الثنائية اللغوية والاحتياطي المعرفي

استكشاف مزايا التعددية اللغوية

ترجمة: د. أحمد إسماعيل عبد الكريم

الثنائية اللغوية، أو القدرة على إجادة لغتين أو أكثر، باتت ذات أهمية متزايدة في عالم اليوم المعولم. فهي لا تسهل التواصل والتفاهم الثقافي بين الأشخاص من مختلف اللغات والخلفيات فحسب، بل لقد ثبت أيضاً أن لها فوائد معرفية يمكن أن تساعد في تعزيز الشيخوخة الصحية. وقد أظهرت الأبحاث أن ثنائية اللغة قد تؤدي دوراً رئيساً في تعزيز الاحتياط المعرفي، والذي يشير إلى قدرة الدماغ على الحفاظ على وظائفه وهيكله، على الرغم من التغيرات والأمراض المرتبطة بالعمر. وهذا الأمر على قدر كبير من الأهمية، ولاسيما مع استمرار البشرية على مستوى العالم في التقدم في السن؛ حيث إنَّه من المتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى ملياري نسمة فوق سن الستين بحلول العام 2050م. ومع التقدم في العمر، يزداد خطر التدهور المعرفي والخَرَف، غير أنَّ الدراسات الحديثة أشارت إلى أنَّ ثنائية اللغة قد تساعد في تأخير ظهور هذه الحالات.

قد تكون فكرة أنَّ الثنائية اللغوية تقوم بدور مهم في الوقاية من التدهور المعرفي ليست بالأمر الجديد، ففي الواقع. أشارت بعض الدراسات التي تعود إلى أوائل الستينيات إلى أن الثنائية اللغوية قد يكون لها فوائد معرفية، خاصة فيما يتعلق بالوظائف التنفيذية، وهي مجموعة من العمليات العقلية، التي تمكننا من التخطيط والتركيز والتكيف مع المواقف المتغيرة. ومع ذلك، فإنه في السنوات الأخيرة فقط، بدأ الباحثون في استكشاف العلاقة المحتملة، بين الثنائية اللغوية والاحتياط المعرفي بشكل أعمق.

تحليل مفصل للفوائد المعرفية للتعدد اللغوي:

من الفوائد المعرفية الرئيسة للثنائية اللغوية، تعزيز الوظائف التنفيذية. في هذا الصدد، تبين أنَّ ثنائيي اللغة يتفوقون على أحاديي اللغة في المهام اللغوية وغير اللغوية، التي تستند إلى الجوانب الأساسية لنظام الوظائف التنفيذية. تشمل هذه الجوانب مثبطات التداخل؛ أي قمع المعلومات غير ذات الصلة أو المتضاربة، أو المرونة المعرفية؛ أي تحويل الانتباه أو الحالة الذهنية نتيجة لتغير في السياق. لدى كبار السن الأصحاء، تكون الشيخوخة المعرفية أكثر وضوحًا في المهام، التي تنطوي على وظائف تنفيذية، ويتفوق ثنائيو اللغة مرة أخرى على أحاديي اللغة في العديد من المهام التي تستند إلى هذه الوظائف. وبالتالي، تدعم هذه الدراسات فكرة أنَّ تبديلاً مستمراً بين نظامين لغويين يؤدي إلى تعزيز الوظائف التنفيذية، مما يسهم بدوره في الحفاظ على الاحتياطي المعرفي.

من الطرائق الأخرى، التي قد تعزز بها الثنائية اللغوية الاحتياطي المعرفي، هي من خلال مفهوم المرونة العصبية. الدماغ عضو معقد وديناميكي قادر على التغيير والتكيف استجابةً للخبرات والعوامل البيئية. يُعتقد أنَّ تعلم لغة ثانية واستخدامها يحفزان الدماغ بطرائق قد تعزز المرونة العصبية، وتعزز الاحتياطي المعرفي. وقد تبين أنَّ الثنائية اللغوية تعزز المرونة العصبية. في الواقع، وجدت بعض الدراسات التي تستخدم التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن الأفراد ثنائيي اللغة أظهروا زيادة في تنشيط مناطق الدماغ المرتبطة بالتحكم المعرفي ومعالجة اللغة. ومن المعروف أيضًا أن ثنائيي اللغة لديهم زيادة في كثافة المادة الرمادية؛ أي النسيج الذي يحتوي على الخلايا والمشابك العصبيتين، مقارنة بأحاديي اللغة. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع ثنائيو اللغة بسلامة أكبر للمادة البيضاء، أي الألياف التي تربط بين أجزاء مختلفة من المادة الرمادية. يُقترح أن الدماغ ثنائي اللغة، نظرًا لاحتياطياته العصبية الأعلى، ويتمتع بقدرة أكبر على تحمل الضرر العصبي مقارنة بالدماغ أحادي اللغة. فضلًا عن ذلك، يُظهر الأفراد ثنائيو اللغة تحسينًا في التعويض عن أي فقدان في البنية العصبية من خلال زيادة الاتصال بين مناطق الدماغ المختلفة. وهذا يشير إلى أن الثنائية اللغوية قد تؤدي إلى إعادة توصيل الشبكات العصبية، مما يحسِّن الأداء المعرفي ويدعم احتياطياته.

الثنائية اللغوية.. جسر يتصدى للتحديات المجتمعية المعاصرة:

إنَّ فهم فوائد الثنائية اللغوية للاحتياطي المعرفي له آثار أوسع على المجتمع. مع تزايد انتشار التعددية اللغوية، يمكن أن يكون لتعزيز التعليم الثنائي اللغة وبرامج تعلم اللغات فوائد بعيدة المدى، على الصحة المعرفية للأفراد. يمكن للمعنيين بالرعاية الصحية التعرف على الثنائية اللغوية، كعامل وقائي وتضمين أنشطة لغوية في برامج إعادة التأهيل المعرفي، للأفراد المعرضين لخطر التدهور المعرفي. يمكن للمعلمين تطوير فصول دراسية شاملة ومتعددة اللغات؛ تحتفي بالتنوع اللغوي، وتوفر فرصًا لجميع الطلاب، ليصبحوا ثنائيي اللغة. فضلاً عن ذلك، يعد تعدد اللغات واعدًا كمدخل محتمل للأفراد المصابين بأمراض عصبية تنكسية، مثل مرض الزهايمر. من خلال الانخراط في تعلم اللغات أو الحفاظ على الثنائية اللغوية، قد يتمكن الأفراد من تأخير ظهور الأعراض المعرفية لمدة تصل إلى خمس سنوات، مما يعزز احتياطيهم المعرفي. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين نوعية الحياة للأفراد، بشكل كبير وتقليص العبء على أنظمة الرعاية الصحية. ومع ذلك، من المهم الاعتراف بأن الثنائية اللغوية وحدها، لا يمكن أن تمنع أو تعالج الأمراض العصبية التنكسية. يجب أن يُنظر إلى الثنائية اللغوية، على أنها جزء واحد من الأحجية، في تعزيز الصحة المعرفية والمرونة. إن الحفاظ على نمط حياة صحي شامل، بما في ذلك التمارين الرياضية واتباع نظام غذائي متوازن والمشاركة الاجتماعية، أمر ضروري لتحقيق الأداء المعرفي الأمثل والرفاهية العامة.

بشكل عام، توفر أحدث الأبحاث أدلة قوية على أنَّ الثنائية اللغوية، تنهض بدورٍ بارز ومهم في تعزيز الاحتياطي المعرفي، وتحسين القدرات المعرفية طوال العمر. كما تقدم مجموعة من المزايا المعرفية، بما في ذلك تحسين الوظائف التنفيذية، والتحكم الانتباه والذاكرة والمرونة العصبية. إنَّ احتضان الثنائية اللغوية لا يفيد الأفراد فحسب، بل يغني المجتمعات أيضًا من خلال تعزيز التفاهم الثقافي والتواصل والتنوع. بينما نسعى إلى إطلاق العنان لإمكانات الدماغ البشري، وتعزيز الشيخوخة الصحية، تبرز الثنائية اللغوية كأداة قوية. من خلال الاستثمار في التعليم الثنائي اللغة، وبرامج تعلم اللغات والسياسات اللغوية الشاملة، يمكننا تمكين الأفراد من احتضان إمكاناتهم اللغوية، وتنمية الاحتياطي المعرفي. فلنعترف بالفوائد المعرفية للثنائية اللغوية ونحتفى بها، ونستغل إمكاناتها، ونخلق مستقبلاً يتماشى فيه التنوع اللغوي بجانب الرفاهية المعرفية.

***

عن المقال الأصلي:
◅ "باتريشيا فوينتي غارسيا وفيكتوريا كانو سانشيز: باحثتان ما بعد الدكتوراه في جامعة الباسك، قسم اللغويات والدراسات الباسكية (UPV/EHU)، وعضوان في مجموعة أبحاث العقل الثنائي اللغة (Gogo Elebiduna)."
◅ العنوان الأصلي للمقال: Bilingualism and cognitive reserve: unlocking the benefits of multilingualism
◅ نُشر في موقع: mappingignorance في 29 مايو 2023م.
رابط المقال الأصلي: https://mappingignorance.org/2023/05/29/bilingualism-and-cognitive-reserve-unlocking-the-benefits-of-multilingualism
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها