التساؤلات الصامتة في الفيلم الإماراتي "سبيل"

عبد الهادي شعلان



ما دورنا الرئيس تحت الشمس، وفي ضوء القمر؟ لماذا نسعى ليل نهار من أجل الحصول على زجاجة دواء لمريضنا؟ ما فائدة الكلام الَّذِي نتحدث به طوال حياتنا إذا كنا نستطيع أن نتعايش بصمت وهدوء؟ ما هي واجباتنا نحو الآخر الغريب الَّذِي قد يحتاج لمساعدتنا دون أن يطلب؟ هل يمكننا أن نمد يدنا بالمساعدة لمن يمتلك سيارة فخمة، حَتَّى لو كان كل ما نملكه هو زجاجة ماء؟ ماذا سيحدث إذا قام كل منَّا بما وجب عليه القيام به دون صراع على أشياء لا أهمية لها؟ أسئلة وجودية ذات معنى ستطرق باب خيالك وأنت تشاهد الفِيلْم القصير "سبيل" إخْرَاج: خالد المحمود، سيناريو: محمد حسن أحمد، شارك فيه: رزيقة الطارش، حسن المرزوقي، حسين محمود.

 


الفطرة تقود الصمت:

حين ندلف للفِيلْم نجد أنه ليس بالطريق الممتد أمامنا على الشَّاشَة سوى شابَّين يجلسان بعيداً عن نهر الطريق، خلفهما مجموعة من الخضروات يبيعونها لراكبي السيارات، يبدو أن أحد الشابَّين أكبر من الآخر نوعاً ما، فهو يدير كل شيء على بساطة الأمور ووضوحها أمامنا، تشعر أنه المسؤول الكبير بالفطرة عمَّا يحدث، والصغير يعرف أنه صغير، فالأخ الكبير: يقود الدَّرَّاجَة النَّارية، ويبيع للزبائن، ويحتفظ بالنقود معه، وهو من يَرْعَى الزرع، ويعطي الدواء لوالدته، ويغسل الفاكهة، والأخ الصغير يبدو راضياً عن هذه السُّلْطة الفطرية، لا ينازعه فيها، حَتَّى إنَّنا حين نراه يركب خلفه في الدَّرَّاجَة النَّارية ندرك أنه يعرف قيمة الأخ الكبير، في نهاية المطاف يدخلان منزلاً فقيراً، يومهما يمضي بين بيع الخضروات، ورعاية الوَالِدة، يغسلان ملابسهما في المساء؛ ليرتدياها في الصباح دون تذمُّر، فقط يبدو أن الحزن يخيِّم عليهما، ولأنهما في صمت فالمُشَاهد لا يعرف العلاقة بين الشابَّين والسيدة، فقط يدرك من حميميَّة العلاقة أنها الأم وأنهما الأبناء، دون كلمة.


الفراغ يحيط الصمت:

يحيط الفَراغ والخَواء بكل جوانب المكان الَّذِي تمت فيه أحداث الفِيلْم، فالمكان الَّذِي يبيعان فيه خضرواتهما فارغ من كل ما هو حي إلا بعض السيارات الَّتِي تمر على فترات، الأرض جافة، لا تحتوي إلا على بعض الأعشاب الخضراء الَّتِي تُشْعِر المُشَاهد أنها تعاند للصمود أمام هذا الجفاف، وتُخْرِج أوراقها من الأرض بصعوبة كي تستمر الحياة، الطريق الَّذِي يمر به الفِيلْم فارغ وخاو من كل ما يَتَنَفَّس، لم نر طائراً يرفْرف في السَّمَاء، ولا قطة تجري وراء فأر، ولا دجاجة تصيح، أين الحياة هنا؟!

المكان فارغ من الصوت، فلم نسمع سوى صوت الدَّرَّاجَة النَّارية وهي تنطلق في الطريق الفارغ، البيت فارغ من كل شيء، ليس به غير فِرَاش قديم على الأرض، وأطباق للأكل وزجاجة دواء للأم، والضوء يتسلَّل من السَّمَاء للبيت ليشعرك بمزيد من الفراغ، لا نسمع حَتَّى صوت كلب في الليل، يبدو أن كل الحيوانات هربت من هنا؛ لأنها اكتشفت أن الفراغ سيجعلها تموت من الصمت.

الصمت في الفِيلْم يجعلك تبحث عن أي صوت يَصْدر حَتَّى ولو كان صوت قطرة ماء تسقط على ورقة شجر، المكان فارغ من أي تَسْلِيَة، لا يوجد أي وسيلة لهو يمكن أن تقضي بها على هذا الفراغ الصامت، لا وجود لرفاهية المتعة، لذلك كانت حالة الجفاف والصمت والوحدة والحزن متكاملة مع معطيات الفِيلْم، حَتَّى اللعب لم يكن الشابَّان يمتلكان سوى لحظة في الطريق، يقذفان على نهر الطريق قطعة من زجاجة بلاستيك ممزَّقة كأنها كرة، حَتَّى لحظة اللعب هذه سبقتها نظرة استغراب من الأخ الكبير حين دفع الأخ الصغير قطعة الزجاج البلاستيك جانب الأخ الكبير، الفراغ والصمت يطالعنا منذ البدء في الطريق الفارغ القادم من بعيد والمستمر للبعيد.

صوت الموت:

يمر أمام المُشَاهد في الفِيلْم يوماً من أيام الصمت أكثر رمادية، وأكثر حزناً وأكثر تعباً للأخوين؛ فحين تتعطَّل الدَّرَّاجَة النَّارية منهما يدفعانها وهما عائدان للمنزل وهما في غاية الإرهاق، وكأن الليل يخبئ لهما شيئاً خفياً بعد هذا اليوم الطويل المرهق من دفع الدَّرَّاجَة النَّارية، يبدو الحزن أكثر سوداويَّة في الأفق، لقد ظهرت الكآبة على الدنيا، وحين أراد الكبير أن يعطي لوالدته الدواء رأينا آخر قطرات في الزجاجة، تجرعتها الأم بمرارة، وكأن صُنَّاع الفِيلْم يُعِدُّون المُشَاهد للحظة مفصليَّة بدت في الأفق، وبالفعل اكتملت دائرة الحزن فرأينا الوَالِدة ممدَّدة على ظهرها على الأرض، وفي تلك اللَّحْظَة شاهدنا صدر الصغير يعلو ويهبط، قال الصدر إنه خائف، دون كلمة، ونظر الصغير لأخيه الكبير نظرة ففهم أنه يريده أن يفعل شيئاً، إنه يعتمد عليه، ووجَبَ عليه الآن أن يتَّخذ قراراً في هذه اللَّحْظَة المصيريَّة.

غَطَّى الكبير وجه الأم، لقد ماتت ورحلتْ عن هذا الفراغ، لم تعد موجودة في هذا الصمت، حين جلس الشابَّان في حزن يودعانها ظهرت قدماها عاريتان؛ فمدّ الصغير يده وغطَّى عُري القدمين، كأنه يستر أمه، وظلا أمامها جالسين في حزن زاد حين خرجا سوياً للهواء وتركاها في الداخل وبدا أنهما في حيرة، وأنهما لأول مرَّة يمرَّان بهذا الموقف.

جلسا تحت السَّمَاء والمُشَاهد يتساءل ماذا سيفعلان في جُثَّة الأم؟ هل ستدفن تحت التراب في صمت، فيصبح الصمت أزلياً في الحياة والموت؟ هل ستخرج الأم من الدنيا دون أن يدرك أحد أنها عاشت وماتت؟ جلسا تحت السَّمَاء كأنهما يستنجدان بالرَّب أن يلهمهما فعل أي شيء في هذا الليل الميِّت.


أكثر عزلة وأكثر خواء:

في الصباح ظهر كل شيء ساكناً، الأرض لا تجد من يرعاها، والخضروات لا تجد من يجمعها، والملابس تنتظر من يرتديها، والهواء ميِّت في الفراغ، رأينا الزرع ذابلاً، ويكاد ينكفئ على الأرض، متناسباً ومتوحداً مع حالة الحزن الَّتِي غلَّفت الفراغ والصمت، وكأن الكون كله صار حزيناً على رحيل الأم، هذا المكان الَّذِي كان منعزلاً عن الدنيا ساكناً في الفراغ والخواء، صار أكثر عزلة وأكثر خواء، وفي مطلع المشهد في النهار بانت الدَّرَّاجَة النَّارية تنفث الدخان بصون كالعويل، فقط لا يرى المُشَاهد غير ماسورة تنفث الدخان السام المميت، تنفث عادم الموت، ونتساءل، ماذا فعلتم بأمكم؟

يفاجئنا صُنَّاع الفِيلْم بأن الشابَّين يحملان والدتهما بينهما على الدَّرَّاجَة النَّارية في احتضان يحميها من السقوط، وهي ترتدي السواد، رأسها مغطَّى بالسواد، تنطلق الدَّرَّاجَة النَّارية تحمل الثلاثة في الطريق وتنبت في خيال المُشَاهد تساؤلات حول هذه السيدة، هل هي مريضة وسيذهبان بها للمستشفى؟ لكن حالة الحزن تنفي ذلك، وميلها الشديد يقول إنها فاقدة الحياة، حَتَّى كادت تسقط من على الدَّرَّاجَة النَّارية، هل قرَّرا أن يذهبا بأمهما لتُدْفَن كما يجب وفق مراسم معينَّة؛ كي يكون لها ذكر من عاش ومات على هذه الأرض؟

ينتهي الفِيلْم على هذا المشهد المؤثر لأخوين يحملان أمهما لمثواها الأخير على دَرَّاجَة نارية في وضح النهار، وهما يعبران طريقاً جافاً وصامتاً وحزيناً وعيونهما تتساءل عمَّا سيفعلان من بعد رحيلها؟ لمن سيعودان بعد أن تنتهي أعمالهما؟ هل سيستمران كما كانا؟ أم برحيل الأم تفكَّكت عرى الحياة وسيأتي الضجيج المزعج.
 

رسالة الصمت:

على الرغم من أن الفِيلْم لم نسمع فيه كلمة واحدة بلسان أحد الموجودين داخله، إلا أن الفِيلْم قام بتبليغ ما يريد من طرح أسئلة، وقال كلمته واضحة جليَّة في صمت، وأرسل المضمون عبر الصورة لكل ما يريد البوح به، وذلك على بساطة طريقة العرض الَّتِي تناولها صُنَّاع الفِيلْم، فالفِيلْم لم يعرض سوى أيام تتكرَّر بصورة مستمرَّة تقترب من الملل في حياة شابين، أيامهما كلها متشابهة، فما نراه اليوم هو ما رأيناه بالأمس وهو ما سيحدث في الغد، والغريب أنه مع صمت الفِيلْم المتعمَّد لم يبتسم أحد طوال الفِيلْم بتعمُّد أيضاً.

هل يقول الفِيلْم إن هذا هو سبيل الإنسانيَّة الَّذِي تسير فيه والَّذِي سارت فيه من قبل؟ طريق موحش لا ندركه، هل أراد الفِيلْم أن يعبِّر عن الحياة والفراغ الَّذِي يعيش فيه الإنسان؟ فالأيام تمر بين زرع وأكل ومرض وبيع ما تمت زراعته لشراء الدواء، هل يريد الفِيلْم أن يقول إن الحياة تمر في سلسلة من الفراغ، وأن الليل يعقبه النهار وأنه ليس للإنسان سوى هذا الجلباب الَّذِي يرتديه، وهذه الصُّحْبة الَّتِي تلازمه عن محبَّة، هذه المساعدة البريئة الَّتِي يقدمها لأخيه الإنسان والَّذِي يحتاجها على الطريق؟ رُبَّما يقول الفِيلْم إن كل هذا هو السبيل الَّذِي لا مفر منه ما دمنا تحت الشمس نأكل مما تخرجه الأرض.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها