت بتغزلها العفيف، حتى لقبت بـ(خنساء المغرب)؛ إنها "حمدونة بنت زياد بن بقي المؤدب، من قرية بادي، من أعمال وادي آش، كان أبوها زياد مؤدّبا، وكانت أديبة نبيلة شاعرة ذات جمال ومال مع العفاف والصون، إلا أنّ حبّ الأدب كان يحملها على مخالطة أهله مع نزاهة موثوق بها، وكانت تلقب بخنساء المغرب وشاعرة الأندلس"1، وما تبقى من شعرها حسب اطلاع الباحث ثلاث مقطوعات فقط، منها اثنتان في وصف الوادي، وسيتوقف الباحث في هذا المقال عند هاتين المقطوعتين فيما يأتي:
أولًا: الثنائية الديناميكية بين الطبيعة والتغزل في حضرة الوادي
لقد توقفت الشاعرة عند الطبيعة بحركيتها من خلال مقدمة يحسبها المتلقي غزلًا خالصًا، لكن حينما يمعن فكره ويعصف ذهنه، يتضح للمتلقي أنها مقطوعة في وصف ديناميكية الطبيعة، وقد ارتجلتها الشاعرة حينما خرجت مرة إلى الوادي مع صبية، فقالت"2:
أباح الدمعُ أسراري بوادي... له للحسن آثارٌ بوادي
فمِنْ نهرٍ يطوف بكلِّ روضٍ... ومن روض يَرف بكلّ وادي
ومن بين الظِّباء مهاةُ إنسٍ... لها لُبِّي وقد ملكتْ فؤادي
لها لحْظٌ ترقده لأمرٍ... وذاك الأمرُ يمنعُني رقادي
إذا سدلتْ ذوائبَها عليها... رأيتَ البدرَ في جُنْحِ السوادي
كأنَّ الصبحَ مات له شقيقٌ... فمن حزنٍ تسربَلَ في الحِدادي
ما أجمل أن تقال أبيات في موقف نزهة وتنزه؛ فالوجدان حاضر، والنفس طربة، ولهذا بدأت أبياتها بديناميكية حركية بتراسل حواسي بين حاستي التذوق والبصر بصورة تباين لفظي (أباح، أسراري)، بإعطاء معطيات حاسة اللسان للفعل (أباح) في صورة حركية لصيغة ماضيه، التي رسمت به الشاعرة حركية الدموع وهي تذرف، موظفة إياها مع معطيات حاسة البصر الرؤيوية (الدمع)؛ فكأن هذا الدمع يرى بالعين ولا يتكلم باللسان، وذلك كله في ثوب خفي؛ فلم يكن الدمع فاضحًا لكل الأسرار، وإنما بوح خفي، إضافة إلى تلك الأسرار التي كمنت داخل نفسية الشاعرة فكتمتها، ورغم ذلك؛ فما أجمله من بوح! حينما يكون وسط رياض الطبيعة الغناء، بواد جميل المنظر، تتخلله حركية انسيابية للمياه، في موقف يشهد بجماله الجميع، نسقته وحاكته موسيقى ذلك الجناس الناقص بين المصراعين (بِوَادي، بَوَادِي)، فكل هذا الجمال بدا وتراءى بسبب ذلك الوادي، ولولاه ما كانت تلك الدموع العاشقة لجمال تلك الطبيعة.
هذا إلى جانب الديناميكية الحركية لانسيابية المياه؛ إذ تسري وسط الوادي في حضرة التفاف تلك المياه بالورود والثمار في الجنات؛ فهذا جمال طبيعي في صورة حركية، وكأنهما دائرتان ملتفة إحداهما حول الأخرى بالتخالف، ثم تدلف الشاعرة إلى التغني بالغزل وسط هذا الجمال الطبيعي للوادي؛ فهي خنساء المغرب تغزلًا! فقد عبرت عنه على استحياء، وكأن قائل الأبيات هو المحبوب/ الرجل كاشفة عن جمالها ورشاقتها برمزية (مهاة) باعترافها بامتلاك الهوى فؤادها، رغم أن تلك الأبيات من قريحتها هي، وهذا يكشف عن حيائها وخجلها من البوح بهواها؛ فهي "إحدى المتأدبات المتصرفات المتغزلات المتعففات"3؛ فتلك طبيعة شاعرات الأندلس، خلافًا لمن يذهب إلى أنهن تبجحن في الغزل، ولم يخجلن من البوح والإفصاح عن العلاقات العشقية.
ثم تستكمل (حمدونة) حركية سحر ألحاظ تلك المهاة (المحبوبة) التي اقتنصت قلب محبوبها فظل هاجعًا لا يهدأ له مضجع، ولا يقر له مرقد، فقد عبرت حمدونة عن حركية جمال الطبيعة وأثر تغزلها في قلب محبوبها، بما أحدثتها رشاقتها التي تأخذ لبَّ محبوبها حينما ينظر إليها، خاصة إذا غضت الطرف عنه؛ فذلك التغافل أقضَّ مضجع ذلك المحبوب؛ فهو يخشى مما تخفيه ألحاظها تجاهه، فتوقف حركية ألحاظها أسرته وقيدته، فهل ستعبأ به إذا رفعت طرفها أم ستتجاهله؟ إضافة إلى الطبيعة الأنثوية الساكنة في صورة تباين لوني لذوائبها الفحماء التي تبدو فيه ساطعة، فإذا نظرت إلى وجهها وشعرها خلتها ليلة ظلماء بدا فيها البدر ساطعًا، وفي هذا كله مبالغة في وصف الطبيعة. ومن ثم، فاقت تلك المهاة/ المحبوبة -الصبح ضياء ونورًا، فلم تزل ظلمة الليل حتى الصباح، حتى إنه صار كإنسان فقد أقرب أحبابه إليه، فظل حزيناً على فقده، فصار الحزنُ ثوباً له؛ حدادًا على حزنه، وفي هذا إشارة إلى ظلمة الليل التي أزالها اسفرار النهار.
وبذلك، نخلص إلى أن تلك النزهة التي خرجت إليها الشاعرة، كانت وسيلة لبيان جمال الطبيعة في صورة غزلية، وهذا كله مبالغة تعبير عن جمال الطبيعة في معرض التغزل وسط جمال ذلك الوادي، وتلك الطبيعة المتحركة للمياه والألحاظ والهجوع والليل والصبح، فكلها طبيعة تكشف عن التباين اللوني للبياض والسواد الذي يؤكد جمال بشرتها واسوداد ذؤابتها، إلى جانب التشاكل الطبيعي المتناسق في وسط الرياض التي تتخلها مياه النهر، فرشاقة الشاعرة وجمالها يسري في وجهها كالنهر حول الرياض.
ثانياً: الثنائية الديناميكية لمجلس أنس في حضرة الوادي
لقد اعتاد الشعراء حال توقفهم عند الطبيعة أن يصفوها بشقيها الساكن والمتحرك غالباً، والملاحظ أن الشاعرة حمدونة في وصفها رسمت لوحة جمالية طبيعية ديناميكية لمفردات طبيعية، من ظل ظليل، جلبته تلك الأشجار والثمريات التي نبتت بذلك الوادي، وتتضح تلك الديناميكية لمعطيات الطبيعة عند تلك الشاعرة، في قولها:
وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ... سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإ زلالاً... ألذّ من المدامةِ للنديمِ
يصد الشمسَ أنَّى واجهتْنا... فيحجبُها ويأذنُ للنسيمِ
يروع حصاه حاليةَ العذارى... فتلمس جانب العقد النظيم
في تلك المقطوعة الخماسية الطبيعية، تظهر حركية الشمس ليتولد الظل بما يحيطه من ديناميكية الهواء الطلق الوارف، وسط الرياض بأشجرها المتمايلة يمنة ويسرة؛ فتجود بالهواء، وتحجب الحرارة، كل ذلك في صورة لوحة طبيعية حركية للظل؛ فكان وسيلة حماية ومتعة ووقاية من رمضاء وقت الهجيرة؛ فذلك الوادي هو سبيل النجاة من حرارة الرمضاء قبيل الظهيرة، فظل أشجار الوادي ينساب بحركية كغيث عمهم، فصورت الشاعرة الظل في امتداده وكأنه ماء منساب؛ لتأكيد توافر ظلال الجنات في ذلك الوادي، إضافة إلى أن دوح الوادي يتميز بلطف نسيمه؛ فصورته الشاعرة في صورة أمومية؛ إذ حنا عليهم الوادي حنو الأم على رضيعها؛ لا بريح عاتية، وإنما بهواء لين دفئاً ونسمة؛ حتى إنهم تمتعوا بهواء وظل ظليل، إلى جانب صفاء مياه ذلك الوادي التي يرتوون منها؛ فلذة تلك المياه في جمالها ونقائها كالخمر حينما يهنأ الشارب بها من يد ساقيها؛ فالوادي كله منحهم ألوانًا من الجمال والبهاء، إلى جانب حمايتهم من قيْظِ الشمس، ونشر نسمات الهواء الطلق المصافح لوجوههم؛ فحركية نسيم الوادي تريح من يشتمها ولا تؤذيه، فصار الوادي خير بقعة تمتعت الشاعرة مع رفيقاتها بالجلوس فيها؛ بظلال وارفة، ونسيم طلق، إلى جانب لين أرضه التي تكسوها الحصباء اللامعة المتراصة الناعمة، كمثل نعومة عذار الفتاة الذي يجمله حلي عقدها.
الخاتمة:
ومما سبق، يتضح أن جل ما وصلنا من شعرها جاء في وصف ذلك الوادي، من خلال المعطيات الطبيعية، في صورة حركية، رسمتها أيقونة حياة البشر/ المياه إلى جانب رموز الطبيعة الصامتة لليل والنهار والرياض... وفي حضرة تلك الجنات الخضراء التي استدعت الهواء الطلق بظلالها الوارفة كانت جلستهم الماتعة التي نعموا فيها بكل منح، من هواء وظل وحسن منظر وطيب ريح، ومن هذا يتضح أن شعر حمدونة، عبر عن جمال تلك البيئة الأندلسية عامة، وبيئة الشاعرة خاصة، بالتوقف عند المعطى الطبيعي المكاني الصامت (الوادي)، مرة في صورة حركية غزلية في المقطوعة الأولى، وأخرى في صورة بيانية صورت جمال الطبيعة المحيطة بذلك الوادي؛ فهي وإن كانت خنساء المغرب تغزلًا، فهي حاضرة الوادي وصفًا وتنزُّهًا.
الهوامش: 1. الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله (ت: 626هـ) : معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب): تح: د/ إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ ـ 1993 م، ج3/ص: 1211.┇2. المقري، شهاب الدين أحمد بن محمد (ت: 1041هـ)، نفح الطيب: تح: د/ إحسان عباس، دار صادر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1997م، ج4 /ص: 287، 288.┇3. ابن الأبار القضاعي، محمد بن عبد الله بن أبي بكر (ت: 658هـ): تحفة القادم، علّق عليه: د/ إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406هـ ـ 1986 م، 234.