تُعدّ الأسواق عماد الاقتصاد وواجهة النشاط التجاري بالمغرب، فالمُدن العتيقة عبر تاريخها اكتسبت شهرتها من أسواقها التي كانت ذائعة الصيت، فهي ملتقى التجار ومركز المدينة وإشعاعها، ومصدر لمعرفة الكثير من تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالبلاد، ومقصد السياح الباحثين عن اكتشاف الحضارة المغربية، ومثيرة فضول الباحثين في التاريخ والتراث الساعين لفهم أكثر لحياة الأقدمين الاقتصادية والاجتماعية، وفكّ خيوطها اعتماداً على ما تحتويه من تراث مادي ولا مادي.
وأسواق المدن العتيقة بالمغرب متعددة ومتنوعة ومنتشرة عبر ربوع الوطن، بحكم أنه قديم وتاريخه ضارب في التاريخ. وفي هذا السفر التاريخي، سنركز فقط على أسواق المدن التقليدية العواصم، وبالأخص مدينة الرباط ومدينتَيِ مراكش وفاس.

وأنت في عاصمة الأنوار مدينة الرباط المغربية، في شريانها الرئيسي شارع محمد الخامس، حيث التراث المعماري الكولونيالي بارز في واجهات العمارات العالية، وفي برلمان المملكة وفندق ومقهى باليما الأسطوري مسافر عبر مظاهر الحداثة والعصرنة، وغير بعيد ترمي بك الخطوات المتسارعة في وسط المدينة العتيقة؛ لتأخذك في رحلة عبر الزمن، رحلة عبر التاريخ تأسر الأفئدة وتستهوي النفوس، حيث عبق التاريخ وحركة الناس الدؤوبة ذهاباً وإياباً، إنك في أسواق الرباط التقليدية العتيقة، والتي تعد تراثاً حضارياً ذي إشعاع عالمي، حيث التحف المعمارية والرموز الناطقة عن التطور المعماري الذي عاشته المدينة: قباب من الآجر التقليدي، جدران سميكة، دكاكين بأبواب خشبية موحدة الشكل والهندسة على الجانبين، فتحات في الأسقف. ومن أهم أسواق الرباط العتيقة، نذكر:
سوق السبت: متواجد بقعر المدينة القديمة، خاص بالمنتجات التقليدية خصوصاً الجلدية والأقمشة النادرة.
السوق المركزي: تم بناؤه سنة 1928، وهو أول الأسواق المركزية التي بنيت بالرباط في عهد الحماية الفرنسية، بني على الواجهة الشرقية داخل المدينة بالقرب من السور الأندلسي إلى درجة أن سلطات الحماية اضطرت إلى إزالة جزء من السور لإظهار الواجهة الرئيسية للسوق، وهو موجه نحو ممارسة التجارة والبيع والشراء الموجه نحو المنتجات الغذائية.
شارع الجزاء: والمعروف عند أهل المدينة بالكزا، صمم في العهد العلوي في القرن 18م في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وكان يربط بين المدينة العتيقة ودار المخزن، عرف سوقه ببيع الملابس المغربية التقليدية والأثاث المغربي القديم، ومعدات تأثيث عش الزوجية والعطور والبخور.
شارع القناصل: يوجد في قلب المدينة العتيقة لمدينة الرباط، ويعد من أقدم وأشهر أزقّتها، وأخذ اسمه من كونه كان يمثل الحي السكني للقناصل خلال القرنين 18م و19م حتى عام 1912، وعند مدخله كانت قنصلية فرنسا حيث عاش قنصلها الأب "شينيه" من 1768 إلى 1782م، والشارع مخصص للحرف التقليدية كالمنسوجات الجلدية والأعمال الخشبية والمجوهرات والزربية الرباطية، خاص كذلك بتسوق الألبسة والهدايا التي تعكس الموروث المغربي الأصيل، وهو قبلة محببة للسياح لكونه يسافر بهم عبر الزمن في دروب التاريخ.
شارع السويقة: من أهم شوارع مدينة الرباط العتيقة يبدأ من السوق المركزي، ويتجه شمالاً ليصل باب البحر مصب واد أبي رقراق، ينقسم إلى أربعة أجزاء مهمة هي: الجزء المركزي الذي كان مخصصاً في السابق لتجارة الخضر واللحوم، والجزء المعروف بسوق السباط وهو الجزء الوحيد المغطى منذ العصر الأندلسي وهو مخصص للنعال والأحذية وغيرها. أما الجزء الغربي المجاور للسور الموحدي وباب الحد، فقد كان مخصصاً في الماضي لممارسة مهن الحدادة الخاصة بالخيول، لكن هاتِه الحِرفة انقرضت واختفت مع وصول وسائل النقل الحديثة. أما الجزء الأخير فهو سوق الدباغين، وهو درج مرصوف يربط باب البحر بساحة الرحبة، حيث يلتقي صناع الحلي والقطران والزبدة والعسل.

في المدينة الحمراء:
أما أسواق مراكش، فقد شهدت فترة ازدهار حضاري واقتصادي، وذاعت شهرتها في عهد المرابطين والموحدين وامتدت إلى يومنا هذا. فلاكتشاف عالمها ما عليك بعد الاستمتاع بأجواء ساحة جامع الفنا، بحلقاتها وحكايات الحكواتيين ومروضي الأفاعي والقردة والروائح المنبعثة من أكلات عربات البائعين، إلا زيارة أسواقها التقليدية والتي تنطلق من السوق المركزي، كالرحبة القديمة، وهي مكان لبيع مختلف أنواع الحبوب والتي ارتبطت بفترة الموحدين، بجواره يوجد سوق الغزل الذي كان سابقاً سوقاً للعبيد والذي اندثر بظهير فرنسي، وبالمدينة أسواق سميت باسم الحرف التي كانت تمتهن بها، كسوق السراجين والبرادعين والقشابين، وسوق السمارين الذي يضم دكاكين تجارية وحرفية ارتبطت به منذ ظهوره في بداية القرن 19 كصناعة الحلي والجلد والحدادة، في هذا السوق تشكيلات من المنتجات الجلدية والأثاث والملابس والحقائب والديكورات، تعبر عن إبداع الصانع المغربي. أما سوق الملاح أو العطارين، لا يبعد عن ساحة جامع الفنا إلا بخطوات وقريب من معلمتين تاريخيتين هما: القصر البديع وقصر الباهية، وهو خاص بمنتجات المواد العطرية والتوابل والمكونات الخاصة بوصفات الجمال الطبيعية التي تعتمدها المرأة المغربية.
سوق الزيتون المخلل، خاص بتحضير كل أنواع المخللات بطريقة طبيعية ومميزة انطلاقاً من الزيتون بكل صنوفه، مروراً بالخضر بكل أشكالها والفلفل وقنينات اللحم المقدد المنقوع في السمن البلدي ما يسمى الخليع البلدي.

أسواق مدينة "فاس" التقليدية:
لا تخلو فاس العالمة كذلك من الأسواق التقليدية، بل هي تمثل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المدينة، فقد نالت أسواقها اهتماماً كبيراً خلال حكم الأدارسة والمرابطين والموحدين. فالمهن منظمة لكل حرفة سوقها، وذلك تسهيلاً لأمين كل مهنة في مراقبة أبناء مهنته كسوق الدباغين والنجارين والصفارين. وتعرض في أسواق مدينة فاس العتيقة المنتوجات التقليدية كالحلي والفسيفساء والزرابي والمفروشات واللباس التقليدي، وتشهد مبيعات الملابس التقليدية والعصرية والصناعات المحلية النفيس منها والرخيص رواجاً في أسواق المدينة العتيقة بفاس، فمتاجرها مفتوحة طيلة اليوم لمن يبحث عن شيء يشتريه، ولمن تستهويه هواية السفر عبر التاريخ في دروب المدينة القديمة، لما تحمله بناياتها وأزقتها ومتاجرها من حمولات ثقافية وحضارية وتاريخية، تختصر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للناس الذين تعاقبوا على سكنها وممارسة أنشطتهم بها.
نظراً لأهمية أسواق المدن العتيقة المغربية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحمولتها التاريخية، باعتبارها مصدراً لمعرفة الكثير من تفاصيل حياة هاته المدن عبر تاريخها، وجب على الدولة التدخل للحفاظ على هذا الإرث التراثي التاريخي، وذلك عن طريق مجموعة من الإجراءات أهمها:
- إعادة الاعتبار لتاريخ المدينة العتيقة وأسواقها، عبر سياسة تروم تحقيق إشعاع اجتماعي واقتصادي وثقافي، بربط الماضي بالحاضر من أجل بناء مستقبل مشرق، يحمي الأمن الاقتصادي ويضمن استدامة الموروث الثقافي للمدينة القديمة والمحافظة عليه.
- تأهيل أسواق المدن العتيقة والعناية بالعنصر البشري بداخلها كرافد من روافد التنمية المستدامة، مع ضرورة إدراج هاته الأسواق في الدليل السياحي للمدن العتيقة لحمولتها التاريخية ولدورها الاقتصادي، لكي تساهم في الحركية السياحية في هاته المدن.
- تحسين الخدمات بهاته الأسواق وكذلك فضاءاتها، عن طريق تحسين واجهتها وإعطائها جمالية بطرق تقليدية مبتكرة وبتبليطها وتقوية الإنارة بها، وفي هذا الجانب لا بد من الإشادة بالمجهودات المبذولة بناء على تعليمات وتوجيهات لملك البلاد محمد السادس، حيث تم تأهيل العديد من الأسواق التقليدية في مجموعة من المدن كالرباط وسلا وطنجة... وتنتظر أسواق أخرى دورها في هاته العملية.
- إحداث متاحف بأسواق المدن العتيقة الرئيسة: الرباط ومراكش وفاس، تحتفي بالسوق وتاريخه وتراثه وتطوره عبر التاريخ بالمغرب، وآثاره الاقتصادية ودوره السياسي في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.
نافلة القول؛ تختصر أسواق المدن العتيقة بالمغرب جزءاً من التاريخ الاقتصادي للبلاد، والهُوية الثقافية والحياة الاجتماعية لتجّارِه ومرتاديه، لذا وجب الحفاظ عليها وتثمينها وجعلها في خدمة السياحة الثقافية والتراثية لما فيه مصلحة البلاد.