العنوان عتبة نصية لها وظيفة جمالية وإغرائية، وهو مدخل رئيس لقراءة النص الإبداعي (شعرًا كان أم نثرًا)، فعتبة العنوان هي وسيلة القارئ أو المتلقي للولوج إلى عالم النص الإبداعي، وفهم دلالاته اللغوية والرمزية؛ ذلك أن عنوان أي عمل إبداعي يحمل بُعْدًا إشاريًّا لمحتوى النص اللغوي، كما يحمل بُعْدًا إيحائيًّا لدلالة النص وبنيته اللغوية، وهو عنصرٌ أساسيٌّ في تشكيلِ دلالةِ النص وإثراء معناه.
والعنوان من أهم العتبات النصية الموازية المحيطة بالنص؛ لذلك اهتمت به الدراسات السيميائية، وأَولته اهتمامًا بالغًا لأهميته في كشف دلالات النص الشعري، ودوره في فك شفراته اللغوية، ولقد "احتل العنوان مكانةً متميزةً في الإبداعات الأدبية والدراسات النقدية، كونه ظاهرةً فنيَّةً وثقافيَّةً تتوفر على ثراء بنيوي بما يثيره من إشكالات وقضايا جمالية ووظيفية"1.
وإن الناظر في لغة الشعراء يلاحظ عنايتهم الشديدة في صياغة عناوين دواوينهم وقصائدهم الشعرية وفق أنماطٍ تركيبية محددة؛ لأن العنوان أول بنية لغوية يواجهها القارئ في النص الإبداعي، وقراءة العنوان تكشف عن جملة من الدلالات اللغوية والرمزية التي تُمكِّن القارئ من استكشاف النص الشعري وفهم مغزاه.
وقد تنوعت البنية اللغوية لعناوين دواوين الشاعر حسن الزهراني بين الإفراد والتركيب، فمن دواوينه التي جاءت في كلمة واحدة: ديوانه (تماثل=1425هـ)، أما الدواوين التي جاءت عناوينها في صورة المركب اللغوي، فقد تنوعت بين:
◅ المركب الإضافي، كما في (فيض المشاعر= 1412هـ)، و(صدى الأشجان= 1417هـ)، و(قطاف الشغاف= 1427هـ)، و(أوصاب السحاب = 1427هـ).
◅ الجملة الاسمية، سواءً أكانت مكتملة الأركان من (المسند إليه = المبتدأ) و(المسند = الخبر)، كما في (أنت الحب = 1408هـ)، أم محذوفة المبتدأ كما في (ريشة من جناح الذل = 1421هـ).
◅ الجملة الفعلية، وقد تنوع الفعل في تركيب الجملة ما بين الفعل الأمر وفاعله المستتر وجوبًا (أنت)، كما في عنوان ديوانه (هات البقية = 1434هـ)، والفعل المضارع المبدوء بهمزة المتكلم وفاعله المستتر وجوبًا (أنا)، كما في عنوان ديوانه (أعبر سم التوجس= 1437هـ).
وبذلك يتضح للقارئ تنوع البنية اللغوية لعناوين دواوين حسن الزهراني ما بين الكلمة الواحدة، والعناوين المركبة تركيبًا إضافيًّا (المضاف والمضاف إليه)، والعبارات اللغوية سواءً أكانت مركبًا اسميًّا أم مركبًا فعليًّا، فقد توزعت أغلب العناوين الشعرية وفق نمطين، هما: (بنية الإفراد) و(بنية التركيب)، وهذا يدل على امتلاكه ناصية اللغة، وأن أبنية العربية وتراكيبها اللغوية بصورها وأشكالها المختلفة تنقاد له طواعية في تجربته الشعرية.
وديوان (عندما تنطق الأماكن شعرًا) يمثل واسطة العقد في تجربة الشاعر حسن الزهراني، وعنوان الديوان يعد فضاءً سيميائيًّا مفتوحًا على كثيرٍ من الدلالاتِ اللغوية والرمزية التي يحملها، فقد جاء في صورة المركب الفعلي [الفعل (تنطق) والفاعل (الأماكن)] مسبوقًا بلفظة لغوية تدل على الظرفية (عندما)، ومنتهيًا بلفظة تدل على التمييز (شعرًا)، وتتكون بنية المركب الإسنادي لهذا العنوان من الوحدات التركيبية الآتية:
- (عندما) للدلالة على الظرفية الزمانية.
- (تَنْطِق)، فعل مضارع من باب (فَعَلَ يَفْعِل) بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وهو فعل مرفوع لأنه لم يُسبَق لا بناصب ولا بجازم، وقد قصد الشاعر دلالة التجدد والاستمرار التي يدل عليها الفعل المضارع؛ دلالةً على تجدد نطق هذه الأماكن العربية [التي ذكرها الشاعر في ديوانه] بالشعر، وأنها أماكن تفيض حيوية وعطاءً متجددًا بتجدد الزمان، ومع مرور الأيام.
والفعل المضارع يحمل في بنيته اللغوية دلالة الحدث والكلام والنطق والمحاورة باللغة، فقد شَبَّه الشاعر هذه الأماكن [التي يتحدث عنها نظمًا وشعرًا] بالشخص العاقل الذي يتحدث وينطق؛ فيحاوره بالشعر كلامًا موزونًا مقفًّا ذا معنى ودلالة، ثم يرفع الشاعر ما في بنية اللفظ من الإبهام والغموض، حينما يحدد نوع الحديث بأنه شعر [أي: الكلام الموزون المقَفَّى]، والشعر كما هو معلوم ديوان العرب، وكأن هذه الأماكن شاهدة على مجد العروبة ومكانتها في التاريخ.
- (الأماكن)، جاء الفاعل في هذا التركيب اللغوي لعنوان الديوان اسمًا مفردًا [ليس مثنى ولا جمعًا]، وقد جاءت بنية الاسم في صيغة الجمع = جمع الكثرة بزنة (فَعَالِل)؛ دلالة على كثرة الأماكن التي يقصدها الشاعر، والتي ظهرت واضحةً جليَّةً في الديوان، سواءً في عناوين القصائد، أو في الأبيات الشعرية التي تخَطَّت العشرين مكانًا.
وقد اختار الشاعر كلمة (الأماكن) في صيغة الجمع، والجمع هو ما دل على ثلاثة فأكثر، وهو قسمان، جمع القلة: ما دل على العدد من ثلاثة إلى عشرة، وجمع الكثرة: ما دل على أكثر من عشرة، وقد صاغ الشاعر وزن الكلمة على صيغة (فَعَالِل = أماكن)؛ دلالة على كثرة هذه الأماكن التي تفيض بالإبداع والنظم الشعري، وهو ما يتوافق مع نظم حسن الزهراني وإبداعه، فعلى الرغم من صغر حجم الديوان، وقلة عدد قصائده الشعرية إذا ما قُورِنت بدواوينه الأخرى، إلا أن الشاعر قد نظم عددًا من قصائده في هذا الديوان تحمل أسماء بعض الأماكن العربية المعروفة بحركتها الشعرية، هذه الأماكن قد تَخَطَّت العدد (ثلاثة)؛ لتُنَاسِب صيغة جمع الكثرة التي اختارها الشاعر لصياغة كلمة (الأماكن) في عنوان ديوانه، ثم إنه ذكر عدة أماكن تخَطَّت في عددها الرقم (عشرة)؛ ليتناسب النظم الشعري مع اختياره صيغة جمع الكثرة دون جمع القلة.
- (شعرًا)، وقد وقع هذا اللفظ اللغوي في موقع التمييز؛ لإزالة الإبهام والغموض في اللفظ المميَّز (الأماكن)، وقد جاء لفظ التمييز في صيغة المفرد بزنة (فِعْل).
إن عنوان الديوان يحيل إلى عدد من الدلالات اللغوية والرمزية التي يشير إليها، فالعنوان الذي جاء في صورة جملة فعلية يشير إلى عدة دلالات مكثفة في بنية النص اللغوي للقصيدة، واختيار الشاعر عنوان ديوانه ليس اختيارًا عشوائيًّا أو اعتباطيًا، بل هو اختيار مقصود لذاته، خاصةً أن عنوان الديوان غالبًا ما يشمل عنونة معظم القصائد الشعرية التي يضمها بين دفتيه.
البنية اللغوية لعناوين قصائد الديوان
إذا كان العنوان من أهم العتبات النصية لما يمثله من مدخل رئيس لفهم دلالة النص الشعري، فقد جاء "الفضاء النصي للعنوان مشحونًا بجملة من التساؤلات، تحيل إلى عددٍ لا نهائي من الدلالات، وهو ما يدفع المتلقي إلى محاولة فك شفراته بوصفه بطاقة هوية للديوان المنظوم"2.
وقد احتوى الديوان سبعًا وعشرين قصيدة، ترتيبها في الديوان على النحو الآتي: [فاتحة، الثرى القدسي، منجم الإبداع، مهبط الإلهام، دانات في جيد الشمس، بلجرشي، جوف الجوف، العقيق، صبا صبيا، أبها البهاء، دوس، بِيَّدة، المندق، المكلا، ناوان، قلوة، بيضان البياض، حي الهفوف، يا ليتني عقد فل، لحن الكرامة، الليث، عُمَان، شمال الجمال، المخواة، الشارقة، حائل، القرى]، وإن عناوين القصائد التي يحتويها هذا الديوان الشعري تتسق في دلالتها اللغوية مع عنوان الديوان؛ وبهذا يتضح أن الشاعر كان موفقًا في اختيار عناوين قصائده التي تتوافق دلاليًّا ورمزيًّا مع عنوان الديوان.
وقد نَوَّع الشاعر في عناوين قصائده بين (بنية الإفراد)، و(بنية التركيب)؛ فغلبت صورة الإفراد [الكلمة الواحدة] – إيجازًا واختصارًا - على معظم عناوين قصائد الديوان، حيث جاءت خمسة عشرة قصيدة يتكون عنوانها من كلمة واحدة فقط، وهذا الاختيار اللغوي لعناوين القصائد يثبت "ميل الشاعر إلى الاقتصاد في صياغة عناوينه؛ مما يوسع هامش التأويل والتحليل أمام القارئ"3.
وقد تعددت بنية التركيب اللغوي في عناوين القصائد إلى عدة صور لغوية، هي:
◅ صورة المركب الإضافي الذي يتكون من وحدتين تركبيتين، هما: (المضاف) و(المضاف إليه)، وقد جاءت ثمانية قصائدة شعرية على صورة هذا النمط التركيبي، كما في عناوين قصائد: [منجم الإبداع، مهبط الإلهام، جوف الجوف، صبا صبيا، أبها البهاء، بيضان البياض، لحن الكرامة، شمال الجمال].
وهنا "تتجلى شعرية العنوان في التراكيب الإضافية التي تفيد التعريف بإضافتها للاسم المعرف بـال، فهي تراكيب تعكس الإبداع الشعري عبر انزياح المألوف، وإقامة علاقة متوترة بين المضاف والمضاف إليه بحيث تنسحب العبارات اللغوية نحو المجاز"4؛ فيُظهِر للمتلقي مدى ارتباط عناوين القصائد بالمكان وجمالياته الفنية في بنية القصيدة، وما تحمله العناوين من دلالات لغوية ورمزية تكشف عنها أبيات القصيدة.
◅ صورة المركب النعتي الذي يتكون من المنعوت المعرف بـ(ال) والنعت المعرف بـ(ال)، كما في عنوان قصيدة: [الثرى القدسي].
◅ صورة المركب الاسمي الذي يتكون من المبتدأ والخبر (شبه جملة)، كما في عنوان قصيدة: (دانات في جيد الشمس).
◅ صورة المركب الندائي/ للتمني، كما في عنوان قصيدة: (يا ليتني عقد فل).
وقد توافق عنوان الديوان مع محتواه الشعري؛ فجاءت معظم عناوين القصائد تحمل أسماء أماكن بعينها، كعواصم الدول العربية (عُمَان)، أو أسماء بعض المدن التي اقترن اسمها بحركة الأدب والإبداع، سواءً في المملكة العربية السعودية (حائل)، أو على مستوى الوطن العربي (الشارقة)، هذه المدن يرى الشاعر أنها تفيض بالعطاء والحيوية والإبداع، فكان عنوان ديوانه معبرًا عن عناوين القصائد التي تضمَّنَتها، وقد أراد حسن الزهراني باستدعائه مثل هذه الأماكن عناوينًا لقصائد ديوانه أن يؤكد على قوة ارتباطها بحركة الإبداع الشعري.
وتتميز قصائد الديوان بالإبداع في جماليات اللغة التصويرية المتمثلة في التشبية والاستعارة والكناية، وجماليات اللغة الإيقاعية المتمثلة في الإيقاع الخارجي (الوزن والقافية) والإيقاع الداخلي (التكرار/ الجناس/ الطباق/.... وغيرها من المحسنات البديعية)، بالإضافة إلى جماليات التناص والتفاعل مع النصوص الأخرى، وهو ما يوضح أهمية عنوان الديوان بوصفه عتبة نصية في كشف دلالات النصوص الإبداعية التي يحتويها.
الإحالات المرجعية:
1. سيمياء العنوان في ديوان (مقام البوح) للشاعر الدكتور عبد الله العشي، شادية شقروش، صـ: 269 بتصرف، الملتقى الوطني الأول، بعنوان: (السيمياء والنص الأدبي)، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، 7-8 نوفمبر2000م.
2. التناص العنواني ودلالته في ديوان (مزاجها زنجبيل) لفواز اللعبون: دراسة سيميائية، د. فاطمة بنت سعيد أحمد العمري، ص: ـ589، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، العدد السادس، الجزء الأول، سبتمبر – ديسمبر 2022م.
3. سيمياء العنوان في ديوان (مقام البوح)، شادية شقروش، ص: 286.
4. ينظر: سميوطيقا العنوان في شعر عبد الوهاب البياتي، د. عبد الناصر حسن محمد، ص: 66 بتصرف، دار الفردوس للطباعة، الناشر: دار النهضة العربية، القاهرة، 2022م.