موتُ اللُّغاتِ وحياتُها!

قراءة في كتاب «نشوء اللغة العربية ونموُّها واكتهالها»

الكتاني حميد


يأتي كتاب العالم اللغوي أنستاس ماري الكرملي «نشوء اللغة العربية ونموُّها واكتهالها» في سياق مشروع علمي، تمثلَ في الدراسات اللسانية التي انطلقت منذ بدايات القرن العشرين، التي ركزت على دراسة متن اللغة العربية من حيث الوَضع والمقارنة. ويرجع اختيارنا لهذا الكتاب إلى سببين اثنين؛ أولهما يتمثل أساساً في موضوعه الأصيل والمتجدد، والمرتبط بحياة اللغة العربية منذ نشأتها ومروراً بتطورها وبعصرها الذهبي، ومن هنا يكتسي هذا الكتاب أهمية بالغة في حقل الدراسات اللغوية عامة، والدراسات الإيتيمولوجية والمقارنة بشكل خاص. أما السبب الثاني فيتعلق بالكتاب نفسه، فنظراً لأهمية موضوعه، تم طبع هذه الكتاب مرات عديدة، أولها طبعة القاهرة سنة 1939م، ثم طبع مرة ثانية في القاهرة نفسها سنة 1953م، ثم طُبعت بعض فصوله محققة ضمن سلسلة دراسات معجمية مقارنة في أعمال جمعية اللسانيين في المغرب سنة 1998م، ثم نشرتهُ دار الوراق للنشر في لبنان سنة 2019م، وتعدُّ طبعة دار الوراق أجود الطبعات من حيث التحقيق والتبويب، وهي المعتمدة في إنجاز هذه المراجعة.

 

في موضوعات الكتاب

يقعُ كتاب «نشوء اللغة العربية ونموُّها واكتهالها» في مائتين وست وخمسين صفحة، من الحجم المتوسط، مُوزّعة على تسعة وثلاثين فصلاً يضيق المقام لذكرها كاملة هنا، إضافة إلى مقدّمة بعنوان «كلمة لا بدّ منها» [ص: 9]، وخاتمة قصيرة [ص: 256]، يمكن تقسيم مواضيع الكتاب الكثيرة إلى ثلاثة موضوعات كبرى تتشكل منها نواة الكتاب، وهي: تأصيل اللغة العربية من حيث المفردات، ثم مقارنة اللغة العربية باللغات الأخرى، والانتصار إلى أصالة العربية وعبقريتها الصرفية والمعجمية والتركيبية، ثم موضوع موت اللغات والعوامل الكامنة وراء موت بعض مفردات اللغة العربية.

يبرر المؤلف أنستاس ماري الكرملي اختياره للبحث في المواضيع المُشار إليها أعلاه برغبته العلمية في الدفاع عن اللسان العربي، وكشف أسراره وخباياه، يقول: «هذا بحث لغوي جريت فيه على الأسلوب الحديث تمحيصاً للحقيقة، ودفاعاً عن اللغة المُضرية، وإيضاحاً لما فيها من دقائق الأوضاع، وخفايا الأسرار» [ص: 11]، كما يُحدد هدفه من هذا البحث في «خدمة العربية، وحمل أبنائها على السير في هذا النهج، ليعلم غيرُهم أن لسان العرب فوق كل لسان» [ص: 11].

في منهج الكتاب

انطلاقاً من أن كل بحث يطمح إلى حيازة نسبة كبيرة من العلمية، كان لا بُدّ من تحديد الإطار المنهجي الذي يروم المؤلف تأسيس تحليله عليه، فكانت اللسانيات التأصيلية «الإيتيمولوجية» واللسانيات المُقارنة اختياراً منهجياً ملائماً يضمنُ التكامل والتجانس المَعْرفيَيْنِ بين مواضيع فصول الكتاب، من جهة. ومن جهة أخرى، يَقصد ملامسة جوهر اللغة العربية في عمقها الوَضْعي والصرفي والمعجمي والتركيبي، بعيداً عن الإسقاطات المفاهيمية والتحيُزيّة التي تنمّطُ اللغة العربية وتجعلها محض قوالب وأشكال. وقد بيّنَ المؤلف الطريقة التي اتبعها في سبيل تحقيق غايته العلمية، فقال: «عقدت هذا الكتاب على تسعة وثلاثين فصلاً، وختمته بموجزٍ، وقد توخيتُ ألا تكون هذه الفصول متناسقة في الطول أو القِصر، ليشعر القارئ بأن ما كان منها قصيراً يجد مثل موضوعه شيئاً كُثَاراً في تصانيف النحاة، وأما الفصول الطوال فهي من وضعي، فلا يصيب القارئ ما يُضارعها في أسفار القابضين على اليراع، فأشبعت البحث قولاً وإن لم أقل كل ما كنت أودُّ أن أقوله» [ص: 9].

في أهم أطروحات الكتاب

إن قارئ كتاب «نشوء اللغة العربية ونموُّها واكتهالها» يقف على مدى مطابقة الإطار المنهجي لمواضيع الفصول، وإنْ لم يُصرّح المؤلف بهذا الأمر، فنلاحظ أن الفصول الممتدة من الفصل الثاني إلى الفصل الثامن عشر، تُعالج موضوع تأصيل اللغة العربية، والنظر إليها من حيث الوضع الأول، وهذا هو الخيط الناظم لها، وقد عبر المؤلف عن رأيه في نشأة العربية، فقال: «على أننا اتبعنا الرأي الأول» [ص: 13]. والرأي الذي يقول به المؤلف يرى أن الكلم وضع في الأصل على هجاء واحد: متحرك فساكن، وعلى هذا النحو يمضي المؤلف في تقرير مسائل وضع اللغة العربية وفق تصور تأصيلي.

أما الفصول الممتدة من الفصل التاسع عشر إلى الفصل الثلاثين، فقد عمدَ المؤلف فيها إلى المقارنة بين خصائص اللغة العربية صرفياً ومعجمياً وتركيبياً، وخصائص اللغات الأخرى، من قبيل اليونانية والفارسية واللاتينية..، وخَلُصَ من خلال هذه المقارنة إلى قاعدة مفادها «أن كل لفظة يونانية أو لاتينية ذات هجاء واحد أو هجاءين فلا بد من أن يكون لها مقابل في المضَرِية» [ص: 90]. ويؤكد المؤلف موقفه بكونه يَتَّكِئُ على منهج «الاستقراء» الذي أوصله إلى هذه القاعدة.

وأما الفصول المتبقية والممتدة من الفصل الحادي والثلاثين إلى الفصل التاسع والثلاثين، فقد خصَّها المؤلف بعرض أطروحة موت اللغات وحياتها، ويذهب إلى أن اللغات تتعرض للموت، إذا عرضت لها أسباب الموت، كما أنها تحيى وتعيش وتتطور إذا تضافرت لها أسباب الحياة، غير أنه يركز على عوامل موت اللغات واندثارها، وتلك العوامل هي «عدم تدوين اللغة، أو موت متكلميها، أو عدم مناسبتها للتغيرات الطارئة في الأحوال والمعيشة» [ص: 165]. ويُقدم أمثلة كثيرة من مفردات اللغة العربية التي ماتت بفعل هذه العوامل.
 

على سبيل الختام

حاصل القول، لقد سعينا في هذه المراجعة المُكثَّفة إلى بيان أهمية كتاب «نشوء اللغة العربية ونموّها واكتهالها» في حقل الدراسات اللغوية العربية التأصيلية والمُقارنة، وأبرزنا ما تضمنَهُ الكتاب من فصول، ثم عرضنا أهم أطروحاته في مسألة تأصيل اللغة العربية ومقارنتها بنظيراتها من اللغات الأخرى. وتبقى هذه المراجعة مجرد اقتراب أولي لهذا المرجع المهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها