رحلات غيَّرت مجرى التاريخ

ترجمة: محمد زين العابدين


هذا المقال يلقي الضوء على أهم الرحلات الاستكشافية، التي غيَّرت مجرى التاريخ البشري، وساهمت في تقدم الإنسانية، ونمو المجتمعات البشرية؛ وسواء كان الدافع وراء تلك الرحلات، هو المجد أو الجشع، أو العلم؛ فإن المقال يرصد أسرار وخبايا أربع رحلات، كانت فارقة في تاريخ الإنسانية.

 


 

جيمس كوك واكتشاف المحيط الهادي (1768-1780)

كان لرحلة جيمس كوك الأولى، في الفترة من 1768 إلى 1771، على متن السفينة (إنديفور) هدفاً علمياً أساسياً؛ وهو مراقبة عبور كوكب الزهرة من على جزيرة (تاهيتي)، لكن الهدف الثانوي كان العثور على "القارة الجنوبية العظيمة"؛ وهي الأرض الأسترالية المجهولة. وكان من المعتقد على نطاقٍ واسع، أن هناك كتلة أرضية جنوبية ضخمة، تُوازِي الكتلة الأوراسية في نصف الكرة الشمالي. وكان على متن القارب الذي استخدم في الرحلة، عالم النبات (جوزيف بانكس)، وعالم الفلك (تشارلز جرين)، بالإضافة إلى مساعدين علميين وفنانين. وبعد إثبات عدم وجود هذه القارة الجنوبية، أبحر كوك إلى نيوزيلندا، وقام مع فريقه برسم خرائط لأكثر من 5000 ميل من الخط الساحلي.

وخلال الرحلات اللاحقة، قام برسم خرائط لجزيرة تاهيتي، وجزيرة (إيستر)، وجزر (ماركيساس)، و(تونجا)، و(نيو هبريدس)، بدقة شديدة، لدرجة أنه تم الاعتماد على معلوماته منذ 50 عاماً. وقد استفاد (كوك)، من أحدث ما توصل إليه الفهم العلمي وقتها، من (الكرونومتر)، الذي يمكنه تحديد خط الطول بدقة، إلى جهاز تقطير المياه العذبة.

إن فرض التهوية الجيدة في أماكن عمل الطاقم، واتباع نظام غذائي جيد، يشمل حبوب نبات الرشاد، ومخلل الملفوف ومستخلص البرتقال، نجح في منع الوفيات الناجمة عن مرض الإسقربوط لدى أفراد طاقم الرحلة؛ والذي كان في السابق آفة البحارة.

تم جمع عدد لا يحصى من النماذج والعينات، بالإضافة إلى الرسوم التوضيحية للنباتت والحيوانات التي صادفتهم رؤيتها، وأنتج فنان الرحلة (سيدني باركنسون)، أول تصوير أوروبي للكنغر.

وقد مهدت رحلات (جيمس كوك) الطريق، للاهتمام الشديد في القرن التالي لإنجازها، بعلم الأعراق والأنثروبولوجيا. وكما هو موضح في معرض رحلات (جيمس كوك) بالمكتبة البريطانية، لا تزال هناك نتائج هامة للرحلات، على الأراضي التي تمت زيارتها.

وبالرغم من كونهم أكثر إنسانية واعتدالًا من أسلافهم، إلا أن رجال (كوك)، يبقون في الأساس متسللين مسلحين، واشتبكوا أحياناً مع الأشخاص الذين واجهوهم. ولكن في النهاية، كان هناك المزيد من التبادل الحقيقي للمعلومات والأفكار، وكذلك المواد المادية، بين رجال الحملة الاستكشافية، والسكان الأصليين. وقد سافر الزعيم النيوزيلندي الماوري (هونجي هيكا) إلى إنجلترا عام 1820؛ حيث سعى للقاء الملك، وابتكر قاموساً لشعب الماوري. وفي الوقت نفسه، يمكن إدراج الأسلحة النارية والكحول، والأمراض التناسلية في قائمة ما جلبهُ الأوروبيون -ومن تبعهم من صائدي الحيتان والفقمات- إلى الجزر التي حطوا رحالهم فيها.
 

داروين وجزر جالاباجوس (1831)

قامت سفينة (بيجل) (HMS Beagle) بثلاث رحلات إلى جنوب أمريكا الجنوبية، بغرض إعداد خرائط بحرية دقيقة. وانضم إلى طاقمها "الراكب النبيل" تشارلز داروين، الذي كان وقتها حديث التّخرج من الجامعة؛ حيث تمت دعوته للالتحاق بالرحلات، لخبرته في مجال الجيولوجيا. وهذه الرحلات التي كان من المفترض أن تستمر عامين، لتصبح خمس سنوات تقريباً، عزّزت من سمعته كجيولوجي وجامع للحفريات. كما أصبحت هذه الرحلات أساساً لنظرياته، التي غيرت الرؤية العالمية، حول التطور والانتخاب الطبيعي. قام (داروين) بجمع النباتات والحيوانات والحفريات، وتدوين ملاحظات غزيرة حول الكائنات الغريبة، وعن النباتات والحيوانات التي واجهها في مشاهداته.

وكان من المهم بشكل خاص بالنسبة لعمله، في بلورة رؤيته لنظريته حول التطور والانتخاب الطبيعي، التباين الذي لاحظه في العصافير التي تم رصدها في جزر (جالاباغوس)، قبالة ساحل الإكوادور؛ ففيما يبدو أن الطيور في كل جزيرة من هذه الجزر، كانت تنحدر من نفس السلالة، ولكنها كانت مختلفة عن بعضها قليلاً.

وعلى الرغم من أن نشر يومياته وملاحظاته، والمعروفة الآن باسم (رحلة البيجل)، قد أسس لشهرة داروين ككاتب؛ إلا أن العمل الذي اشتهر به أكثر من غيره، كان كتابه المثير للجدل "أصل الأنواع"، والذي لم يتم إصداره حتى عام 1859.

وقد طرح داروين في الكتاب رؤيته حول التطور؛ حيث أشار إلى أن التطور يحدث تدريجياً، على مدى آلاف السنين، أما بقاء النوع فيتحدد من خلال قدرته على التكيف مع البيئة، كما حدث بالنسبة لعصافير جزر (جالاباجوس). وقد وصف (داروين) الوقت الذي قضاه على متن السفينة (بيجل)، بأنه "الحدث الأكثر أهمية إلى حدٍ بعيد في حياته، والذي حدَّدَ مسيرته المهنية بأكملها". وترتكز البيولوجيا التطورية اليوم على هذا العمل.
 

الكابتن سكوت و(رولد أموندسن)، والقطب الجنوبي (1911-1912)

كان النرويجي (رولد أموندسن) هو أول من وصل إلى القطب الجنوبي، قبل 33 يوماً فقط، من وصول بعثة (الكابتن سكوت) البريطانية إلى القطب الجنوبي. وقد توفي فريق (سكوت) بشكلٍ مأساويٍ، أثناء محاولتهم العودة. لم يكن المقصود أبداً أن يكون هناك سباق بين الرجلين؛ فقد خطط كل واحد منهما بشكلٍ مستقل لرحلته الاستكشافية. كانت رحلة (سكوت) الاستكشافية مرتكزة على الأهداف العلمية، ويُقال إنه استمر في جمع العينات من القطب الجنوبي، حتى بعد سماعه أقاويل عن احتمال تعرضه للهلاك هناك.

وقد سجَّلَ فريق (سكوت) البيانات المغناطيسية، وبيانات الأرصاد الجوية، بالإضافة إلى معلومات حول الحياة البرية في القطب الجنوبي، مثل طيور البطريق، والحيتان القاتلة. وكانت رحلة (سكوت) وفريقه أول رحلة استكشافية للقطب الجنوبي، تستخدم فيها الكاميرات لتسجيل ورصد مشاهدات الفريق خلال الرحلة. ومن بين آلاف العينات التي تم جمعها، من الحيوانات والأسماك، والصخور وبيض البطريق الإمبراطوري، كانت هناك عينات دالة على تغير مناخ القارة القطبية الجنوبية بمرور الوقت؛ وهي البقايا المتحجرة لنبات السرخس اللساني الأوراق، المعروف باسم (الجلوسوبتيريس)، وهو نبات منقرض، ينتمي لرتبة السرخسيات، نما منذ ملايين السنين في المناخات الدافئة.

كما أثبتت استكشافات (سكوت) وفريقه أيضاً، أن القارات الجنوبية كانت مرتبطة ذات يوم ككتلة أرضية واحدة؛ وهو ما يُعرف الآن باسم "الصفائح التكتونية". ويقال إنه بينما أظهر (سكوت)، نطاق ما يمكن القيام به في مثل هذه الرحلات الاستكشافية، أظهر (أموندسن)، أفضل طريقة للقيام بذلك.

أثبت (أموندسن) مزايا التخطيط التفصيلي للرحلة، وطريقة استخدام الزلاجات التي تجرها الكلاب (بدلاً من المهور التي كان يستخدمها البريطانيون)؛ والتي تم استخدامها في الاستكشافات العلمية اللاحقة، في القطب الجنوبي. وقد عاد (أموندسن) إلى الديار منتصراً، لكن سمعته تدهورت عندما تم اكتشاف مصير (سكوت) ورفاقه. وبدأت الدعاية لـ(سكوت) كبطل، وساعد فائض الأموال التي تم جمعها، من خلال نداء عام لمساعدة عائلات فريقه المتضررة من فقدان ذويهم، في تأسيس معهد "سكوت لأبحاث المناطق القطبية" في كامبريدج؛ والذي ما زال يواصل لعِبَ دورٍ مهم، في دراسة آثار تغير المناخ.

وفي القارة القطبية الجنوبية، يتم اليوم دفع خطى التقدم العلمي، من خلال محطة "أموندسن-سكوت"، بالقطب الجنوبي، التابعة للمؤسسة الوطنية للعلوم، والمعتمدة بشكل مشترك.
 

رحلة سفينة الفضاء (أبوللو-8) (1968)

مثل العديد من الرحلات، أعطتنا رحلة سفينة (أبولو-8) الفضائية، صورة جديدة لكوكبنا. لكن هذه المرة تم التقاطها من الفضاء. منذ أكثر من نصف قرن، وأثناء دورانه حول القمر، قام رائد الفضاء (بيل أندرس) بتصوير "سطوع الأرض" بضوء الشمس؛ حيث تظهر أرضنا وهي تخرج من خلف سطح القمر. وعلى الرغم من أن المهمة كانت مدفوعة بالتنافس السياسي، في عصر حروب الفضاء، بين روسيا السوفييتية والولايات المتحدة؛ إلا أن تأثيرها -كما لاحظ (أندرس) لاحقاً- كان "أننا اكتشفنا الأرض". لعبت الصورة التي التقطها للكوكب، والتي تكشف عن زرقة المحيطات، وتلتقط مكان الأرض الضئيل داخل الكون، دوراً مهماً في ولادة الحركة البيئية؛ صورة كوكبٍ واحد، بلا حدودٍ سياسيةٍ مرئيةٍ عليه. وكما كتب الشاعر (أرشيبالد ماكليش)، في صحيفة (نيويورك تايمز)؛ فقد كشفت رحلة "أبوللو-8" لنا "أننا إخوة، يعرفون الآن أنهم إخوة حقا، ويتحكمون في مصير الكوكب معا". وقد تأسست جمعية "أصدقاء الأرض" في العام التالي، وتحققت خلال تلك الفترة أيضاً بعض القفزات التكنولوجية العملاقة للبشرية؛ وعلى سبيل المثال، كانت رحلة (أبولو-8) بحاجة إلى جهاز حاسب آلي صغير، وخفيف الوزن على متنها، في وقتٍ كانت فيه الحواسيب لا تزال تشغل غرفاً بأكملها.

وقد كثّفت وكالة (ناسا) للفضاء من استثماراتها، لإنجاز اختراعٍ وليد وقتها؛ وهو الدائرة المتكاملة لأشباه الموصلات. وقد ساعد هذا في البث التليفزيوني لرحلة سفينة الفضاء (أبولو-8)، ليشاهدها الملايين حول العالم في عام 1968، فيما اعتبر أكبر جمهور من مشاهدي التلفاز، يتابع حدثاً واحداً.

وفي ذلك العام الذي كان مكتظاً بالصراعات والاحتجاجات، توحدَ الجمهور العالمي أمام هذا الحدث التاريخي، ليشهد مثالاً لكسر الحدود أمام الإنجازات البشرية.
 



المصدر

مجلة: The Simple Things magazine الإنجليزية، عدد يوليو: 2018.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها