"سلفادور دالي" العبقريّ المجنون

أمير الشلّي


"سلفادور دالي" (1904-1989) رسام إسباني ينتمي إلى المدرسة السرياليّة، اشتهر بلوحاته ذات التمثيلات الحالمة والسوداويّة، التي رسمها متأثراً بنظريات "فرويد" حول التحليل النفسيّ. تتسم أعمال "سلفادور دالي "بغرابتها وأحياناً بفجاجتها، والحال نفسه ينطبق على شخصيته المثيرة والغامضة. إذ يقول عنه معاصروه إنه شخص نرجسيّ مُصاب بجنون العظمة.
 

وُلِد "سالفادور دالي" سنة 1904 في مدينة "فيغيراس" شمال إسبانيا. كان والده محاميًا وكاتب عدل من الطبقة المترفة. كان له أخ يكبره بثلاث سنوات توفيّ بسبب التهاب السحايا، ما وضع والده في حالة من الإحباط الشديد، ولم يجد العزاء حتى جاء "دالي" إلى العالم. وقد كان مقتنعًا أن ابنه لم يفارق الحياة بل عاد إليها من جديد، لذاك قام بتعميده بنفس اسم أخيه المتوفى. يقول "سلفادرو دالي": "لقد كنت في نظر والدي نصف شخص، أو بديل، وكانت روحي تعتصر ألماً وغضباً من جراء النظرات الحادة التي كانت تثقبني دون توقف بحثاً عن هذا الآخر الذي كان قد غاب عن الوجود‍‍". وقد سبب له ذلك في أزمة نفسيّة حولته إلى شخص دائم السعيّ للفت الأنظار.

كان "دالي" ابنًا مدللًا وطائشًا وصعب المراس، تدفعنا أفعاله وتصريحاته المثيرة للجدل إلى الظن أنه شخص سيكوباتيّ. إذ يقول في مذكراته أنه قام في صغره بإلقاء صديقه من حافة عالية وقد نجى من الموت بأعجوبة، كما قام برفس أخته التي تصغره بثلاث سنوات، وعذب قطة إلى حد الموت.. ولا ندري ما إذا كانت هذه الأفعال الإجراميّة والمجنونة التي أوردها في مذكراته قد حصلت بالفعل أم قام باختلاقها، وغالب الظن أنه ادعى الإضطراب والانفصام للترويج لأعماله.

أظهر "سالفادور دالي" اهتمامه بفن الرسم في سن مبكرة وفي عام 1922، التحق بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في "سان فرناندو" في مدريد. كان "سالفادور" في ذلك الوقت مهتمًا بتعلم تقنيات الرسم الكلاسيكيّة. ثم تحول اهتمامه بشكل تدريجي إلى الفن التكعيببي، ثم الدادائي الذي كان مسيطرًا على الساحة الفنية في مدريد. وفي عام 1922 طُرد من أكاديميّة الفنون قبل أيام قليلة من اجتياز الاختبارات النهائية بسبب تشكيكه في كفاءة معلميه. ليعود في العام التالي ويواصل تعليمه بنفس الجامعة. انتقل سنة 1926 إلى باريس والتقى بالرسام الشهير "بابلو بيكاسو". في ذلك الوقت ما زال "دالي" يبحث عن هويّته الفنيّة. التقى في رحلته ثانية إلى باريس عام 1929، بالأعضاء الرئيسيين للحركة السريالية وفي نفس السنة التقى "غلا" التي أصبحت فيما بعد زوجته. خلال هذه الفترة، كان "دالي" حريصاً على حضور اجتماعات وحفلات العشاء التي يقيمها الأدباء والرسامون السرياليون. وفي عام 1931 أعلن انضمامه إلى هذه الحركة، ورسم لوحته الشهيرة "إصرار الذاكرة". يوضح هذا العمل تأثر الفنان بنظريّة النسبية "لألبرت آينشتاين" التي جسدها في صورة ساعات تذوب مثل الثلج. كما كان "دالي" شديد التأثر بنظريات "فرويد" حول التحليل النفسيّ فقد كان مهوساً بكتاباته حول اللاوعيّ والعقل الباطن، وقد انعكس ذلك بشكل واضح على أسلوبه الذي قاده نحو السريالية.

استمر "دالي" في العرض بانتظام مع السرياليين وفي وقت وجيز حقق شهرة عالميّة واسعة جعلته من الأثرياء. وفي ذلك الوقت، نمّى "دالي" شاربًا غريبًا أصبح فيما بعد جزءاً من هويته الفنيّة. وفي عام 1934 تزوج من "غالا" التي كان مهوسًا بحبها لدرجة أنه كان يوقع على أعماله باسمه واسمها معاً. كانت "غلا" موضوع عدد من لوحات "سلفادور دالي" ثم أصبحت فيما بعد مديرة أعماله.

وحتى يلفت الأنظار تجاه أعماله، اتبع "دالي"الكثير من الأساليب الملتوية، فقد قام بأِدراج صورة "هتلر" في عدد من لوحاته، كما أدلى بتصريحات تدعم الحكم الفاشي في إسبانيا، ما جعل مؤسس الحركة السريالية "أندريه بريتون " يتفق مع أعضاء حركته على إقصاء "سلفادور دالي". وقد جاء في تقريرهم التالي: "بعد إدانة "دالي" بارتكاب أعمال ثورية مضادة تتضمن تمجيد الفاشية الهتلرية، يقترح الموقعون أدناه استبعاده من السريالية". وقد رد "دالي" على هذا القرار بالعبارة التالية: "السريالة هي أنا".
 

نمت شعبية "دالي" بشكل ملحوظ بعد قرار طرده. فقد عرف كيف يستفيد من هذا القرار للتسويق لفنه، فقد تعاون مع عديد العلامات التجاريّة البارزة، كما شارك في إنتاج عدد من الأفلام القصيرة ذات المواضيع السرياليّة أشهرها فيلم "ديستينو" الذي أنتجه سنة 1945 بالتعاون مع شركة والت ديزني، ولم ير الفيلم النور إلا في سنة 2003.

وفي فترة الخمسينيات والستينيات أصبح "سلفادور" شخصية فنيّة غنيّة عن التعريف، فكان يظهر في المناسبات البارزة، مثل المهرجانات السينمائيّة وعروض الأزياء العالميّة، والبرامج التلفزيّة وكعادته كان يثير الضجة أينما حل. صحيح أن "دالي" كان معروفاً بسلوكه غير المتوقع، بما في ذلك حبه للحيل الدعائية ومع ذلك، كانت هذه التصرفات جزءًا من استراتيجيّة تسويقية. فقد أفاد العديد من أصدقائه ومعارفه أنه شخص عقلانيّ يتمتع بذكاء حاد وحس فكاهيّ قوي. فقد كان "دالي" يستغل فكرة الجنون لخلق جو من الغموض والإثارة حول إبداعه.

خلال الحرب العالميّة الثانية غادر "دالي" وزوجته أوروبا واستقرا في نيويورك وعاشا هناك لمدة ثمان سنوات. وفي ستينيات القرن العشرين، طلب عمدة مدينة "فيغيريس"، من الفنان أن يتبرع ببعض من لوحاته إلى متحف "إمبوردا" الذي يقع في مسقط رأس "سلفادور دالي". وبدلاً من ذلك، أعلن "دالي" أنه سيتبرع لمدينته بمتحف كامل. وفي عام 1974 تم بشكل رسميّ افتتاح المتحف، بواجهته التي صممها "دالي"، والمزينة بمنحوتات من البيوض العملاقة. يضم المتحف مجموعة سخيّة من أعمال الفنان، أنتجها في مراحل مختلفة من حياته. بالإضافة إلى اللوحات الزيتيّة توجد مجموعة متنوعة من المنحوتات التي شكلها بنفسه. كما يضم المتحف مجموعة صغيرة من اللوحات اشتراها "دالي" من فنانين بارزين "كمارسيل دوشامب"، و"جون دي أندريا".

وفي فترة الثمانينيات توفيت زوجته "غلا" وأصيب "دالي" بالزهايمر، وعاش بقية حياته في القلعة التي كان قد أهداها إلى زوجته. وبعد اشتعال النيران فيها، انتقل "دالي" إلى العيش في متحفه. وفي نوفمبر 1988، دخل إلى المستشفى بسبب قصور في القلب، فزاره الملك "خوان كارلوس الأول"، الذي أعرب له عن مدى إعجابه وتقديره لفنه. وفي يناير 1989 توفي "دالي" ودفن في متحفه تاركًا وراءه إرثاً فنياً عظيماً جعله رمزًا قوميًا لإسبانبا، وعلامة فارقة في تاريخ الفن الحديث. توجد أعمال "سلفادور دالي" اليوم في عديد المتاحف حول العالم بما فيها المتحف الذي عاش فيه في أواخر حياته ثم دُفن فيه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها