كتابات الحياة بوصفها شكلاً سردياً

ملاحظات عن مذكرات جمال عبد الملك "ابن خلدون"

د. مصطفى محمد أحمد الصاوي



1. إضاءة

تعتبر مذكرات جمال عبد الملك "ابن خلدون" التي وسمها بـ(عابر سبيل) نموذجاً ساطعاً للمذكرات التي يمكن أن تقرأ كسيرة ذاتية على نحو ما؛ لأنها نص يصور الحدود غير الواضحة بين نوعين من كتابات الحياة التي هي في جوهرها "اختراع للذات، وتشكيل للهوية، ويفرض هذا بدوره على الأنا الرواية توخي الحذر أثناء الكتابة، لكيلا تصطبغ السيرة المؤلفة بلون هوية جانب من جوانب شخصية (الكاتب) على حساب الجوانب الأخرى"1، هكذا قرر (سيدوني سميث) و(جوليا واتسون).

سعت مذكرات ابن خلدون للكتابة عن الذات، وتكوينها، وتجلى فيها "كشاهد عيان ومؤرخ"2. لقد استطاع الكاتب أن يوائم بين كتابة المذكرات والسيرة الذاتية للتوازن الدقيق في سرده بين الأحداث العامة (المادة الاجتماعية والسياسية)، وتجربته الشخصية "كاتب المذكرات يلعب دائماً دور شاهد عيان على أحداث تاريخية تقع أمامه، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون الكاتب متورطاً في الأحداث، ومن هنا فإن تكوين الشخصية وهو موضوع عزيز على كاتب السيرة يكون دائماً وراء الحكاية"3.

نخلص إلى أن مجال المذكرات يشمل ويتداخل مع السيرة الذاتية، وبالتالي نهض النص، وارتكز على المجاورة بينهما في بنيته الشكلية موازنة متحت من التاريخي والحكاية وذلك "يمثل الحد القوي بين انجذابها مرة إلى التاريخ، ومرة إلى القصة المتخيلة...4.

2. الميثاق السيري

سوف أحاول في ضوء ما سبق قراءة النص، وتوصيح كيف تم الإعلان عن الميثاق السيري وطرائقه والتي تمثلت في التالي:
أ. عنوان النص.
ب. التطابق في الاسم باعتباره دالاً على النوع.
ج. الإهداء.
د. المقدمة.
هـ. كلمة الناشر.

أ. عتبة العنوان: وسم الكاتب نصه بعنوان عابر سبيل، المفردة عبرَ يَعبر عُبوراً... عَبر النهر قطعه من جانب إلى آخر، أو عبر الطريق... عابر سبيل: مار بالمكان دون أن يقيم فيه، وارتبط بالعنوان الرئيسي عابر سبيل تحديد للنوع السيري (مذكرات عابر سبيل تُرى هل قصد الكاتب من العنونه أو مَن حرر النص بهذا العنوان حياة الكاتب بين مصر والسودان، ومن ثم باقي الانتقالات المكانية التي أشارت المذكرات إليها.

ب. ثم يأتي سؤال التطابق بين اسم السارد- الشخصية المركزية داخل (السرد) مع اسم المؤلف الموجود على غلاف الكتاب الذي يتضمن النص إلا أن السرد يظهر سارد غيري "كان شريف سعيداً بجدته"، أو ينقل عنه ويقول:- أي شريف "لجدي غير البيت الذي نسكنه أربعة بيوت"، نحن هنا إزاء سارد خارج السرد يحكي عن شريف ولعل الأخير الاسم الحركي له، وفي موضع آخر "يروي شريف كيف خططوا للمؤامرة وكيف تمت"، وسواء تم السرد بواسطة الكاتب، أو المحرر الذي نقل عنه يُحيل السرد إلى وقائع حياة ابن خلدون. كل ما سبق لا ينفي دور المحرر الواضح في تضاعيف السرد، يقول المحرر: "عهد إليَّ الصديق العزيز شريف إبراهيم بتحرير مذكراته بناء على طلبه، وأرجو أن أكون عند حُسن ظنه فهو صديق العمر".

ج. الإهداء: تضمن النص في سياق الميثاق السيري إهداء، كتبته الأستاذة/ جيهان جمال عبد الملك أشارت فيه "لو صدر هذا الكتاب في حياة أبي لما أهداه إلا لشعبي السوداني الطيب، الناس الذين عشت وترعرعت وكبرت بينهم". في هذا الإهداء عرفان للوطن وبعض المؤسسات والأفراد، وكأنها تبارز عبارة (عابر سبيل)، وكأنها تقول في هذه الأرض عاش، وعمل بالصحف، وجامعة الخرطوم، وحَاضر في الكلية الحربية. وخص الإهداء والدتها رفيقة درب الكاتب، والزمن الجميل الذي عاشوه في السودان، ثم التفتت لوالدها في ختام الإهداء "شكراً لجمال عبد الملك (ابن خلدون) الذي كان لي أباً حنوناً وصديقاً قريباً إلى القلب والروح، والذي سيبقى في القلب دائماً وأبداً".

د. المقدمة: المقدمة غيرية، دونها عبد الله علي إبراهيم ويسترعي الانتباه عنوانها "جمال عبد الملك (ابن خلدون) سوداني لم تلده أمك"، ويلتقي في جزء منها مع الإهداء الذي دونته جيهان جمال "وأظن جمال أحبنا في السودان بصعيدته... وترك بصمات في ثقافتنا".

تميزت تلك المقدمة الغيرية بطابعها الجدالي، ومؤشراتها النقدية ومخاطبتها للقارئ، وحافظت كنص واصف على علاقتها مع النص المبدع.

وجاءت واصفة، وشارحة للعمل وأهم ما ورد فيها:

وصف محتوى الكتاب وإظهار البعد السياسي لعبد الملك بن خلدون، وكذلك دوره في الصحافة السودانية، والجفوة التي كانت بينه وبين الحزب الشيوعي السوداني.

3. محكي الطفولة

عبر صفحات محدودة وإن كانت مكثفة عرض جمال عبد الملك ملامح طفولته، تلك المرحلة التي غابت عن العديد من كتابات الحياة بالسودان، والتي رأى فيها عدد من النقاد أهمية كبرى "الاهتمام بمرحلة الطفولة هو علامة أخرى من علامات التغيير الأدبي، فتلك المرحلة من حياة الإنسان لم يكن لها دور يذكر في الكتابة الأوتوغرافية في الأدب القديم"5.

وارتبطت هذه الفترة هنا بالمتخيل حينما يكتب الكهل عن طفولته مهما كانت قوى الذاكرة واستدعاء الماضي، لا بُد من تسلل ما هو متخيل "تلك لمحات من عالم الطفولة القديم كما تبدو عبر تلسكوب الحاضر". ومن بين تلك الاستعادات تنبثق صورة أمه الغابئة "بالموت"، "وذات يوم يجوس الولد داخل خزانة الملابس فيعثر على صورة بحجم كارت بوستال يتأملها لحظات قبل أن تأتي المرأة العجوز فتخطفها منه، كانت صورة سيدة ذات ضفائر وعيون واسعة... عرف فيما بعد أن صاحبة الصورة كانت أمه التي توفيت بعد ولادته فلم يرها".

أما أهم ملامح سرد الطفولة فقد تمثل في ما يلي:
أ. انتقاء بعض أحداث طفولته.
ب. التعويل على تمجيد الذات "في امتحان الشهادة الابتدائية كنت واحداً من الأربعة الأوائل بالمنطقة".
ج. توظيف ضمير المتكلم، وضمير الغائب.
د. الحضور الجزئي لمرحلة الطفولة.

4. آليات التذكر

إن فعل الكتابة في السير والمذكرات ينهض على اختراع الذات وتشكيل هوية الكاتب لذلك لا "تكون نتيجة استحضار عشوائي، أو تلقائي لأحداث الماضي، ثم إخضاعها لشروط البنية السردية بهدف نسج حكاية تلعب فيها الذات الأنا المروية دور البطولة، بل تتشكل عبر عملية تذكر واعية"6. هذا القول يتبدى في عنونة الفصل الأول "جزر في محيط النسيان"، ويشير فيه إلى آلية التذكر والنسيان "الذكريات نقاط ملوّنة مضيئة في بحار الظلمات مشحونة بأحاسيس، ومشاعر متباينة... وتطفو فوق محيط النسيان الرمادي".

والذكرى عنده في سياق سرده تجلب الذكرى (آلية سردية) "اعتقلني لأول مرة رجال البوليس السياسي، ووضعوني في سيارة فاخرة، وجلس واحد عن يميني والثاني عن يساري وكوع مسدسه يضغط ضلوعي"، وتذكرتها عندما استدرجني أحد العملاء لكمين. ويستخدم في الفصل الثالث عنواناً يرتبط بالذاكرة والتذكر "من حقيبة الذكريات"، والأخير كتاب سيري للعلامة عبد الله الطيب، وفي هذا الفصل والفصول اللاحقة يتفنن في استدعاء الذاكرة عبر مصادر متعددة... مصادرها: البنية الأسرية كما في الفصل الأول، ودخول الجامعة، وبدايات انضمامه للعمل السياسي، وانتقالته المكانية من مصر/ السودان/ لبيبا/ أوروبا، مع الإشارات لبعض الأحداث التاريخية تلك الفترة. تمثل واقع تاريخي في حد ذاته وكذلك الأحلام: "وصفت للطبيب مشاهد الغرق في أحلامي... فقال إن خطر الغرق ومقاومته رمز للصراع بين إرادة الحياة وعوامل الفناء".

فالذاكرة حاضرة في النص وإن أشار إلى ثنائية التذكر، والنسيان والذاكرة هنا "ليست ملكة طارئة، بل هي متوفرة لحظة وقوع الحدث ولحظة تدوينه... قد تطول وقد تقصر"7.

تساع مدى الذاكرة يستجلب تداعي الذكريات وهي "من حيث المادة أوسع من السيرة الذاتية، كما أنها تهتم برصد الأحداث التاريخية"8. ولعل هذا هو الذي يمكن أن تُفسر به الموازنة بين السيرة الذاتية والمذكرات هذه الثنائية الأجناسية هي التي نهض عليها النص واندرج في التالي :
أ. ملامح الهوية الشخصية.
ب. الأيديولوجيا والتاريخي (بمصر) و(السودان).

وإذا كان دور الذاكرة في كتابات الحياة (كتابة الأنا)، تفترض أنا المتكلم أن يروي قصة حياته "الذي أضحى على الذي كان عليه"، وهنا تتشكل في عدة أصوات وهي:
- صوت الطفل المعذب.
- الصبي الذي يتطلع للمعرفة.
- الشاب المناضل وسط مجموعة من التيارات اليسارية المتطاحنة والهروب للسودان.

ارتبطت تلك الذاكرة بـ(ذاكرة) مكانية، احتوت بيت والدته وفضاء السجن، فالذاكرة المكانية تهيمن على هذا النص عابر سبيل، صفر الخروج، وأيضاً مفترق طرق والأخير: "المكان الذي تتقاطع عنده الطرق، وترتبط بمفترق الطرق خرافات ومعتقدات شتى... أرواح شريرة، ساحرات، شياطين مردة... الناس يخشون الوقوف بمفترق الطريق ويعتقدون أن أي شيء يمكن أن يحدث لهم"9.

5. البناء الفني للمذكرات

أ. استطاع الكاتب أن يضفي على النص أبعاداً عبر السرد الشائق، رابطاً بين الأجزاء المتباعدة، والتفصيلات المتناثرة.

ب. رسم صورة للذات (أنا الكاتب)، في مواجهة الآخرين (البنية الأسرية) والرفاق في العمل الحزبي.

ت. التنامي على صعيد بناء الحدث في الجزء الأول، حرص على ملامح شخصيته "الطفولة، والشباب، ودخول الجامعة بدايات الوعي السياسي، السجن، سفر الخروج، وفي الجزء الثاني اتسع مدى الذاكرة، حيث وضح الانتقالات في الزمان والمكان وتعدد التجارب".

ث. ينطوي الكتاب الثاني على التجربة الحياتية بالسودان "كانت لحظة عبوري للحدود المصرية ووصولي إلى بر الأمان في السودان قمة النشوة التي لا تمحوها قسوة أي أحداث أخرى تالية، كان كل شيء يؤكد الإحساس بالحرية".

ج. حرص على الانتقال من مقام السرد عن نفسه إلى مقام السرد عن آخرين مثل هنري كوهين شهدي عطية، الجنيد علي عمر، زكريا راشد.

ح. درامية الصراع، حيث أشار إلى الجبهة المعادية للاستعمار، وتصعيد الخلاف بين الجمعية الوطنية والجبهة المعادية للاستعمار نقرأ هنا: "إن شخصاً يظهر بمظهر التقدمي اسمه... هو في الحقيقة عميل للامبريالية، يحاول تخريب حزبنا المجيد، وعلى الزملاء أن يحذروا الاتصال به". وكأنه يستعيد ما مر به في مصر، ولكن في سياق آخر ومناخات مختلفة.

خ. من تجليات الذات الحميمة في هذا العمل إشارته للزواج "لم يكن الزواج أمراً سهلاً، فقد كان عليَّ أن أبحث عن زوجة في إطار الأقلية المسيحية في السودان، ولكن اختلاطي بهم كان ضعيفاً فأكثرهم كانوا ينفرون من السياسة، وينشطون في المجالات الاقتصادية"، ولكن التجلي الأكثر خصوصية اتضح في تجربة شديدة الخصوصية، وردت في مقام سرده السيري الذاتي في أيام مرض ابنه ماجد، وما صاحب ذلك من ألم ومحاولات لعلاجه بالخارج حتى لحظة وفاته "وقد أدهشني أن يصبح علاج طفل موضوع تساؤلات وتأويلات، وفي موضع ثانٍ "قال لي بوضوح لا ضرورة لذلك لأني سأموت.... اقرأ من مكان ثان.... فقرأت له الراعي الصالح، وقال هذا يكفي ثم أسلم الروح".

د. تبدت في النص (ثيمة) مهيمنة في أغلب السيرة والمذكرات بالسودان "الحديث عن الجيل"، كفاح جيل محمد خير المحامي، قدر جيل (يوسف بدري)، ذكريات جيلي (حامد ضو البيت).

ذ. تندرج هذه المذكرات في شكل تأليفي يوازن بين السيرة الذاتية والمذكرات على الرغم من صعوبة الفصل بينهما لتعويله على المواجهة بين الخاص والمجتمعي العام "بعد فقدان الابن واغتراب الابنة وتسلط الأرذال على شؤون خلق الله، وتحول الحياة إلى عذاب متصل للحصول على أبسط الضروريات، صار العيش فوق طاقة الاحتمال فقررت الخروج"، وفي لحظة التدوين والكتابة يختلط عنده الخيال بالواقع "كان معي نسخة من رواية (مفترق الطرق)"، قلبتها عندها خفت الحمى... تذكرت فندق الإسماعيلة، حيث استضافني عبد الغفار من أربعين سنة أو لعله عبد التواب هنا الخيال يختلط بالواقع.


الخلاصة:

إن هذا النص أسس لكتابة سيرية امتزج فيها العام بالخاص مع التاريخي، الذاكرة الفردية للكاتب مع الذاكرة التاريخية في بعض ملامحها لبلدَيِ مصر والسودان، وانطوت في أبعادها الأخرى كما أورد باولو عن سيرته إنها سيرة للصراع، وقصة وتاريخ حياته، والسياسة والجغرافية والموسيقى، ثم كانت اشتباكاتها مع الآخر عبر العديد من الأمكنة، وانتهت بالنزوح (الغربة) خارج الوطن، وتم كل ذلك في سرد سيري يمتلئ بالحركة والتشريق وتأمل الذات.

 


 المصدر 

هوامش ومراجع: 1. ينظر شميث سيدني، جوليا واطسون، مطبعة جامعة لندن 2004.┃2. تيتز روكي، في طفولتي (دراسة في السيرة الذاتية العربية، ترجمت طلعت الشايب المجلس الأعلى للثقافة، مصر عدد 500، 2002، ص: 75.3. المقولة لباسكال والنص من تيتز روكي ص: 75.4. إحسان عباس: فن السيرة الذاتية ط 5، الأردن، عمان، دار الشروق 1988 ص: 86.5. تيتز روكي ص: 87.6. غازي القصيبي وإشكال كتابة السيرة الكاملة، مقال بقلم: مبارك راشد الخالدي، مجلة الراوي (سعودية) سبتمبر 2009، ص: 21.7. كتابة الأنا سبيل إلى خلق الذات: أحمد السماوي مقال في مجلة فصول (بيروت) العدد 79، شتاء- ربيع 2011، ص: 21.8. تهاني عبد الفتاح: السيرة الذاتية في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن 2002، ص: 20.9. عبد الحميد يونس، مادة مفترق الطرق، معجم الفلكلور ص: 458، (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009 القاهرة.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها