ذاكرة المكان لا تخون أبداً!

حوار مع الكاتب الجزائري قويدر ميموني

حاوره: سامر أنور الشمالي


الكاتب الجزائري قويدر ميموني من الفائزين بمسابقة (كتارا) فئة الرواية العربية غير المنشورة، وحملت الرواية عنوان: "إل كامينو دي لا مويرتي"، وحول الرواية وعوالمها، وأسلوبه في الكتابة لعرض أفكاره، ورأيه في النقد والسرد، طرحنا عليه مجموعة من الأسئلة لاكتشاف عالمه الروائي، وملامح الرواية الجزائرية بصفة عامة.
 



نبدأ مع عنوان الرواية.. لماذا اخترت عنواناً غير عربي لرواية مكتوبة بالعربية؟ برأيك هل هذا يثير اهتمام القارئ؟

اخترت عنوان إل كامينو دي لا مويرتي  (el Camino de la muerte) لروايتي لأنه يتجاوز حدود اللغة، وليعكس عشقًا عميقًا لمدينة وهران وتاريخها الغني. هذا الاسم ليس مجرد عنوان، بل هو تجسيد لروح المكان، حيث يمثل دربًا خطيرًا بأعالي جبل (المرجاجو) متشبعًا بقصص وحكايات ترتبط بماضي المدينة، ويستفز الذاكرة بإحياء أحداث مؤلمة في صورة أسطورية غامضة، مثل سقوط الأمير المرابطي تاشفين بن علي من هذا الدرب.

استخدام اللغة الإسبانية في العنوان يعكس تأثيرات ثقافية متعددة؛ إذْ لا يمكن أن ننسى أن وهران مدينة ميتروبوليتانية تحتضن تنوعًا ثقافيًا مذهلاً، حيث تساكنت فيها العرب والبربر والإسبان واليهود والفرنسيون عبر العصور. هذا التعدد يجعل الرواية تتنفس تاريخ المدينة وتستعيد عبقها الحقيقي، متنقلة بين الماضي والحاضر. العنوان يفتح أيضًا بابًا للتأمل العميق حول الحياة والموت، ويأخذ القارئ في رحلة لاكتشاف الذات والهوية المرتبطة بالمكان. أؤمن بأن الأسماء تحمل معانٍ تتجاوز الكلمات، والعنوان يسعى لتجسيد هذه الأبعاد.

تجري أحداث هذه الرواية في مدينة وهران، وفي الكثير من مؤلفاتك كتبت عن هذه المدينة التي ولدت فيها وعشت على أرضها. وهنا نسألك عن علاقتك كإنسان بالمكان؟ وكيف ترى المكان كروائي؟

ذاكرة المكان لا تخون أبدًا؛ بل هي الحافظ لكل لحظة عشناها والمصدر لكل حلم راودنا. بالنسبة لي، المكان هو الدافع الأول للكتابة؛ لأنه خزان للذاكرة ومنشأ للحلم، وهو الباعث الذي يحرك الحنين في الروح. وهران، بذكرياتها وتفاصيلها الصغيرة، ليست مجرد مدينة عادية، بل هي مرتطم دائم للأفكار والمشاعر التي تتصارع في داخل الإنسان. هي النقطة التي تلتقي فيها الحقيقة بالحلم، حيث كل زاوية وكل شارع وكل سوق يختزن قصصًا لا تُنسى، وأصواتًا لم ولن تخفت رغم تعاقب الزمن.

الكتابة عن المكان هي محاولتي للإمساك بما لا يُمسك، لإحياء اللحظات التي كادت تذوب في طي النسيان، ولإعادة بناء العالم الذي تشكلت فيه أفكاري وأحلامي الأولى، وإعادة تشييء الفكرة من جديد. ذاكرة المكان ليست مجرد استرجاع للأحداث، بل هي استدعاء للوجوه والأحاسيس، ومحاولة مستمرة للإبقاء على الحلم حيًا. وفي كل مرة أكتب عن وهران، أجد نفسي أعود إلى ذلك الخزان اللامتناهي من الذكريات، متجددًا بالعاطفة والحنين والرغبة في أن أسرد قصتها بطريقتي الخاصة المتجددة والحثيثة.

بطل هذه الرواية صحفي يبحث في مخطوط قديم لعلّه يجد الأجوبة عن أسئلة تجول في رأسه، فهل من مهام الرواية طرح الأسئلة الوجودية العامة أو الحياتية الخاصة؟ أو من مهامها الإجابة عليها؟

الرواية بالفعل تتجاوز مجرد طرح الأسئلة لتدخل في مرحلة إعادة مساءلة العبثية كفكرة وفلسفة. فهي ليست مجرد رحلة بحث عن أجوبة بل مغامرة تدفع بالشخصيات إلى أقصى تمثلات العبث والتناقض. من خلال أكثر من بطل، تتعمق الرواية في سلوكيات العبثية وتختبر حدودها في مواجهة القيم الأخلاقية والمجتمعية، لتكشف عن صراع لا بين الخير والشر، بل بين الشر الأشد، والشر الذي دونه، على اعتبار أن الشخوص كلها شريرة.

البطل في الرواية لم يكتفِ بالدفاع عن نفسه أمام عبثية الحياة من خلال الالتزام بالقيم أو محاولة البحث عن معنى في اللامعنى؛ بل ذهب أبعد من ذلك، إلى تمرد مطلق. لجأ إلى الشر كوسيلة للتعبير عن رفضه لكل ما يحيط به، واختار الانتحار كفعل انتقامي ضد القدر وضد تفاصيل الحياة ذاتها. الرواية تسائل هذه القيم وتضع القارئ أمام مشهد يطرح تساؤلات وجودية، متمردة، تدفعه إلى التفكير فيما إذا كانت العبثية مبررًا مشروعًا لفعل الشر أو حلاً لمعضلة اللامعنى. فالرواية لا تهدف إلى توفير أجوبة سهلة أو مطمئنة، بل تدفع القارئ إلى مواجهة ضمنية بتورطه في القراءة مع قسوة الواقع وعبثيته، وتشجعه على إعادة التفكير في خياراته وموقفه من الحياة والموت، ومن المعنى واللامعنى.

هل من مهام الرواية محاولة اكتشاف معنى للحياة في مواجهة الظروف التي صدم بها بطل الرواية. ويمكن أن يعيش القارئ ظروفاً مشابهة لظروف الشخصية في العمل الأدبي؟

روايتي لا تنشغل بإيجاد معنى للحياة، ولا حتى بالإشارة إليه، بل تنصبُّ على التنقيب في أعماق النفس البشرية، وتحديدًا في أسرارها الشريرة، وتبريراتها وتأويلاتها النفسية. إنها تسعى لكشف الجوانب المظلمة التي تسكن الإنسان، وتحاول فهم السر الخفي وراء أفعاله المدمرة وتجاوزاته الأخلاقية. الرواية تتجاوز السعي نحو المعنى لتغوص في دهاليز السلوك البشري عندما يُختبر بأقسى درجات التمرد والانفصال عن القيم المألوفة. هي رحلة نحو المجهول الأخلاقي، حيث لا توجد إجابات سهلة أو تفسيرات مريحة، واضحة، ومُعدّة سلفًا، بل مواجهة مباشرة مع الشر بكل تجلياته.

تحدثنا عن علاقتك بالمكان والمكان في الرواية.. الآن سنسألك عن مكان الرواية الجزائرية في المشهد الروائي العربي. هل تجد لها خصوصية معينة، وبماذا تختلف عن السرد العربي. وماذا أضافت إليه؟

الرواية الجزائرية تحتل مكانةً فريدةً، فهي تستمد من تاريخ الجزائر وتجاربها الاجتماعية والسياسية نكهة خاصة تميزها عن غيرها من السرديات العربية. الرواية الجزائرية تُثري المشهد الروائي العربي من خلال تفاعلها مع واقع مليء بالتعقيدات والتحديات، بدْءًا من تاريخ الاستعمار والنضال من أجل الاستقلال وصولاً إلى الحاضر بما فيه من صراعات وهوية متجددة.

الخصوصية تكمن في قدرة الرواية الجزائرية على نقل حكاياتها بواقعية قاسية ومباشرة أحيانًا، وفي الوقت نفسه بنوع من الرمزية والتلميح الذي يتجذر في التراث والموروث الشعبي. هذه الروايات غالباً ما تتناول مسائل الهوية والحرية والبحث عن الذات في ظل التوترات الاجتماعية والسياسية، وتستخدم تقنيات سردية تأخذ أبعاداً فلسفية ووجودية، ما يضفي على النصوص بُعدًا تأمليًا حول معنى الحياة والوجود.

الرواية الجزائرية أضافت إلى السرد العربي لغةً فريدة، مزيجاً من الفصحى والدارجة المحلية التي تعكس ثقافة الجزائر المتنوعة. كما جلبت إلى الأدب العربي روحاً جديدة تبرز قضايا غير نمطية، مثل الاستعمار والعشرية السوداء، ومرحلة الرئيس الراحل بوتفليقة وما بعدها، وكذا التعدد الثقافي، والبحث عن الهوية في عالم مليء بالتناقضات. هي رواية لا تكتفي بسرد الأحداث فحسب، بل تتغلغل في عمق التجربة الإنسانية وتسعى لفهم المعاناة والآمال والطموحات ضمن سياق محلي وعالمي في آن واحد.

يشار فقط أن أول رواية كتبت في التاريخ كانت جزائرية كتبها أبوليوس المادوري وعنونها "الحمار الذهبي".

هل أنصف النقد العربي الرواية الجزائرية؟ وهل ما زال ما يكتب في دول المغرب العربي بعيداً عن دائرة الضوء مقارنة بالرواية في دول المشرق العربي؟

النقد العربي لم يُنصف الرواية الجزائرية بالشكل الذي تستحقه، ولا حتى أنصفها النقد الجزائري نفسه من الداخل، فالمشكلة عويصة. وما زال هناك فجوة واضحة في التقدير النقدي بين الأدب في دول المغرب العربي ونظيره في المشرق العربي. رغم القيمة الأدبية العالية للروايات الجزائرية بشكل عام؛ فإنها غالباً ما تُهمَّش أو لا تحظى بالاهتمام الكافي من النقاد.

هذا التفاوت في الاهتمام يعود إلى عوامل عديدة، من بينها البعد الجغرافي والثقافي، حيث تتركز الأنشطة الأدبية والنقدية بشكل أكبر في المشرق العربي، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والمهرجانات الأدبية التي تعطي أولوية لأصوات روائية من المنطقة المشرقية.

الرواية الجزائرية تمتلك خصوصيتها وصوتها الفريد الذي يختلف في توجهاته ومواضيعه عن السرديات المشرقية، ورغم هذا التميز، لا تزال الروايات الجزائرية بحاجة إلى منصة أقوى لعرضها وإيصالها إلى الجمهور العربي الأوسع، وتحتاج إلى نقاد يُقدّرون قيمتها دون الانحياز للمرجعيات الأدبية المشرقية.

المشهد الأدبي العربي بحاجة إلى احتضان أكثر شمولية، وتقدير أكبر للأصوات الأدبية من المغرب العربي؛ لأن الأدب الجزائري يُثري الأدب العربي بتجارب ورؤى مختلفة، ويساهم في إضفاء تنوع وعمق أكبر على المشهد الروائي العربي ككل.

هل تتوخى أن تكتب نصاً قريباً من القارئ؟ أو تكتب ما يعبر عن أفكارك دون أن تضعه في مجال اهتمامك أثناء الكتابة؟

علاقتي بالقارئ ليست مجرد علاقة عابرة، بل هي تحدٍّ مستمر، أضع فيه القارئ في مواجهة نفسه، في لحظة صادمة تجعله يعيد النظر في كل ما كان يعتبره مسلّمًا به. أكتب لأستفز مشاعره وأحرّك داخله كل ما هو غير مستقر، لأجعله يعيش تجربة غير عادية تُربك توقعاته وتثير فيه دهشة غير مسبوقة.

أسعى إلى أن أسلب القارئ من همومه وانشغالاته اليومية، وحتى من العادي الرتيب، وأسحبه إلى عالم مليء بالأسئلة واللامتوقع، حيث يجد نفسه أمام حقائق صادمة وسرائر خفية تدفعه للغوص في أعماق النص. أراوده بالإبهار، أحاول أن أخلق لديه لحظات من التأمل والتفكير، وأضعه في مواجهة غموض يجعله متلهفًا لاكتشاف ما تخبئه له السطور.

الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة لنقل الفكرة، بل هي فعل استفزاز، اختبار دائم للقدرة على تحريك الأفكار وتحفيز المشاعر. أريد للقارئ أن يشعر بأنه أمام نصوص تتحداه، نصوص تضعه في مواجهة تساؤلاته الداخلية، وصراعاته مع المجهول الذي يبحث عنه منذ زمن. أعتبر القارئ شريكًا في هذه الرحلة الأدبية، فهو ليس مجرد متلقٍ، بل مغامر معي في كشف الحقيقة، متورط في السعي وراء المعرفة والإجابة عن أسئلة قد لا يجد لها جوابًا واضحًا، وهذه هي اللعبة التي أسعى إليها دائمًا؛ لعبة التشويق، الانبهار، والتفاعل المستمر.

لك مشاركات واسعة في مجال الإعلام والنشاط الثقافي في الجزائر.. هذا التواصل المباشر مع جمهور القراء ماذا قدم لك؟

أؤمن بأن دور الكاتب يتجاوز صفحات الكتب، ليشمل تأثيرًا أعمق في العجلة الثقافية والإعلامية. انخراطي في هذين المجالين ينبع من حرصي على العطاء والمساهمة في تعزيز الحركة الفكرية وتوسيع دائرة الحوار الثقافي. أرى أن الثقافة والإعلام يمثلان منبرين هامين، يتكاملان في إيصال الأفكار والتجارب الإبداعية إلى جمهور أوسع. عملي في الإعلام ليس فقط للترويج لكتاباتي، بل هو جسر يربط بين النصوص الأدبية والوعي الجماعي، وهو وسيلة لبناء جسور جديدة بين الأدب والمجتمع.

اهتمامي بالمجال الثقافي والإعلامي هو تعبير عن رغبة في تقديم قيمة حقيقية تُثري المشهد وتضيف إليه. وأعتقد أن مساهمتي في هذا السياق تتيح لي فرصة أن أكون جزءًا من تطور الحوار الثقافي، بشكل يجعلني أسهم في رسم ملامح مستقبل أكثر تنوعًا وثراءً للإبداع الأدبي والتفكير الحر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها