آخر الضحايا

عبدالعليم حريص


"وجه آخر للحقيقة، قد لا يتراءى في مخيلة البسطاء والحمقى"، همست بها "ناجية" وهي تتحسس ملامح وجهها الحادة، وأيقنت لتوّها.. كيف أن الأيام سرقتها؛ لتجد نفسها على عتبة الأربعين، ولم تحلّ ضفائرها على كتف رجلٍ! (أيّ رجلٍ والسلام)؛ إذا كان ذلك سيشعرني براحة ولو مزيّفة.. فلا بأس! ولكن أيُّ الرجال يستحق؟

هكذا كانت تحدث نفسها بأنها أنثى مرغوبة من قِبل كلّ الذكور، الذين صادفتهم في حياتها.

استلقت على بساطها، واضعة ساقاً على ساق، متنهدة زفيراً تجمع في صدرها، لتطلقه دفعة واحدة في سماء عزلتها، وهي تتمتم: تبّاً لأولئك المتزوجين، فهم بارعون في بيع الوهم على مسامع العذارى، وكلّ ما يدور في عفن خلدهم، هو التهام ثمار لم تقطف بعدُ -بحسب ظنّهم- ولكن هيهاتَ أن أسلّم نفسي لأشباه الرجال.

ملعونون يا ذكور الغاب، وعُبّاد الرذيلة.. وسأظلّ أحتقر وجودكم في عالمي، وآتي بكم لأدوس على أنوفكم بقدميّ، يا له من إحساس ماتع.. حين يخرّ أحدهم من عليائه أمامي، لأمنحه شرف أن يلعق أصابع قدميّ، قبل أن أرجعه من حيث أتى.. دون أن يتجاوز كاحلي!

هكذا عودني أول الضحايا، حين اختلى بي، في غفلة من الحيّ، وقتها استغربت أفعاله تلك، كيف له أن يترك جميع ممالكي، ومطايبي.. وينحني عند قدميّ، للوهلة الأولى ظننته مجنوناً، أو يُعاني خللاً في هورموناته الذكورية المتأججة.. ولكن سرعان ما اعتدت جنونه وخلله! وصارت متعة تسري في سائر جسدي، حين يلتهم أصابعي، ويلعق كافة قدمي.

ملكةٌ أنا.. وبين قدميّ تكمن كلّ الرغبات المكبوتة، في عيون الرجال اللاهثة، خلف شبق العبودية، المتواري وراء تغطرسهم الزائل.. إلا في حضرتي!

هذه الصحراء، ملكٌ لي أنا وحدي! حين ينام الحيّ. أما البحر فهو خالص لعمتي "نادية"، التي قاتلت من أجله، وتحدت الجميع لتحظى بالقرب منه.. واختارت زوجها من سكانه، وهجرت ديارنا، فنحن أهل البادية، والخيام، والعقارب.

غير أن الحياة تغيرت هنا، وقد التهمت الكتل الخرسانيّة البادية، حتى صارت المدنيّة أقرب إلينا من خيامنا. إلا أن عقولنا ما تزال موغلة في غيّ صلابتها! وقلوبنا أقسى من صخور هذي الجبال، التي تلفّ المكان، فتطبق عليه.. لكيلا ترى عيوننا سوى ما تريده تلك الجبال.

أواه.. كم أكره القيود، ولا أعترف إلا بذاتي، كما أحلم بها.. وتتراءى لي عندما آوي إلى مضجعي.

أبي لا يحبّ البنات، ولا يقرّبنا منه، وبخاصة أنا.. لأني رفضت الزواج بأحد أقاربه، ووالدتي لا تعيرني اهتماماً؛ فأنا بحسب تصورها غبية ومتسلطة.

حتى عمّتي "نادية"، التي ورثتها في كلّ شيء، فما فتنة ساقيّ إلا ميراث (نادية)، فقد كانت وما تزال ساحرة البادية والبحر. أذكر حين كنت أتبعها صغيرة في الطرقات، فأرى أعين الرجال تكاد تقتلع من محاجرها على وقع قدميها، كنّا نمضي في سرب من العيون تلاحقنا، ونرجع بأسراب من المتطفلين خلفنا.. فهي مثلي الأعلى، والأقرب إليّ. لم تعد تسأل عنّي، ولا تدعوني لزيارتها في بيتها المطلّ على البحر، كباقي أخواتي! وكثيراً ما تتحاشى الحديث معي إن جاءت لزيارتنا، ولا تصطحبني معها في جولاتها على أهل الحيّ.

صرتُ أنا منبوذة من الجميع، وصار هاجس الانتقام يسيطر على كل تصرفاتي، حتى إني كرهت كل جنس ذكوري، لذلك لم أرحم المتيمين بقدميّ - بعد أن مللت منهم - فقد خبأت في "جيوبهم" بعضاً من عقارب جمعتها لهم؛ وتركتهم لمصائرهم.. ومن ثم اختفوا واحداً تلو الآخر من الحيّ.. ومن الدنيا كلها!

مزعجة تلكم الأفكار يا ناجية، هوني على نفسك، وواصلي حياتك وحيدة، كما قُدّر لك، فقد أصبت في سن الخامسة بلدغة عقرب في قدميك، وحملك والدكِ إلى المشفى، على أمل أن تلفظي أنفاسك الأخيرة.. بين يديه، قبل دخول المشفى.

وكتبت لك النجاة! وحين وصلت إلى سن السابعة نهشت حمى (الملاريا)، من جسدك النحيل، ما شاءت لها أن تنهش. وسلّم الجميع بعدم نجاتك هذه المرة؛ ولكنكِ فاجأتِهم وتحديت الموت، ودبّت فيك الحياة. فأنا ناجية.. وقد أخذت نصيباً من اسمي، وبعد واقعة اللدغ.. صرتِ لا تخشين العقارب، ولدغاتها، فقد غدت عندك أرقّ الكائنات، وأنبل المخلوقات.. فإن كانت عمتي (نادية) ساحرة البادية والبحر.. فـ"ناجية" الآن سيدة العقارب.. في جلّ الأزمنة، وعبر كلّ العصور.

إلا أن والدتي كثيراً ما تصيح في وجهي، بأن موتيّ هو أعظم شيء تنتظره؛ كي تستريح منيّ! وتستغرب كيف نجوت من كلّ تلك الميتات! لأبقى أنغص عليها حياتها، وحياة كلّ من حولي!

أنا لست قديسة بما يكفي؛ ليهرب منّي الموت، ولا أحصن نفسي بترانيم لاهوتية، ولا أعلّق تميمة سحريّة على صدري.. الذي نَهدَ قبل أوانه، وصار سبباً في احتجازي داخل البيت، وحُرمت من اللعب مع الصِبية، حول بئرٍ معطلةٍ في ساحة الحيّ.

أين "سالم" الآن؟ هذا الصبي الخجول، الذي استدار نهدي بين كفيه، قبل أن يرحل عن الحيّ.

حتى قبل أن تكتشف أمّي أن لي ليمونتين نافرتين.. قد أزاحتا ثوبي عن أعلى جسمي، وصارت الشمس تتسلل إليّ أكثر من ذي قبل!

لقد آن الأوان لأبحث عنه مجدداً، لا لشوقٍ إليه؛ ولكنّ لأن قدميّ أدمنتا لُعاب أشباه الرجال؛ لتكونا أكثر ليونة.. وأكون أنا أكثر انتشاء.. ويكون "سالم" آخر الضحايا!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها