اللُّغَةُ العَربيّة.. والوَعْي بمُسْتقْبَلِها

عند "جبْران خَلِيل جبْرَان"

د. رشيد طلبي

لا غروَ أنّ "جبران خليل جبران" (1883-1931) قد كان مُبدعاً ومُجدّداً فِي تعامله مع اللغة العربية، من خلال نُصوصه وكتاباته وأشعاره. فلم يكن مجدداً فقط، على مستوى الرابطة القلمية، وما تميزت به في علاقتها بالشعر الرومانسي، بل تجاوز ذلك، ليُعَدّ من رواد عصر نهضة الأدب العربي الحديث، خاصة في الشعر النثري الذي أصبح الآن من أهم إرهاصات "قصيدة النثر العربية" في الشعر العربي المعاصر.
 

ولم يقتصر الأمر على الشعر فحَسْب. بل كتَبَ في الفلسفة والقصة القصيرة والروحانيات، علاوة على اشتغاله بالفن التشكيلي والنحت. ومن أشهر أعماله التي تعدُّ معلمةً في ما يسمّى بـ"الخيال المُلْهِم" كتابه (النبي) الصادر سنة 1923م، الذي كان أكثر مبيعاً آنذاك عبر العالم، وتُرجِمَ إلى حوالي 110 لغة منها الصينية أيضاً.

وقد دفعه إبداعه في الأدب والشعر إلى الخوض في فلسفة اللغة؛ أي محاولة التفكير بالخروج بهذه اللغة من ثقل الماضي نحو الحاضر والمستقبل، تناسُباً مع تطورات الحضارة العربية والإنسانية. وذلك من خلال مقاله المهم في نهاية القرن التاسع عشر الموسوم بـ"مستقبل اللغة العربية والعالم العربي"، وهو عبارة عن حوار أجرته معه مجلة الهلال المصرية، الصادر في الجزء 6 السنة 28، بتاريخ 1 مارس (آذار) سنة 1920م، الموافق لـ10 جمادى الثاني 1328ه، من الصفحة 489 إلى الصفحة 497.

حاول (جبران) من خلال هذا المقال، الإجابة عن جُملة من الأسئلة: ما مستقبل اللغة العربية؟ وما مدى تأثير الروح الغربية فيها؟ ما علاقتها بالأنظمة السياسية بالأقطار العربية؟ وهل قابلة لتعلم جميع العلوم بالمدارس العليا والجامعات؟ هل يمكنُ أن تكون قادرة على توحيد اللهجات المختلفة بالأقطار العربية؟ وما أهم وسائل إحيائها من جديد في ظل التطورات الحضارية الراهنة؟

1- اللغة ومفهوم قوة الابتكار

بداءة؛ يحاول (جبران) أن يربط اللغة بمفهوم (قوة الابتكار)، الذي يعد المحرك الرئيس لتطور اللغة العربية، ما دامت اللغة عموماً مظهراً من مظاهر الابتكار، "فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والاندثار"1. فقوة الابتكار هي الضامنُ لمُستقبل العربية واستمراريتها في مواجهة تحولات وتطورات العصر.

ويقصِدُ (جبران) بهذا المفهوم؛ النبوغ الفردي والحماسة الجماعية في اقتفاء أثر التطورات التي تعرفها الأمة العربية، في نطاق قدرة الفرد على ترجمة ميول الأمة الخفي على أرض الواقع الملموس. شأن ما عرفته الأمة العربية منذُ العصر الجاهلي حتى عصور الانحطاط، فقد ظل الشاعر والعالم وغيرهما يتدرجون ويتصاعدون ويتلونون، وفق حالة الأمة من تطورٍ أو انحطاط تبعاً لقوة الابتكار في مجموع تلك الأمة التي تتكلم اللغة العربية.

كما يُعدُّ هذا المفهوم، من الإواليات القادرة على استيعاب تلاقح الثقافات والحضارات واللغات، حيث يعتبره بمثابة (الأضراس) -في صورة استعارية- فاللغة لا بُدّ أن تتناول من خارجها، لتحول الصالح من ذلك لصالح كيانها الحي. وإلا فما تتناوله يذهبُ سدىً بل يصبحُ بمثابة سمّ قاتل. ويقول وَفق هذا السياق: "من له يُعطَى ويُزاد، ومن ليس له يُؤخذُ منهُ"2.

وبذلك؛ يعود إلى الماضي، ليفسر أن تقدم الغرب، كان رهين هذا المفهوم الذي أسعفه في تحويل ما تلقاه من الثقافة العربية، في وقت من الأوقات، لصالح كيانه، لتصبح مدنيته أكثر تأثيراً في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا. ومن ثمّ فالخوف كل الخوف، وهو ما يخشاه (جبران)؛ أن تكون الأمة العربية كعجوز فقد أضراسه، أو كطفل دون أضراس. أي دون إوالية (قوة الابتكار). وبذلك، فهذا المفهوم، بمثابة الطّين الذي يقدر الخَزَّاف أن يصنَعَ منه ما يُريد من الأواني، فمنه يصنع جرّة للخمْر أو للخلّ، لكنّهُ لا يستطيعُ أن "يصنع شيئاً من الرّمل والحصى"3.

2- التطور السياسي وقضية التعليم

انطلاقاً من هذا المفهوم المحوري، في بناء وعينا بمستقبل اللغة العربية، يحاولُ أن يضع الأصبع على مكمن الخلل الذي يتمثلُ في مدى تأثير التطور السياسي في اللغة العربية، في مقارنة بين مفهومي "التشويش والملل". حيثُ اعتبر الملل ظاهرة سلبية؛ لأنها دالة على "نهاية كل أمّة وخاتمة كلّ شعبٍ. الملل هو الاحتضارُ في صورة النعاس، والموت في شكل النّوْم"4.

في حين، يُعدُّ "التشويش"؛ ظاهرة صحية، ما دامت تُظْهِرُ ما كان خفياً فِي روح الأمة. وبذلك، تتحولُ من حالة الغيبوبة إلى حالة الصّحْوِ، حيثُ شبّهها (جبران) بمثابة "عاصفة تهزُّ بعزمها الأشجار لا لتقتلعها بل لتكسر أغصانها اليابسة وتُبعْثِرَ أوراقها الصفراء"5. لهذا؛ فهذه الظاهرة في أمة ما زالت تُحافظُ على فطرتها، دليل على مدى وجود (قوة الابتكار) في الأفراد وعند مجموع الأمة.

وَفق هذا السياق، يحاول أن يربط بين الاستراتيجية السياسية للبلدان العربية، وقضية التعليم باللغة العربية، وتعلم بها جميع العلوم. ولا يمكن أن يتحقق هذا، إلا من خلال إرساء مدارس ذات طبيعة وطنية ومستقلة، ما دام التعليم -الذي يأتي عبر الغرب- سيفاً ذا حدين؛ حدّه الأول فعلاً أيقظ عقولنا قليلاً، بينما الحد الآخر، أماتنا؛ لأنه سبب في بثّ التفرقة بين صفوف الأمة، وأضعف وحدتها، وقطع روابطها؛ لتُصبح الأمة عبارة عن مستعمرات "صغيرة مختلفة الأذواق، متضاربة المشارب. كل مستعمرة (بالمعنى الثقافي والرمزي) منها تشدُّ في حبل إحدى الأمم الغربية، وترفع لوائها وتترنَّمُ بمحاسنها وأمجادها"6. ويُردف، مفسراً هذا الاختلاف في الأذواق، والتضارب في المشارب بقوله: "فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الإنكليزية يريدون أميركا أو إنكلترا وصيّةً على بلادهم. والذين درسوها باللغة الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولّى أمرهم. والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك، بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مداركهم"7.

وبذلك، لا يمكنُ انتشار اللغة العربية بالمدراس التعليمية، وتعلم بها جميع العلوم حتى تتحقق الوحدة السياسية والقومية بين الدول أو داخل دولة بعينها؛ أي تصبح دولة وطنية و"يصير الواحد منا ابناً لوطن واحد، بدلاً من وطنيّتين متناقضتين أحدهما لجسده والآخر لروحه (بمعنى أن)؛ نستبدل خبز الصَّدقة بخُبْزٍ مَعجُونٍ فِي بيتنا"8.

في السياق نفسه؛ هل تقدر اللغة العربية أن تتغلّبَ على اللهجات العامية، أم هل العكس هو الصحيح، كما وقع مع اللهجات الأوروبية التي تحولت إلى لغات رسمية، وأصبحت اللغة اللاتنية هيكلاً جامداً يُحمَلُ على أكتاف الرجعيين.

لكن، يظهر أن الأمر ليس بهذه السهولة، مع العلم "أن اللغات تتبِعُ مثل كل شيء آخر سُنَّةَ بقاء الأنسب، وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى؛ لأنّهُ أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة"9.

ومع هذا، يستبعد (جبران) حدوث مثل هذا الأمر؛ لأن شروط البيئة العربية تختلف، بشكل أو بآخر، عن شروط البيئة الغربية، وأهمها سيادة المحافظة والتشبث بالماضي أكثر من الحاضر والمستقبل، ربما بوعي أو عن غير وعي، لكن الماضي واقتفاء أثر الأقدمين هو السبيل الأوحد لإظهار المواهب، "وما سبُل الأقدمين سوى أقصر الطرقات بين مهد الفكر ولحده"10.

3- المستقبل ونهضة اللغة العربية

إنّ أهم وسيلة للنهوض باللغة العربية، وجعلها منفتحة على مرامي مستقبل الأمة العربية، تتمثل في مدى تواجد (الشاعر)؛ باعتباره أبو اللغة وأمها، الشاعر المبدع، وليس المقلد. الذي إذا قضى جلست اللغة تنتحبُ على شاهد قبره، حتى يأتي شاعر آخر يأخذُ بيدها. أما المُقلّد فهو المُعَجِّلُ بحتفها لا محالة.

ويقصد (جبران) بـ(الشاعر) "... كل مخترع كبيراً كان أو صغيراً، وكل مكتشف قوياً كان أو ضعيفاً، وكل مختلق عظيماً كان أو حقيراً، وكل مُحِبٍّ للحياة المجردة إماماً كان أو صعلوكاً، وكل من يقفُ متهيباً أمام الأيّام واللّيَالي فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم"11.

ويستفيض في هذه المقارنة بين الشاعر والمقلد؛ على أساس أن الفارق بينهما يكمنُ في الإبداع وقوة الابتكار. فالشاعر يعدُّ وسيطاً بين قوة الابتكار والبشر. أما بخصوص اللغويين فمهمتهم نخلُ اللغة، وهي وظيفة حسنة، لكن ما عساهم ينخلون "إذا كانت قوة الابتكار في اللغة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد إلا الهشيم، ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب"12.

وبذلك، فنهضة اللغة العربية، وتطورها رهين بمفهوم الشاعر –كما وصفه جبران- لكن يبقى السؤال الحقيقي هو هل عندنا فعلاً شعراء؟
 

وصية أخيرة

"أما أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول: ليكن من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين، فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخاً حقيراً من ذاتكم الوضعيّة من أن تقيموا صرحاً شاهقاً من ذات مقتبسة. ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين، من أن تحرقوا قلوبكم بخوراً أمام الأنصاب والأصنام. ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية بما فيها من غرائب وعجائب الفرح، فخير لكم وللغة العربية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من حوادث في محيطكم، وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تُعرِّبُوا أجلَّ وأجملَ ما كَتَبَهُ الغربيون"13.


هوامش: 1. جبران خليل جبران. مجلة الهلال المصرية. الجزء 6. السنة 28. 1920. ص: 489. ┊ 2. نفسه. ص: 490. ┊ 3. نفسه. ص: 492. ┊ 4. نفسه. ص: 491. ┊ 5. نفسه. ┊ 6. نفسه. ص: 492. ┊ 7. نفسه. ┊ 8. نفسه. 493 (بتصرف). ┊ 9. نفسه. ص: 493-493. ┊ 10. نفسه. 494. ┊ 11. نفسه. ص: 495. ┊ 12. نفسه. ص: 497. ┊ 13. نفسه. ص: 497.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها