الذكاء الاصطناعي وحفظ التراث

سعيد أبخاس


تُعتبر التقنيات الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، من أهم الأدوات الثورية في عصرنا الحالي، لاسيما في مجال حفظ التراث الإنساني وتعزيز الحوار بين الثقافات. بدمج الإبداع البشري مع التكنولوجيا المتقدمة، يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعيد اكتشاف الموروث الثقافي بطرق غير مسبوقة، سواء عبر تحليل النصوص القديمة أو إعادة بناء المواقع الأثرية رقميًا. وبحسب تقرير منظمة اليونسكو (2023)، أصبحت تقنيات مثل التصوير ثلاثي الأبعاد، وتحليل البيانات الضخمة أدوات أساسية في توثيق التراث المهدد بالاندثار، خاصة في المناطق المتأثرة بالنزاعات والكوارث الطبيعية. تُعد هذه الإنجازات التكنولوجية جسرًا يربط بين الماضي العريق والحاضر المبتكر، مما يضمن بقاء الإرث الثقافي ونقله عبر الأجيال.
 

في ذات السياق، أثار الذكاء الاصطناعي جدلاً واسعًا حول دوره في مستقبل الإنسانية، لاسيما مع قدرته على معالجة البيانات بسرعات تفوق إمكانيات العقل البشري. ومع ذلك، يحتفظ الإنسان بميزاته الفريدة مثل الإبداع والحدس الأخلاقي؛ كما يشير الدكتور يوفال نوح هراري في كتابه "21 درسًا للقرن الحادي والعشرين" إلى أن التكنولوجيا قد تحل محل أيدينا لكنها لن تحل محل قلوبنا. ومن الأمثلة العملية على هذا التكامل بين القدرات الرقمية والمهارات الإنسانية، نجد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض؛ إذ تُسهم الخوارزميات في تحليل الأشعة بدقة متناهية بينما يعتمد الأطباء على خبراتهم لاتخاذ القرار النهائي، مما يعزز قيمة الشراكة بين العلم والتقنية في خدمة حياة الإنسان.

وعند استحضار التراث الحضاري، تبرز حضارة سومرية في بلاد ما بين النهرين (العراق حاليًا) كإحدى أعظم الموروثات الإنسانية؛ إذ قدمت أولى أنظمة الكتابة (المسمارية) وقوانين حمورابي التي أرست أسس العدالة الاجتماعية، إلى جانب النظام الستيني لتقسيم الوقت (60 دقيقة و60 ثانية). وأظهرت الدراسات، مثل تلك التي نُشرت في دورية Journal of Archaeological Science (2021)، أن الاكتشافات الحديثة في مواقع مثل أور ولارسا تُعيد كتابة تاريخ التطور الحضاري بفضل تقنيات المسح الضوئي المتطورة. كما لعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في فك رموز اللغات القديمة؛ ففي مشروع مشترك بين جامعة أكسفورد، ومعهد ماكس بلانك الألماني (2023)، تم استخدام خوارزميات تعلم الآلة لترجمة نصوص أكادية عمرها 4000 عام، مما أسهم في زيادة فهمنا لحضارات الشرق الأدنى بنسبة وصلت إلى 40% خلال العقد الماضي.

ورغم هذه الفوائد العظيمة، لا يخلو استخدام الذكاء الاصطناعي من تحديات أخلاقية ومخاطر محتملة؛ إذ يحذر الخبراء مثل الدكتور إبراهيم محمد زين من أن سوء استخدامه قد يؤدي إلى تشويه التراث عبر تفسيرات خاطئة، بينما يشير البروفيسور جوناثان مارك كينيون إلى أن التكنولوجيا تمنحنا عينًا جديدة لرؤية الماضي، إلا أن الحكمة البشرية تبقى الضامن الذي يمنعنا من الضياع. إن هذه المخاوف تدعو إلى ضرورة وضع معايير أخلاقية صارمة، وإطار تنظيمي يضمن استخدام التقنيات الحديثة بما يخدم المصلحة العامة دون المساس بجوهر التراث الثقافي.

وفي عالم الفن، تُستخدم التقنيات الحديثة لإعادة تصور الإبداع بطرق مدهشة؛ ففي متحف اللوفر بباريس تُستعاد ألوان المنحوتات اليونانية الرخامية بناءً على تحليل دقيق لبقايا الأصباغ القديمة، مما أتاح للزوار رؤية الأعمال الفنية بألوانها الأصلية لأول مرة منذ ألفي عام. إلى جانب ذلك، ساهم الذكاء الاصطناعي في حفظ المخطوطات الإسلامية؛ فقد أطلقت مكتبة قطر الوطنية مشروع "مخطوطات الشرق" عام 2023 لرقمنة أكثر من 10,000 مخطوطة نادرة باستخدام تقنيات المسح الضوئي عالي الدقة وخوارزميات لترميم النصوص التالفة، مما أكسب المشروع جائزة اليونسكو للتراث الرقمي عام 2024.

كما يشهد ميدان التعليم تحولاً جذريًا بفضل التقنيات الحديثة؛ فقد أحدثت منصات مثل "متحف المستقبل" في دبي ثورة باستخدام تقنيات الواقع المعزز لتقديم رحلات افتراضية، تُمكن الطلاب من التفاعل مع شخصيات تاريخية معاد بناؤها، مثل التحدث إلى "حمورابي" أو مراقبة بناء الأهرامات. وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن هذه التجارِب التعليمية زادت من اهتمام الطلاب بالتاريخ بنسبة تصل إلى 55% مقارنة بالطرق التقليدية، مما يؤكد أن التكنولوجيا يمكن أن تكون رافعة لتعزيز المعرفة والارتباط بالتراث.

إضافة إلى ذلك، تتوسع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال التنقيب الأثري، حيث يستخدم العلماء تقنيات التحليل الرقمي لتحديد المواقع الأثرية المفقودة. ففي عام 2023، استخدم فريق من علماء الآثار في جامعة هارفارد خوارزميات متطورة لتحليل صور الأقمار الصناعية، مما أدى إلى اكتشاف 12 موقعًا أثريًا جديدًا تعود إلى العصر البرونزي في صحراء شبه الجزيرة العربية. تُظهر هذه الجهود أن الذكاء الاصطناعي لا يُسهم فقط في حفظ التراث، بل يعيد أيضًا كتابة فصول جديدة في تاريخ الإنسانية، من خلال تسريع الاكتشافات وتوفير بيانات دقيقة تدعم الدراسات الأثرية.

وفي ظل التطورات المتلاحقة، تبرز الحاجة إلى تكامل الجهود بين الباحثين، وصناع السياسات، وخبراء التكنولوجيا لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل يخدم الحفاظ على التراث وتطويره دون التأثير سلبًا على الهوية الثقافية. يتطلب ذلك إشراك مؤسسات أكاديمية وثقافية متعددة لتشكيل شراكات استراتيجية تسهم في بناء مستقبل متوازن يحافظ على التراث، بينما يستفيد من التقنيات المتقدمة. يُعد هذا التكامل خطوة ضرورية لضمان أن تظل الإنسانية قادرة على استكشاف ماضيها وفهمه بعمق، مع الاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل.

في الختام، يمثل الذكاء الاصطناعي جسرًا نحو مستقبل يحترم الماضي؛ إذ يمكّننا من الحفاظ على التراث الثقافي وإحيائه بطريقة مبتكرة ومستدامة. وبينما نتبنى هذه التقنيات الرائدة، يبقى دور الإنسان جوهريًا في توجيه استخدامها وتفسير نتائجها بما يضمن انتقال الإرث الثقافي للأجيال القادمة. وكما قال المفكر أمبرتو إيكو: "الثقافة هي ما يبقى حين ننسى كل شيء"، مما يؤكد أن التكنولوجيا هي أداة تعزز من قيمنا وتراثنا، دون أن تحل محل الروح الإنسانية.
 


المراجع النهائية: 1. تقرير اليونسكو: "التكنولوجيا الرقمية وحفظ التراث" (2023).2. دراسة في Nature Medicine: "دور الذكاء الاصطناعي في تشخيص السرطان" (2022).3. دورية Journal of Archaeological Science: "اكتشافات جديدة في بلاد ما بين النهرين" (2021).4. مشروع جامعة أكسفورد وماكس بلانك: "فك رموز النصوص الأكادية" (2023).5. مقابلة BBC History مع البروفيسور كينيون: "الآثار الرقمية وتحدياتها" (2023).6. مقال لعبد الرحمن حبيب: "الذكاء الاصطناعي ودراسات التاريخ" – جريدة الثقافة (أغسطس 2023).7. مقابلة مع د. إبراهيم زين – جريدة العرب القطرية (يونيو 2024).8. دراسة في Science Advances: "اكتشافات الذكاء الاصطناعي في شبه الجزيرة العربية" (2023).9. مشروع جامعة كاليفورنيا بيركلي: "إحياء اللغة السومرية" (2024).10. ورقة بحثية للدكتورة ليلى أحمد: "أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في التاريخ" – MIT Press (2024).11. تقرير ناشيونال جيوغرافيك: "الفن الكلاسيكي بألوانه الحقيقية" (2023).12. مشروع مكتبة قطر الوطنية: "مخطوطات الشرق" (2023).13. دراسة جامعة ستانفورد: "التعليم التفاعلي والتراث" (2024).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها