الكوميديا الإلهية.. أغنى قصيدة عرفتها البشرية

حـوار مع كارلو أُسولا Carlo Ossola

ترجمة: عبد السلام بنخدة

في بداية القرن الرابع عشر أخرج دانتي أليغييري إلى الوجود عملاً هائلاً ذا طموح لا مثيل له: في الوقت نفسه يصنّف كأطروحة لاهوتية، ومقالة ميتافيزيقية، ومحكي مساري (initiatique)، وقصيدة حب.. الكوميديا الإلهية تتوجه إلى جميع القراء، وتهم مختلف العصور.




لماذا ما تزال الكوميديا الإلهية -هذا العمل القروسطي المنسوج من مرجعيات قديمة ولاهوتية- تعتبر دائماً أثراً لا مناص منه في الأدب؟

بداية؛ سأقتبس عن الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بوخريس لأقول أولاً: إن الأمر من دون شك يتعلق بـ"أغنى قصيدة شعرية عرفتها البشرية". فهو يعتبرها من أوائل المعالم الأدبية للإنسانية: "الكوميديا الإلهية كتاب علينا جميعاً قراءته. إن عدم القيام بذلك هو حرمان ذواتنا من أفضل هبة يمكن أن يقدمها لنا الأدب (سبع ليال). وليس هو الوحيد الذي قال هذا. بل مثله، المرجعيات العظيمة الأخرى للشعر المعاصر كالأمريكيين. ت.س. إليوت وعزرا باوند، أو الروسي أسيب منديلستام، هذه القامات تضعها في طليعة الأعمال الإنسانية. صحيح عمل دانتي هذا يبقى حداثياً للغاية: أنساقه الاستعارية تسمح بقراءة الحاضر، قبل كل شيء، دانتي أكثر من فيرجيل في الإنياذة، أو أوفيد في التحولات يملك عبقرية مزج كل هذه الزمنيات (temporalités)، كل الشخصيات العظيمة للتراث اللاتيني واليوناني، في الصف الأول منها يوجد فيرجيل، أستاذه الذي يعمل كمرشد له خلال مروره بـالجحيم ثم المطهر؛ لكن أيضاً شخصيات عصره: البابوات، الأباطرة، ملوك فرنسا، وحتى جيرانه، وأقرباؤه، كل شعب فلورنسا الذي يحيط به. الكوميديا الإلهية تسجل في "حاضر الحاضر" و"حاضر الماضي"، لكن أيضاً في "حاضر المستقبل"، إذا أخذنا بعين الاعتبار مقولات القديس أغوسطين: هذا هو البعد الأخير للعمل، بمقاطعها التكهنية، كما هو حال كاسييكويدا، سلف دانتي الذي عُثر عليه في الجنة، حينما يتنبأ بمستقبل فلورنسا. الكوميديا الإلهية تعرض إذن تعددية تسمح باحتضان كل الأزمنة، كل الفضاءات، عن طريق خلط الأسطورة، والتاريخ، وكشف المستقبل.


الكوميديا الإلهية هي عمل ضخم، ليس فقط من حيث الحجم -100 قصيدة، زهاء 15000 من الأبيات الشعرية-، لكن أيضاً من حيث تنوع المواضيع المعالجة. كيف أمكن لدانتي أن يراكم هذا المقدار من المعارف الموسوعية؟

تبدو الإجابة بخصوص هذه النقطة صعبة؛ لأننا لا نتوفر على أي أثر تاريخي لدانتي بخصوصها، لم نعثر على وثيقة تؤرخ لميلاده، لقد كان رئيس دير فلورنسا، وقاضياً مُهماً جدّاً، لكنه لم يَثبث أن وضع توقيعاً له على أية وثيقة؛ أخيراً، لا توجد مخطوطة للكوميديا الإلهية موقعة من طرفه، ضمن المخطوطات التي سبق أن تم نقلها من شمال إيطاليا، حيث قضى دانتي بقية حياته منفياً. لكن عمله يشهد بالتأكيد على تكوين كامل للغاية: إن بنية العمل ذاتها الهائلة، المدوخة، تبين على سبيل المثال معارف واسعة في الجغرافيا وعلم الفلك. فرحلة الراوي تجري من خلال تضاريس دقيقة وصارمة: الجحيم هي بئر محفورة في قعر الأرض، في اللحظات الأولى من الخلق، من طرف الشيطان (Lucifer) المطرود من السماوات (les cieux)؛ المَطْهر هو الجبل المشكل كردة فعل على الوجه الآخر للقعر الأرضي، وفي قمته يضع دانتي الجنة الأرضية؛ تبقى السماوات، ودوائرها التسعة المتراكزة التي تحكمها القوى الملائكية (دانتي يتبع هنا المرجعية الروحية الصوفية المسيحية).
لكنه ليس فقط جغرافياً: على مدار العمل، هناك أيضاً كنوز من المعارف وتأملات فلسفية، لاهوتية وسياسية. ناهيك عن الموهبة الشعرية التي تسمح بربط كل هذه السجلات. فدانتي تلقى تعليمه على يد أساتذة من كبار علماء فلورنسا، من شعراء وعلماء بالآداب القديمة، الذي نقلوا إليه الإرث اللاتيني، وأيضاً التراث الملحمي المجلوب من فرنسا؛ بواسطة أحدهم، برونيطو لاتيني، تمكن بدون شك من التعرف على liber de ScalaMachometi، الذي يستحضر رحلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، والذي شكل مصدراً للمقارنة بالنسبة لرحلة الكوميديا الإلهية. في القصيدة الخامسة من [محكي] جهنم، يستحضر أيضاً حكاية لانسولو وكينيافر، المقتسبة من أسطورة الملك أرثير. فهذه الثقافة الشاسعة تعكس استلهاماته المتنوعة. الكوميديا الإلهية تلخص تقريباً كل معارف القرون الوسطى. إن التكوين المتين والعميق لدانتي سمح له بمَشْهدة الإنسانية في جميع مظاهرها، وهو ما جعل من هذا العمل الإبداعي قصيدة الإنسانية، قصيدة "كل شخص" (Everyman)، كل واحد والكل، كما قال عزرا باوند.

منذ القرن الرابع عشر، بعد فترة وجيزة من وفاة دانتي، عرفت الكوميديا الإلهية نجاحاً منقطع النظير في إيطاليا، وليس فقط في الأوساط المستنيرة، ألا يعود ذلك إلى أن هذا العمل مكتوب بــ"الإيطالية"، على أية حال باللهجة التوسكانية لتلك الفترة، وليس باللاتينية؟

بالتأكيد، من خلال اتخاذ هذا الاختيار -مع أننا نجده قد كَتب باللاتينية أعماله النظرية جداً، الموجهة إلى الجمهور العالم. يكون قد قرر مخاطبة أوسع جمهور. وأقل ما يمكننا قوله هو أنه قد ربح رهانه: بتحريض من بوكاتشو الذي قدم أول قراءة عمومية للكوميديا الإلهية، أو Dantis Lectura، خمسون سنة بعد وفاة المؤلف، أصبح دانتي معروفاً في ساحات المدن والقرى. من جهة ثانية، سيبقى هذا التقليد الشفاهي دائماً حياً، كما يؤكد ذلك في السنوات الأخيرة، نجاح القراءات العمومية لدانتي من طرف روبيرطو بينيني في إيطاليا، لكن أيضاً في أمريكا اللاتينية أو حتى في أستراليا.

من الكوميديا الإلهية، الجمهور المعاصر لا يحتفظ مع ذلك قبل كل شيء سوى بالجزء الأول منها المعنون بجهنم. هذا النص الذي يستمر في التأثير على معظم تمثلات الجحيم. كيف يفسر ذلك؟

قبل كل شيء، بدون شك، بالواقعية المدهشة التي يصف بها دانتي العقوبات المخصصة للآثمين، فأجسادهم تُقَدم في وضعيات يمكن القول إنها غير طبيعية، حالات مخيفة، مع رفاهية في تعداد التفاصيل لا مثيل لها. هناك من البشر مَن رأسه مقطوع ويحمله بين يديه، مَن أوصاله مقطعة إلى اثنين، مَن يحيط بهم سرب من الدبابير الذي يلدغهم بلا هوادة، مَن ينغمسون في غلايات كبيرة مليئة بالقطران الملتهب... كل هذه الاختراعات بخصوص الجسد الإنساني لم يسبق استنساخها أبداً بمثل هذا الخيال. وإذا كان دانتي قد استلهم التمثلات المصورة لليوم الأخير، بالفعل العديدة في وقته، إلا أن شعره قد سمح لها بالوصول إلى بُعد جديد تماماً. حتى السينما الحالية، على الرغم من كل التكنولوجيا الموجودة تحت تصرفها، لم تكن قادرة على الوصول إلى غنى تفاصيل جهنم دانتي. لذلك، منطقياً، فالجحيم هو الجزء الأكثر إثارة للخيال في الكتاب. مع المطهر، نحن في سجل مختلف تماماً، نحن وكما عبر بورخيص مستشهداً بـ"شكسبير في (حليب الحنان الإنساني)".

إنه المكان الذي يلتقي فيه الرجال ويتحدثون مع بعضهم البعض. هذا هو المكان الذي يذكر فيه دانتي خلق الروح، روح الإرادة الحرة. أما الجنة فهي بطريقة ما قصيدة الضوء، الذي تسمح لنا -من وجهة نظري- اكتشافات الفيزياء المعاصرة، بخصوص الأمواج والجسيمات، بفهم أفضل لها: الحركة والتأمل يجتمعان فيها.

تنتهي رحلة دانتي في (Empyrée) "أعلى مكان موضوع للآلهة الإغريقية" هل ينبغي أن نرى في الكوميديا الإلهية مجرد كتاب يبحث فقط في خلاص النفس؟

تبقى تأويلات الكوميديا الإلهية جد متنوعة، القراءة الصوفية البحتة كان لها بالطبع دائماً مؤيدون. في رأيي، هي مقيدة بشكل خاص بحقيقة أنه حتى وإن كانت أقرب ما يمكن من سر الثالوث، فدانتي لم يلتزم بها بالكامل أبداً؛ فهو يديم التأمل في ذلك من بعيد، وما يصدمه قبل كل شيء هو، في المركز وجه رجل، وجه المسيح. هذا يُظهر جيداً أن كتاب الكوميديا هو قبل كل شيء ترنيمة للكرامة الإنسانية. هناك أيضاً القراءة الرومانطيقية التي يتناولها بشكل خاص كل من بورخيص وسينيلوتن لــ"السفر نحو بياتريس"، فدانتي بدأ فقط هذه الرحلة من أجل العثور على بياتريس، هذه المرأة التي التقى بها فقط في شوارع فلورنسا، قبل وفاتها المبكرة، لكنه يحبها حباً مطلقاً مُؤَمثلا. والحال أنه، حتى وإن وجدها بالفعل في الجنة، فعليه أن يتركها سريعاً: إن القديس برنار هو الذي يقوده نحو نهاية رحلته تماماً كما أرشده فرجيل [الشاعر] سابقاً عبر جهنم والمطهر. إذا كان الحب حاضراً، فهو في رأيي ليس مركزياً. أخيراً، يمكن قراءة الكوميديا الإلهية كرؤيا حدثت لدانتي، وهو ما يُشَكل في الواقع نوعاً أدبياً كان واسع الانتشار إلى حد ما في القرون الوسطى؛ لكن هذا التأويل لا يفسر الخاصية الفلسفية لهذا العمل [الأدبي]...

 أخيراً؛ أعتقد أنه من الأمثل دمج كل هذه القراءات: الكوميديا الإلهية هي على حد سواء عمل لاهوتي، فلسفي وشعري. فهي متعددة، بالضبط لأنها تقوم على توتر دائم بين وعْيين متناقضين، الوعي بحدود الشرط الإنساني، والوعي بالكرامة الإنسانية. بمعنى ما، فدانتي يُبشر بباسكال [الفيلسوف] باستحضاره رجلاً موضوعاً على حافة بين هاويتين، لا وحشاً ولا ملاكاً. لكن بالنسبة لدانتي، قصيدته هي "تقدمْ وأنتَ تُغني" (Cantandovarca)؛ لأن الإنسان دائماً هو أعظم من الإنسان. إنها شهادة ميلاد الإنْسِية.


المرجع SOURCE
D
ivine comédie (Aux sources de l’humanisime), Entretien avec Carlo Ossala (Philologue et spécialiste de littérature italienne-Prof. au collège de France
le Nouvel observateur(Hors-série), N° 82, janvier/février 2013, p42-p45, Propos recueillis par C.Brun et Ch. Gio

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها