عويل الخواتم

انتصار عباس

هأنذا جسد يتحرك، لا شيء يسكنني سوى خواء أشيب قدر لأحزانه أن تسقط على زجاج القلب فتحطمه، أشاغلني تارة بالحب وأخرى بالمرض وأحياناً بالبحث عما هو غريب، لأدور في الأسواق أبحث عن خاتم يشبه خاتم أبي، وقفت عند زجاج الواجهة الأمامية لأحد المحلات، حيث تقبع الخواتم، تستوقف المارة وتناديهم وخاصة النساء، أنتقل بين هذا وذاك وأخيراً وقعت عيناي على خاتم نسائي جميل يطل علي من بين كل الخواتم، تخيلت أصابعها تأملته طويلاً وقلت أعود، حملني انشغالي بالبحث عن خاتم شبيه بخاتم أبي للسير والمتابعة حتى أنهكني التعب واستنزف قواي، توقفت أمام واجهة أحد المحلات أتصبب عرقاً لشدة الحر، تلفت حولي علّني أرى كرسياً أجلس عليه ولو لبضع دقائق، أطل علي صاحب من واجهة العرض الزجاجية وقد كان يرتب الخواتم وكأنه قرأ علامات التعب على وجهي، خرج إلي يرسم ابتسامة على وجهه قائلاً: تفضل كنت أنتظر اللحظة التي أجد فيها كرسياً وقد أشار إلى الكرسي لأجلس عليه، ثم أخرج مجموعة من الخواتم من أحد الأدراج لكنها لم تكن تفي بالغرض، فالخاتم الذي أبحث عنه ليس موجوداً، حاولت النهوض لكنه أخرج علبة أخرى وناولني إياها قائلاً: اختر ما يناسبك، ثم فتح ثلاجة صغيرة أخرج منها زجاجة ماء وضعها أمامي، وسألني: كيف تشرب قهوتك أستاذ قلت: سادة.

ثم اقترب قائلاً: مثل هذه الخواتم لا أعرضها في الواجهة الأمامية فلها زبائنها ولا يشتريها إلا من لهم علاقة بالسوق والتجارة، فهم يحبون الظهور بمظهر يليق بمكانتهم الاجتماعية.. أهز رأسي مؤيداً لكلامه، وقد وقعت عيناي على الخاتم المطلوب، وأخيراً وجدت ضالتي، تنهدت بارتياح، رفعت يدي في الهواء ووضعته في أصبعي، تروح بي الذاكرة لأرى أبي وهو يتحدث عن السوق، ويتناول الطبق عن الطاولة.. يختال الخاتم في اصبعه ينادي عيناي لتتبعه كيفما تحرك وببراءة الأطفال أقول: أبي ألبسني خاتمك

يضحك بأعلى صوته قائلاً: غداً تكبر وتصبح تاجراً مرموقاً فتلبسه، ثم تتغير ملامحه فجأة وكأنه تذكر شيئاً لتصبح أكثر صرامة، هذا للرجال! أعادني صوت صاحب المحل من شرودي وهو يقول: تناول قهوتك أستاذ قبل أن تبرد، ناولته الخاتم وقد تلعثمت بعض الشيء، وقلت: في الحقيقة هذا الخاتم يشبه خاتم أبي وقد رحلت بي الذكريات أرجو المعذرة، فقد كان تاجراً بالفعل! ثم دفعت ثمنه وعدت أدراجي حيث الخاتم النسائي، ها هو يناديني! فكرت قليلاً لم لا أشتريه لها، فطوال معرفتي بها، لم أرها تلبس خاتماً.. هل من المعقول أن يكون هناك امرأة بلا خاتم؟! خاتم واحد على الأقل؟! واحد..! وبلا تفكير، اشتريته .

في صبيحة اليوم التالي بينما كنا نحتسي قهوة الصباح أنا وهي وبعض زملاء العمل، أخذنا الحديث حول غلاء الأسعار ووجوب تغيير القوانين المعمول بها، وزيادة الرواتب احتد النقاش بيننا وقد انفعلت بعض الشيء، فمثل هذا الموضوع يثير غضبي، وبحركة لاشعورية رفعت يدي، أشير بإصبعي الحكومة هي المسؤولة عن هذا الغلاء، عدا ارتفاع إيجار الشقق، وقانون الإيجار الجديد (جرمتنا) الحكومة، أحد الزملاء يتتبع حركة يدي قائلا: البراغماتية بعينها تتحدث عن الغلاء وتلبس خواتم السلاطين، من المؤكد أن رئيس الحكومة عندما قرر رفع الأسعار، أخذ جولة في السوق يرقب حركة الناس وردود أفعالها جراء هذا الغلاء، فرآك، وقال في نفسه :الشعب يكتنز الذهب ويحتج على الغلاء سألقنه درساً لن ينساه.. يقهقه الجميع
وقال آخر: أجارنا الله من الدرس الثاني
آخر: هل بقيت دروس أخرى يا الله ألطف بنا
آخر: مسكين رئيس الحكومة مثلنا يصدق كل شيء

إحدى الزميلات: مصيبة إن لم يكن يرى إلا الخاتم؟! انتبه الجميع لخاتمي، أحدث نفسي خاتم أخاذ، وإلا ما كان ليلفت نظر الجميع، انصرف كل إلى عمله، وبقينا أنا وهي وحدنا، تشاغلت عنها مدعياً الانهماك بالعمل وبعد مرور ما يقارب الساعتين تنهدت وكأنني أنجزت الكثير من الأعمال، وضعت الملفات في الدرج وأقفلته، ليس لأن في الأمر سر ولكن حتى لا تعرف بما كنت أشاغل نفسي، فقد كنت أجهز للكلمة التي سأقرأها اليوم في حفل جمعية المكتبات، فهي شديدة الفضول وتحب أن تعرف كل شيء، ثم رفعت رأسي وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة، خبيثة وقلت: يوم عصيب!

ردت: ما رأيك بفنجان قهوة؟! هززت رأسي موافقاً ثم تنحنحت قائلاً: آه نسيت .. هذه لك وناولتها الخاتم، وباستغراب سألت: لي؟! وما تراه يكون؟

قلت: افتحيه وستعرفين

تفتح العلبة وبدهشة وانفعال شديدين قالت: خاتم لي، ولكن ما المناسبة؟

أشير للخاتم الذي في أصبعي: كنت أبحث عن هذا، وكان هذا (أشير للخاتم النسائي ) يناديني، راقني أن أراه في إصبعك.

وبرقة مبالغ فيها قالت: أنت صديق، لا يتكرر ولكن ...

قلت: ضعيه في إصبعك قبل أن أغير رأيي وأقدمه لأخرى. وتعالى صوت ضحكاتي، وضعته في الحقيبة وغادرت .

في صبيحة اليوم التالي جاءت مبكرة وعلى غير عادتها وبقينا صامتين طوال الوقت، نتبادل الابتسامات الباردة التي لا معنى لها، ثم نظرت إلى ساعتها قائلة: علي أن أغادر قبل بدء الأزمة

أقاطعها: أعلم.. موشح كل يوم، ثم بادلتها ابتسامة أشعرتها أني متعاطف معها، رغم معرفتي بأنها تكذب.

لم أكن لأجد أي حرج في أن أجلب لها هدية، فنحن صديقان منذ زمن بعيد؛ ولا أدري لِم كنت متلهّفاً لأراها وهي تلبسه يتراقص في اصبعها كلما حركت يدها أو تناولت شيئاً، يغص في حلقي السؤال والأيام تمر يوماً بعد يوم وأسأل نفسي: لماذا لم تلبس الخاتم ولو مرة واحدة فقط تجاملني فيها؟ تراها ظنته تعويذة؟! أو علها ظنتني أرسم لإيقاعها في شراكي؟! أو.. أو

أسئلة كثيرة تدور ولا أجد لها أجابة والأهم من كل هذا، ما الذي يدفعها لتتركه وحيداً في الدرج يعوي؟

يا لتلك المرأة

ألهذا الحد نحن قادرون على التخفي خلف أجسادنا، لنبدو بصور تشبهنا، وقد نكون الضدين معاً وفي آن واحد؟ أشياء كثيرة نشتهيها، وندفع مقابلها عمرنا، وهذا مجرد خاتم أحاول فتح أي موضوع للحوار نتحدث؛ تشير باصبعها ضاحكة وكأن شيئاً لم يكن ولا أجرؤ على سؤالها، أسأل نفسي تراها ستقول السبب لو كنت أسألها عبر الهاتف وهل سيكون لدي القدرة لأسأل، لست أدري! في ضحكاتها يستتر السؤال ما الذي دعاه ليجلب هذا الخاتم؟

تدخل المنزل تطيح بالملابس على الأرض، الأساور، ترمي بشعرها على ظهرها يرتمي الجسد الحافي على الأرض تطارده المرايا تفكر: ما الذي دعاه ليجلب لها هذه الهدية وبالذات خاتم! يرن الهاتف تنهض بتثاقل ترفع السماعة وتضعها جانباً دون أن تقول كلمة أو علها تسمع صوت المتصل، تأخذ نفساً عميقاً، تدخل غرفتها تخرج صندوقا من أحد الأدراج وتخرج للصالة تدندن: "يا بياع الخواتم بالموسم يلي جاي جبلي معك شي خاتم.. رح يتركني حبيبي احبسلي حبيبي بخاتم يا بياع الخواتم"، تفتح العلبة تنظر إلى الخواتم النائمة وتخرج واحداً قائلة: هذا خاتم عماد، وهذا قاسم، علي أحمد، عدنان عمر خلدون، محمد، مروان، مازن، وبهذا تكتمل المائة، تغلق العلبة، تهتز الخواتم، لشدة انفعالها وتسقط، تنتشر الخواتم على الأرض تفقس خواتم جديدة، تهرب للغرفة وتغلق الباب.

تنتشر الخواتم وكل خاتم يفقس خاتماً جديداً في الصالة على جدران النوافذ، السقف، الحديقة، الشارع، تنام الأضواء، الحياة، الناس، وتبقى الخواتم تحاكي الطريق وفي الصباح تعود أدارجها وذاك العويل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها