علياء زعل لوتاه... تشكيلية بدرجة فارس

بين الذاكرة والفعل

محمود شافعي

تطلّ علينا علياء زعل لوتاه كواحدة من أبرز الأسماء في المشهد التشكيلي الإماراتي المعاصر، ليس مجرد فنانة محلية بل باحثة، مقيّمة، ومنظّرة، صنعتْ لنفسها موقعاً يعكس طموحاً فنياً وآفاقاً عالمية. وما يلفت في تجربتها أنّها تسير بثبات نحو ترجمة ما يُحتشد في أعماقها من رؤية إلى مادة تشكيلية، ومن هناك إلى حضورٍ ثَقافي يحتفِل بلون الإمارات ويعرضه للعالم من نافذة معاصرة.


في هذا التحقيق، نرسم خارطة مسيرتها الفكرية والفنية، ونضعها في سياق الحركة التشكيلية الإماراتية والعالمية، محاولين فهم كيف وُلدت، إلى أين وصلت، وإلى أيّ مسارات تلوح في الأفق.
 

الجذور الصحراوية

نشأت علياء في دبي، في بيئة احتضنتها الحداثة بسرعة، لكنها لم تترك جذورها الصحراوية خلفها. في حوارٍ لها، تروي كيف كانت نافذة غرفتها تطلّ على منظر صحراوي، من المراعي والنوق إلى امتداد العمران سريع التوسّع، وكانت تطرح سؤالاً طفولياً بصوت صغير: «متى ستجهز دبي»؟ بتلك الطفولة المبكرة، التي جمعت بين الصحراء، وامتداد المدينة، ترسّخت لديها أولى علامات التناقض والحوار بين الأرض والعمران، بين الطبيعة والمدينة، بين الثابت والمتغيّر — والتي ستُشكّل بعد ذلك مادة فنية حاضرة في أعمالها.

درست علياء «الفنون الجميلة» في جامعة الشارقة، ثم تابعت دراسات عليا في تاريخ الفن وعلم المتاحف في جامعة السوربون – أبوظبي، وتُشرف حالياً على رسالة دكتوراه في جامعة السوربون بباريس. بهذا المسار الأكاديمي، فقد جمعت بين الممارسة والإنتاج والنظر، بين الريشة والمكتبة، بين التشكيل والبحث.

علياء الرسمة الأولى التي أنجزتها ذات يوم في طفولتها، كانت تجسيداً خاصاً في الألوان البنية والكركمية، لعلاقة لا شعورية بالأرض وكثبانها ورمالها. لكن ما تغيّر لاحقاً هو وعيها بأن ذلك الميل البريء كان بوابة لجسر بين الذائقة المحلية والانفتاح العالمي، بين الحسّ الإماراتي والتجربة الفنية العالمية.

ومنذ ذلك الحين، لم يكن الرسم مجرد هواية بل كان حصان طروادة نحو أسئلة أكبر: كيف يتغيّر الواقع من حولنا؟ ما أثر التحوّل العمراني على ذاكرة المكان؟ كيف تستجيب الأشجار، الرمال، شجرة الغاف، نور الشوارع، وهذه الأزمنة، في تشكيل رؤيتنا؟

في مجموعة من أعمالها، تجدد علياء قصص الطبيعة الإماراتية: أسّست لوحاتٍ لرؤوس أشجار الغاف تتوهّج تحت أضواء شوارع دبي، وهذا تصوّر خلاّق لمشهد يبدو خارقاً لكنه حقيقيّ من الداخل، يركب بين الحلم والواقع، بين التراث والحداثة، بين السماء والرمل.

الفن: بين العالمية والمحلية

منذ الثمانينيات، شهدت الإمارات بروزاً ملحوظاً للفنون التشكيلية، مع أولى المعارض وجمعيات الفنانين المحليين. ولكن علياء تنتمي لجيل يُنظر إليه على أنه «جيل ما بعد التأسيس» – جيل يعرف أن الفن ليس محلياً فقط، بل عالمياً، وأنّ الهُوية الإماراتية يمكن أن تكون مصدراً للإبداع لا قيداً.

تُعدّ أعمالها من هذا المنطلق مثالاً على كيف يمكن للفن الإماراتي أن يعبر الحدود، ويشكل فسحة مشتركة بين التراث والحداثة، بين المحلي والعالمي. من خلال طبيعتها، مدينتها، ضوءها، تختبر علياء سؤالاً عربياً وعالمياً عن الهُوية البصرية والانتماء، عن التغير والتثبيت، عن الرؤية والفعل.

وهذا يجعلها ليست فقط فنانة مشاركة، بل فاعلة في خلق وطرح الأسئلة: كيف يرى الفن الإماراتي اليوم نفسه أمام العالم؟ كيف يعبر بغير أن ينفصل؟ وكيف يستمد من بيئته ويرتقي؟

وبذلك؛ فإن حضورها محلياً –من عبر دبي أو أبوظبي– يمتد نحو ساحات الفن العالمية، وهي بذلك خطّ اتصال.

من الإنجازات اللافتة: حصولها على وسام «فارس الفنون والآداب» الفرنسي، والذي يشير إلى مدى ربطها بين الإمارات وفرنسا ثقافياً وفنياً. كذلك، تنظيمها أو إشرافها على معارض ضخمة، وعملها في تقييم المعارض، وتأطير الفنانين، وتدوين تاريخهم.

أما على مستوى الإنتاج، فقد اقترنت أعمالها بمعارض محلية ودولية: مثل مذكرات فنية، إقامة فنية في منزل الفنان كلود مونيه في فرنسا، ومشاركة في مشاريع متعددة.

وعلى المستوى النظري، دورها في الكتابة والتوثيق والتدريس، ما يجعل من وجودها ليس مجرد «فنانة تقدّم لوحات» بل «باحثة ومعلّمة» بامتياز.

أما ما يترقّب منها في الأفق: إقامة مدرسة للفنون، تأليف كتاب شامل عن الفن التشكيلي الإماراتي، وحضور أوسع في المنصات العالمية. تلك الطموحات لا تقلّ شأناً عن إنتاجها الحالي.

لا تغفل علياء أن الطريق ليس سهلاً، وأن الفن ليس مجرد عرض وإعجاب، بل جهد وإنسانية وتحويل. في مجتمع يتغيّر بسرعة، والفنانون يُطلب منهم أن يكونوا انعكاساً للتطور؛ فإنها تواجه تحدّيَين:
الحفاظ على أصالة التجرِبة المحلية وسط الإغراءات العالمية والتجارِية.
ربط الحضور المحلي بانفتاح على العالم، من دون فقدان المرجعية.

وتعبّر عن ذلك حين تقول إن المرأة لا غياب لها في عالم التشكيل، لكن «غيّبوها»، ما يعني أنّها ترى أنّ جزءاً من التحدّي هو التمثيل، وأن الفن ليس أمراً محليّاً أو جنسيّاً فقط، بل إنسانياً وفكرياً.

رؤيتها للمستقبل تشمل: مدرسة للفنون، تأهيل الأجيال، تدوين للفنانات الإماراتيات اللواتي غالباً لم تُكتب قصصهن، وتوسيع نطاق التبادل الثقافي، وإيصال فن الإمارات إلى المزادات والفضاءات العالمية.

تبدو علياء زعل لوتاه كأنها صيرورة خالصة: من طفلة بدأت بوضع ألوانها البنية في لوحة بسيطة، إلى فنانة عرفت كيف تجعل اللون والسياق والذاكرة والمدينة والضوء جميعاً أدوات لحوار بصري عميق. هي لا تحتل مكاناً وسطاً فقط، بل تفتح أبواباً: لأجيال جديدة، وللحوار بين الإمارات والعالم، وللذاكرة التي تحتاج أن تُكتب وتُظهر وتُعرض.

الفن لديها ليس شكلاً أو رسوماً، بل حياةً تُعاش، ومساراً يُبنى، وهو ما يجعل منها واحدة من الوجوه التي لا نقرأها بعدُ بما فيه الكفاية. ومع أن الطريق أمامها طويل؛ فإنّ كل المعلومات والإنجازات والدراسات والطموحات تجعلها في قلب السؤال: كيف يكون الفنُ في الإمارات؟ وكيف يحفر الفنانُ اسم بلده في ذاكرة العالم؟

علياء لا تسعى إلى المجد بالقدر الذي تسعى فيه إلى الحقيقة بالألوان، وإلى أداء الجذر بقدر ما تسعى لأداء الضوء بوعي وجمال.

وبهذا المعنى، ستكون لوحتها القادمة ليست مجرد إضافة إلى المعرض أو اللوفر أو المكتبة، بل فصلًا جديداً في قصة تاريخ الإمارات الفنية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها