نسعى، في هذا المقال، إلى بيان العلاقة بين السّرديات البنيوية (La narratologie structuraliste) والسّرديات ما بعد البنيوية (La narratologie post – structuraliste)، وهي علاقة تنزع، في آن واحد، نحو التّجاوُز والتّخطّي والتّحوُّل، وهي معانٍ توحي إليها السّابقة "ما بعد" (Post) التي تمثِّل حدّاً بين علميْن سرديّيْن اثنيْن يُفترَض أنّهما مختلفان، والتّكامُل والتّضافُر والتّآلُف، وهي معانٍ تعبِّر عن نشدان الكمال والتّمام والوَحدة بين سردياتٍ التفتت، ردحا من الزّمن، إلى سؤال الماهية (النّسق) وأخرى تصبو إلى العناية بسؤال الغائية (السّياق).
إنّ السّرديات البنيوية هي مدماك السّرديات ما بعد البنيوية؛ إذْ هي التي تمدّها بالمصطلحات – الأدوات الإجرائية التي تسعفها في تحليل المحكيات (Les récits)، مثل الرّاوي والزّمن والتّبئير، وهي، وإنْ أُعِيبَ عليها نزعتها الآنية من حيث اهتمامُها ببنية المحكي الأدبي ومُركِّباته المحايثة، قد انفتحت على بعض المحكيات غير الأدبية، مثل المحكي الفيلمي والمحكي الإشهاري، وتأثّرت، مثلما يومئ إليه جيرالد برنس (Gerald Prince)، بمفاهيم ومقولات تنتسب إلى معارف أخرى، وهي، من ثمّ، لا تدين للسّرديات ما بعد البنيوية التي ينادي دعاتُها بأن يستوعب الدّرس السّرداني (Narratologique) المعاصِر المحكيات الأدبية (الأسطورة، والملحمة، والحكاية، والمقامة، والنّادرة، والقصّة، والقصّة القصيرة جدّاً، والرّواية، والمسرحية)، وغير الأدبية (المحكي الواصف للتّاريخ (Le récit historiographique)، والمحكي المصوَّر (Le récit pictural)، والمحكي القانوني...) معاً، وأن يوظِّف تصوُّرات تنتسب إلى علوم ونظريات أخرى من أجل تفسير البعد المعرفي ذي المظهر التّاريخي والتّطوُّري الذي تحمله المحكيات، سوى بتوسيع مجال الدّراسة ليشمل المحكيات جميعها دون استثناء وطرح الأسئلة كلّها والانفتاح، أكثر، على مختلف العلوم والنّظريات. لذلك، نحسَب أنّ العلاقة بين السّرديات البنيوية والسّرديات ما بعد البنيوية تأخذ مظهريْن اثنيْن؛ مظهر التّجاوُز، وهو أمر بدهي، بالنّظر إلى أنّ كلّ علم أو منهج أو مدرسة أو نظرية متأخِّرة هي محاوَلة لاستدراك ما أغفله أو تغافل عنه علم أو منهج أو مدرسة أو نظرية متقدِّمة، ومظهر التّكامُل، ذلك أنّ العلميْن يُعنيان، معاً، بموضوع واحد هو المحكي، سواء أكان أدبياً أم غير أدبي، ولغوياً أم غير لغوي.
1 – السّرديات ما بعد البنيوية تجاوُزٌ للسّرديات البنيوية:
السّرديات مصطلح حديث النّشأة نسبياً؛ إذْ يعود تاريخ وضْعه إلى سنة 1969، حين اضطلع تزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov)، في كتابه "نحو الديكاميرون" (Grammaire du Décaméron)، باقتراح هذه المفردة الخاصّة التي تنصرف إلى الدّلالة على العلم الذي يدرس السّرد (بوصفه جنساً أدبياً، وليس طريقة في إيراد الحكاية) أو المحكي. والسّرديات، بوصفها علماً جامعاً للدّراسات السّردانية كلّها التي تنحو نحوَ العلموية (Le scientisme)، بنت "سؤدُدَها" على مقارَبة المحكيات الأدبية، من حكاية (التّحليل المورفولوجي للحكاية عند فلاديمير بروب)، وقصّة (التّحليل السّيميائي لقصّة "صديقان" لغي دو موباسان عند ألجيرداس جوليان غريماس)، ورواية (التّحليل النّصي لرواية "بحثا عن الزّمن المفقود" لمارسيل بروست عند جيرار جينيت)، معتبِرةً النّموذج السّردي القائم في خطاب المحكي مشاكِلا للنّموذج اللّساني الماثل في الجملة التي شكّلت مدار اهتمام علماء اللّسان البنيويّين. يقول رولان بارت (Roland Barthes): "إنّ لسانيات الخطاب الجديدة لم تتطوّر بعد، غير أنّ اللّسانيين أنفسهم يسلّمون بها على الأقلّ. وليس هذا الأمر من دون دلالة؛ فبالرّغم من أنّ اللّسانيات تؤلِّف موضوعاً مستقلاً، إلّا أنّه ينبغي دراسة الخطاب انطلاقاً منها. إذا كان ينبغي تقديم فرضية عمل لتحليلٍ تكون مهمّته كبيرة ومواده لا حصر لها، فمن الحصافة التّسليم بالعلاقة التّماثُلية بين الجملة والخطاب، من حيث إنّ التّنظيم الشّكلي نفسه ينظّم، على ما يبدو، كل الأنساق السّيميائية مهما اختلفت ماهياتها وأبعادها: سيغدو الخطاب "جملة" كبيرة (حيث لا تكون وحداتها، بالضّرورة، جملا)، تماماً مثلما ستغدو الجملة، في خضوعها لخصائص معيَّنة، "خطابا" صغيرا"1.
وقد أومأ بعض علماء السّرد البنيويّين أنفسهم إلى الخطر الذي قد ينجم عن الانغلاق على فكرة النّسق والبنية والنّظام والانكفاء عن الواقع والمجتمع والتّاريخ؛ فقد انتبه تزفيتان تودوروف، باكرًا، إلى أنّ الغاية السّامية من تحليل النّص هي استيعاب معناه الذي لن يتهيّأ سوى بالجمْع بين وصْف شكله وتفسير سياقه، وأنّ الاشتغال الأوّل؛ أيْ الوصْف الذي يفضي إلى صياغة النّموذج (وذلك من أساسيات التّحليل البنيوي عبد بعض علماء السّرد البنيويّين على الأقلّ؛ فهو عادة ما يستخلص نتائجه من دراسة مدوَّنة ما قد تضمّ نصّاً واحداً، وهو ما يحدث غالباً، أو عدّة نصوص، وهو المبتغى، ويعمل على تعميمها على نصوص أخرى تنتسب إلى النّوع السّردي ذاته) هو تتمّة للاشتغال الثّاني الذي يرمي إلى شرح بواعث النّص ومقاصده. يقول تزفيتان تودوروف في كتابه (الأدب في خطر): "التّجديدات التي حملتها المقارَبة البنيوية، في العقود الماضية، مُرحَّبٌ بها، شرط احتفاظها بوظيفة الأداة هذه، عوض أن تتحوّل إلى غاية لذاتها. لا ينبغي تصديق الأذهان التي لا ترى إلّا باللّونيْن الأسود أو الأبيض. لسنا مجبَرين على الخيار بين العودة إلى المدرسة العتيقة والحداثة الخالصة. يمكن الاحتفاظ بمشاريع الماضي الجيِّدة دون الاضطرار لتسْفيه كلّ ما يجد منبعه في العالَم المعاصِر. يمكن لمكتسَبات التّحليل البنيوي، إلى جانب مكتسَبات أخرى، أن تُعِينَ على فهمٍ أفضلَ لمعنى عمل أدبي؛ فهي، في ذاتها، ليست مزعِجة أكثر من مكتسَبات الفيلولوجيا؛ العلم العتيق الذي هيْمَن على الدّراسات الأدبية طوال قرن ونصف؛ فهي أدوات لا أحد يعترض عليها اليوم، لكنّها لا تستحقّ أن يستهلك فيها الإنسان جميع وقته"2.
وإذا كان تزفيتان تودوروف قد بدأ، في أواسط سبعينيات القرن العشرين، يفقد الشّغف بتحليل النّصوص الأدبية تحليلاً محايثاً، وهو عالِم السّرد الذي اصطنع مصطلح "السّرديات"، وأنشأ أو طوّر، أثناء ممارَسة هذا العلم في صورته البنيوية، جملة من المفاهيم النّظرية (مفهوم الشّعرية مثلاً، والإجرائية (التّضمين) على سبيل الذّكر، وقارَب نصوصاً سردية مختلفة (رواية "العلاقات الخطيرة" لدو لاكلو (De Laclos)، وألف ليلة وليلة مثلا)، وشرع يهتمّ بالقيم والأفكار من خلال التفاته إلى المؤلِّفين أنفسهم، كما فعل في كتابه "نقد النّقد؛ رواية تعلُّم"، إلّا أنّ القارئ لم يطّلع على رغبته تلك في الانصراف عن دراسة الأدب وشغفه ذاك بنقد الأفكار سوى في سنة 2007 حين نشر كتابه "الأدب في خطر" (نتحدّث، هنا، عن الرّغبة وليس عن الفعل، ذلك أنّ القارئ قد بدأ يتعرّف إلى اهتمامات تزفيتان تودوروف الجديدة، عندما أصدر كتابه "نقد النّقد؛ رواية تعلُّم" في سنة 1984). بينما شهدت سنة 1997؛ أيْ عشر سنوات قبل نشْر هذا النّص النّقدي، ظهور مقال موسوم "المخطوطات، والمقطوعات، والقصص؛ عناصرُ سرديات ما بعد كلاسيكية"3، يناقش فيه دافيد هرمان (David Herman)، لأوّل مرّة، كما يزعم جيرالد برنس، تصوُّر "السّرديات ما بعد البنيوية" أو "السّرديات ما بعد الكلاسيكية ". وهو ما يعني أنّ الحاجة إلى تجاوُز السّرديات البنيوية أو الكلاسيكية قد لازمت فكر علماء السّرد البنيويّين أثناء نهوضهم بتحليلاتهم في ضوء المنهج البنيوي القائم على المنجَز المصطلحي والمفاهيمي للّسانيات البنيوية، على مدى عقديْن من الزّمن، كما يعتقد دافيد هرمان، سنوات السّتينيات والسّبعينيات من القرن العشرين، لتشكِّل سنوات الثّمانينيات من القرنِ نفسه، في نظره، بداية الانتقال إلى عهد جديد ينفتح فيه البحث السّرداني على سياق المحكي وبُعْده التّاريخي وغائيته ودور الملتقّي في اكتناه دلالته عبر القراءة التي تنهض على التّفاعُل والتّجاوُب.
غير أنّ الانتقال إلى عهد علمي جديد في مجال السّرديات، وما يحمله من مظاهر التّجاوُز والتّغيُّر والتّحوُّل، هو انتقال شكلي وخارجي، لا يرتبط، في اعتقادنا، بطبيعة المحكي المدروس إنْ كان أدبياً أو غير أدبي ولغوياً أو غير لغوي، ولا بالأسئلة التي ينبغي طرحها أثناء الوصْف (الماهية) والتّفسير (الغائية)، ولا بالمنهج الذي يُسْعِف في الإجابة عن تلك الأسئلة؛ فتلك، جميعها (المحكي، والأسئلة، والمنهج)، تثبت مظهر التّكامُل بين العلميْن السّرديّيْن، بل يتعلّق بالبيئة الثّقافية التي أرْهَصت ذلك الانتقال من سرديات بنيوية أو كلاسيكية إلى سرديات ما بعد بنيوية أو ما بعد كلاسيكية، ونعني، هنا، كلّا من الفكر السّرداني والاختصاص.
أ – التّجاوُز على مستوى الفكر السّرداني:
إنّ الفكر السّرداني الذي دعا إلى انفتاح السّرديات البنيوية على سياق المحكي وأنواعه والعلوم المختلفة للإلمام به، ومضى يؤسِّس لذلك الانفتاح عبر التّنظير والممارَسة معا، هو الفكر السّرداني الأنجلوفوني ذو الأساس البنيوي، ذلك الذي يمثِّله عالِما السّرد الأمريكيان دافيد هرمان وجيرالد برنس، وتبنّاه بعض علماء السّرد الأوربيّين، مثل الباحثة النّمساوية مونيكا فلودرنيك (Monika Fludernik)، والباحثة السويسرية الأمريكية ماري – لور رايان (Marie – Laure Ryan)؛ فقد بنى هذا الفكر نظرته العلمية للسّرديات ما بعد البنيوية على رصْد مظاهر القصور والخلَل التي اكتنفت السّرديات البنيوية ذات الاتّجاه الفرانكفوني، والتي يمثِّلها علماءُ سردٍ ذوو أصول فرنسية، مثل جيرار جينيت وكلود بريمون (Claude Bremond)، وآخرون انتسبوا إلى فرنسا مواطَنة ولغة، مثل البنيوي البلغاري تزفيتان تودوروف والسّيميائي اللّيتواني ألجيرداس جوليان غريماس. ولا ريب أنّ الذي حثّ على مثل هذا الانفتاح هو ما حدث ويحدث في المجتمعات والثّقافات والآداب والفنون والعلوم من ثورة في المفاهيم والأفكار، وما صاحب ويصاحب ذلك من ثورة تكنولوجية ورقمية، وظهور مدارس ونقود ونظريات وعلوم تحاول أن تواكب هذا التّحوُّل الذي لا يكاد يهدأ، نظيرَ الدّراسات الثّقافية والنّقد الثّقافي والنّقد ما بعد الكولونيالي وعلم الإعلام وهندسة البرمجيات وعلم الرّقميات.
ويعبِّر جيرالد برنس عن هذا الفكر السّرداني المتجاوِز للفكر الذي سبقه بقوله: "إنّ السّرديات ما بعد الكلاسيكية هي أكثر تأمُّلا، أو تريد أن تكون كذلك، وأكثر تفحُّصاً من السّرديات الكلاسيكية، وأكثر تعدُّدية تخصُّصية وانفتاحاً على التّيارات النّظرية – النّقدية التي تحفّ بها، وأكثر ترحيباً، وتمدُّداً (من خلال جمع واحتواء ما حاولت السّرديات الكلاسيكية تمييزه، النّقدي – التّأويلي بقدر الشّعري – النّظري، ونظرية المحكي، والنّقد السّرداني ودراسة النّصوص، وتلقّي الأسئلة كلّها التي سعت السّرديات الكلاسيكية إلى عدمِ طرحها)، وأكثر "اعتدالا" في الآن ذاته، ووعياً بصعوبات مشروعها، وأكثر نفعاً أيضاً، وتجريبية وتجريباً حتّى، ومزيجاً، وعلى أيّ حال، أكثر ميلا إلى الإيديولوجي وكذا الأخلاقي، وبالتّأكيد، أكثر إقبالا على السّياسة (نعلم، حتّى الآن، كم يُمكِن أن يبدوَ وضع التّاريخ بين قوسيْن، مثلا، رجعيا)"4.
ب – التّجاوُز على مستوى الاختصاص:
يبدو أنّ "الجاذبية الميديائية للمحكيات"، كما سمّاها فيليب ماريون (Philippe Marion)، لم تسْتمِل قلوب المشاهدين والمعجَبين وعقولهم فحسب، بل سحَرت، كذلك، فكر بعض المتخصِّصين في الميديا غير الرّقمية (التّلفزيون، والسّينما، وألعاب الفيديو، وخدمة "فيديو حسب الطّلب" (VOD)) والرّقمية (السّرد الرّقمي)، أولئك الذين طفقوا يصفون المحكي الميديائي (Le récit médiatique)، بشكل يراعي أبعاده المتعدِّدة؛ السّيميائية والتّكنولوجية والثّقافية5. كما أنّ الافتتان بتلك الجاذبية لم يقتصر، فقط، على المتخصِّصين في دراسات الإعلام، مثل فيليب ماريون ويان – نويل طون (Jan – Noël Thon)، بل تجاوزه إلى علماء السّرد الذين اهتمّوا، في البداية، بمقارَبة المحكي الأدبي، مرتكِزين، في ذلك، إلى منجَزات السّرديات البنيوية، ثمّ ما لبثوا أن ولّوا وجوههم قِبَلَ المحكي الميديائي، مثل ماري – لور رايان التي انصرفت إلى العناية بالسّرد المترابِط مع الميديا (Transmedia storytelling) (المصطلح من وضْع هنري جنكينز (Henry Jenkins))، ومحكيات ألعاب الفيديو والمحكي الرّقمي (Le récit numérique).
وهو ما يشير إلى أنّ البحث في مجال السّرديات لم يعد وقفاً على علماء السّرد الذين يُعنَوْن بالمحكي الأدبي، وحكراً على اختصاص نقدِ الأدب عامّة ونقدِ السّرد على نحو خاصّ (هذا إذا اعتبرنا السّرديات نقداً، ذلك أنّ علم المحكي، في صورته البنيوية، يشرئبّ إلى التّملُّص من إكراهات السّياق، وتلافي الأحكام القيمية والإيديولوجية، وإضفاء الميسَم العلمي على أسلوب معالَجته لموضوعه)، بل امتدّ ليشمل اختصاصات أخرى فرضها بروز أشكال سردية تتّخذ الصّورة والصّوت والأيقونة (السّرد غير الرّقمي) والأنترنت (السّرد الرّقمي) وسائطَ للتّعبير والتّبليغ. ولعلّ أهمّ تلك الاختصاصات، التي ولَجَت "بيت" السّرديات من دون استئذان، اختصاص علم الإعلام (بوصفه علما يتناول، بالدّراسة والبحث، وسائط التّواصُل الرّقمية وغير الرّقمية وتأثيرها في المجتمع) الذي أضحى رافداً يمدّ السّرديات بمقولات وتصوُّرات تساعدها في فهمٍ أمثَلَ لخصائص هذه الأشكال السّردية الجديدة والمتجدِّدة.
وتذكِّرنا "الجاذبية الميديائية للمحكيات"، التي تعكس تجاوُز السّرديات ما بعد البنيوية للسّرديات البنيوية على مستوى الاختصاص، بما يمكن أن نطلق عليه بـ "الجاذبية الأدبية للمحكيات"، تلك التي أسَرَت، في زمنٍ مضى، باحثين ينتسبون، في الأصل، إلى اختصاصات غير اختصاص السّرديات البنيوية، مثل ألجيرداس جوليان غريماس الذي انتقل من البحث المعجمي إلى التّحليل السّيميائي السّردي؛ فأُولِع بوصْف البرامج السّردية والنّماذج العاملية، وتأويل التّشكُّلات الموضوعاتية واستنباط المربّعات السّيميائية، كما يظهر في مُؤلَّفاته "في المعنى؛ بحوث سيميائيّة" (1970) و"موباسان؛ سيميائيّة النّص، تمارين تطبيقيّة" (1976) و"في المعنى II؛ بحوث سيميائيّة" (1983).
2 – التّكامُل بين السّرديات البنيوية والسّرديات ما بعد البنيوية:
إذا كانت السّرديات البنيوية قد بالغت في وصْف المحكي الأدبي من حيث هو حكاية (Histoire) وخطاب (Discours) وسرد (Narration) (هذه الرّؤية النّظرية الجامِعة لمكوِّنات المحكي هي لعالِم السّرد جيرار جينيت)، فإنّ السّرديات ما بعد البنيوية ترنو، فضلا عن ذلك الوصْف الذي ينصرف إلى تشريح الأنساق السّردية السّطحية للمحكي الأدبي وغير الأدبي، إلى تفسير الأنساق الثّقافية العميقة، ونريد بها تلك الأنساق التي تأخذ بعداً اجتماعياً أو أنثروبولوجياً أو نفسياً أو علمياً أو فلسفياً أو دينياً أو قانونياً أو إيديولوجياً أو بعداً آخر، باعتبار أنّ الثّقافة مفهوم جامِع وناظِم وباعِث لكلّ ما يصدر عن الإنسان من قول وعمل وسلوك وشعور وفكر وفن. يقول جيرالد برنس عن العلاقة بين السّرديات البنيوية والسّرديات ما بعد البنيوية: "مثلما يوحي به اسمها، لا تشكِّل السّرديات ما بعد الكلاسيكية نفيا، ورفضا، واستبعادا للسّرديات الكلاسيكية، ولكن، بالأحرى، تتمّة، وتمديدا، وتهذيبا، وتوسيعا. في رأي حتّى الممَثِّلين المعروفين مثل هرمان، فإنّها تحتويها بوصفها إحدى مراحلها أو مكوِّناتها الحتمية؛ فهي تعيد التّفكير فيها وتضعها في سياقها، وتبيِّن حدودها ولكن تستغلّ إمكاناتها، وتحتفظ بأسسها وتعيد تقييم قوّتها، وهي تشكِّل نسخة جديدة لتخصُّص كان، هو الآخر، جديداً يوما ما"6.
تتطلّع السّرديات ما بعد البنيوية، مثلما يُستشَفّ من كلام جيرالد برنس، إلى توسيع مجال السّرديات البنيوية وتطويره، ابتغاء تحقيق التّكامُل بين العلميْن. وهو تكاملٌ يتبدّى، كما أشرنا آنفا، في ثلاثة عناصر، هي: المحكي، والأسئلة، والمنهج.
أ – المحكي: لا تستثني السّرديات ما بعد الكلاسيكية أيّ محكي يمتلك صفة السّردية (La narrativité) من دائرة اهتمامها، سواء أكان أدبيا (الأنواع والأشكال والأنماط الأدبية) أم غير أدبي (المحكي الميديائي بأشكاله المختلفة، من محكي تلفزيوني، ومحكي سينمائي، ومحكي أدبي تفاعُلي، ومحكيات ألعاب الفيديو، ومحكيات الرّسوم المتحرِّكة، ومحكي هجين يؤلِّف بين الميديا الرّقمية والميديا غير الرّقمية (السّرد المترابِط مع الميديا)، ومحكي رقمي)، ولغويا (المحكي الصّحفي المكتوب) أم غير لغوي (اللّوحة التّشكيلية). وقد تكون السّرديات البنيوية أو الكلاسيكية نفسُها، مثلما يومئ جيرالد برنس، سرديات ما بعد بنيوية أو ما بعد كلاسيكية، من حيث التفاتُها، في أثناء انجذابها إلى سحر السّرد الأدبي وفتنته، إلى المحكيات غير الأدبية وغير اللّغوية؛ فقد ألفيْنا بعض المتحمِّسين لها ينشغلون بالمحكي الفيلمي، كما فعل كريستيان ماتز (Christian Metz) في مقاله المنشور في العدد الثّامن من مجلّة "تواصُلات" الصّادر في سنة7 1966، ويهتمّون بالمحكيّيْن الصّحفي والإشهاري، كما فعل أندريه نيال (André Niel) في كتابه "التّحليل البنيوي للنّصوص؛ الأدب – الصّحافة – الإشهار" الصّادر في سنة8 1976.
ب – الأسئلة: تحاول السّرديات ما بعد البنيوية أن تطرح الأسئلة جميعها؛ فهي لا تقصي الاستفهامات المرتبطة بموضوع السّرديات الكلاسيكية، ألا وهو ماهية المحكي المحايثة، ولكنّها تضيف إليها استفهامات أخرى ذات طبيعة معرفية، بحيث تهدف، من خلال طرحها، إلى الحصول على تفسيرات تتعلّق بموضوع بحثها الآخر، وهو غائية المحكي السّياقية. "إنّ السّرديات ما بعد الكلاسيكية تطرح الأسئلة التي طرحتها السّرديات الكلاسيكية: ما هو المحكي (في مقابل غير المحكي)؟ فيمَ تتمثّل السرديّة؟ وكذلك، ما الذي يمطّطها أو يقلّصها، ويؤثّر في طبيعتها ومرتبتها، بل ما الذي يجعل المحكي قابلا للسّرد؟ ولكنّها تطرح، أيضاً، أسئلة أخرى: حول العلاقة بين البنية السّردية والشّكل السّيميائي، وتفاعُلهما مع الموسوعة (معرفة العالَم)، ووظيفة المحكي وليس اشتغاله فحسب، وعلامَ يدلّ محكي أو آخر وليس الطّريقة التي يدلّ بها كلّ محكي فقط، وحركية السّرد، والمحكي بوصفه سيرورة أو إنتاجاً وليس مجرّد منتَج، وأثر السّياق وطرائق التّعبير، ودور المتلقّي، وتاريخ المحكي بقدر نسقه، والمحكيات في تطوُّرها مثل آنيتها تماما، وهكذا دواليك"9.
ج – المنهج: تقتضي الإجابة عن الأسئلة البنيوية والمعرفية، معا، توظيف منهج تأليفي يجمع بين وصْف نسق المحكي وتفسير سياقه، حيث يشير جيرالد برنس إلى أنّ السّرديات ما بعد البنيوية، فضلًا عن تبنّيها للتّيارات السّردانية التي تسمح بمقارَبة ماهية ذلك المحكي السّردية، تستثمر علوما ونظريات ورؤى مختلفة للإحاطة بمعرفيته، قد تكون تاريخية أو اجتماعية أو نفسية أو أنثروبولوجية أو فلسفية أو عرقية أو نسوية. وهو ما يفضي إلى ظهور سرديات فرعية داخل السّرديات ما بعد البنيوية نفسها، مثل السّرديات المعرفية والسّرديات الثّقافية والسّرديات الطّبيعية والسّرديات غير الطّبيعية وسرديات الميديا، تمامًا مثلما نشأت في كنف السّرديات البنيوية أربعة اتّجاهات، هي سرديات الحكاية وسرديات الخطاب وسرديات السّرد أو التّلفُّظ وسرديات الدّلالة.
الهوامش:
1 - Roland Barthes: «Introduction à l’analyse structurale des récits», in «L’analyse structurale du récit», Communications 8, Seuil, Paris, 1981, p 9.
2. تزفيطان طودوروف: "الأدب في خطر"، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط. 1، 2007، ص 15.
3. يُنظَر: سيدي مُحمَّد بن مالك: تودوروف وما بعد السّرديات؛ نحو انفتاح السّرديات البنيوية على السّياق"، مجلّة "كتابات معاصرة"، العدد 104، آب وأيلول 2017، ص 46.
4. جيرالد برنس: "سرديات كلاسيكية وسرديات ما بعد كلاسيكية"، ترجمة: سيدي مُحمَّد بن مالك، مجلّة "سيميائيات"، المجلّد 09، العدد 02، سبتمبر 2020، ص 359.
5 - Raphaël Baroni et Anaïs Goudmand, « Narratologie transmédiale / Transmedial Narratology», Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 21 mars 2019
URL: https://wp.unil.ch/narratologie/2019/03/narratologie-transmediale-transmedial-narratology
6. جيرالد برنس: "سرديات كلاسيكية وسرديات ما بعد كلاسيكية"، ترجمة: سيدي مُحمَّد بن مالك، ص 358.
7 - Christian Metz: «La grande syntagmatique du film narratif», in «L’analyse structurale du récit», Communications 8, Seuil, Paris, 1981, p 126
8 - André NIEL: «L´analyse Structurale Des Textes ; Littérature – Presse – Publicité», Editions Universitaires / Jean Pierre De Large, Paris, 1976
9. جيرالد برنس: "سرديات كلاسيكية وسرديات ما بعد كلاسيكية"، ترجمة: سيدي مُحمَّد بن مالك، ص 358، 359.