حداثة التصوير في شعر راشد عيسى

ديوان "أباريز" نموذجاً

زكرياء الزاير


الشاعر راشد عيسى


إنّ أول ما يلفت الانتباه في شعر راشد عيسى، ذلك التصوير الذي يكتنف معظم نصوصه، تصوير ذو طبيعة خاصة؛ وهو أداة للتعبير عن الذات وصراعاتها مع العالم. والشاعر في أعماله الشعرية يستعمل منظومة تصويرية تستمدّ عناصرها من مكونات قد تبدو لنا مركزية، تتوزع –بالنسبة لنا– إلى: (الصورة المكان، الصورة المخيال). هذه المكونات يمكن أن تتوزع بدورها إلى عناصر فرعية تؤثث المشهد الشعري لدى راشد عيسى. هذه العلاقات أو البناء العلائقي في معظمه بناء يتراص ويتشاكل ليبني جسد القصيدة المتناغم، بدءاً بالداخلي الذي يحتوي الإيقاع والمعجم، والخارجي الذي يضم رؤية الشاعر إلى النص الشعري على اعتبار أنه محرك رئيس لذاتية الشاعر في علاقته بالعالم والحياة. ومن ثمة فإنّ الشاعر يستعمل التعبير بشكل درامي ليصور العالم ويكشف عن تناقضات الحياة والواقع ليبين حركيته وتفاعلاته. إنه هنا إذ يشيِّد صوره لا يكتفي بالإفصاح عن الموجودات، بل يصوغها صياغة تركيبية ومركبة تضم مستويات ترميزية عميقة. فيرمي بذلك إلى تشكيل عالم شعري خاص، لا يحاكي بالضرورة العالم الواقعي. ولكنه يستقي مكوناته من خلاله ليصنع بذلك عالمه الخاص. فيوحِّد بهذه الصور بين أشياء متعددة ومتباعدة هادفاً بذلك الخروج من العالم المعتاد، والدخول في عالم تخييلي شعري جديد وغريب وممتع.

إن المكان باعتباره حاملاً رمزياً داخل الشعر بصفة عامة، والشعر العربي بصفة خاصة يحضر لدى راشد عيسى، من خلال ديوان أباريز، متمثلا بصيغ تصويرية متلاحمة بشكل عضوي يمتح من الذاكرة (ذاكرة الشاعر)؛ لأنها تحتوي على طاقة شعرية يستقي منها الشاعر تراكيبه وذخيرته اللغوية. ولا شكّ أنّ هذا البناء التصويري لديه يهدف إلى تركيز وتكثيف صور تتقاطع مع جوانب نفسية تُعبر عن تجربة الشاعر، فيتماشى ذلك مع طبيعة بناء هذه الصور حين تمثل ضربات سريعة متعاقبة تؤلف مجموعة من الجمل. يقول راشد:
"سحابة في الأربعينْ
سالت عليّ دونما انتباه
قامتها تفاحة الخجلْ
ووجهها مزارع الأملْ
وصمتها عبير ياسمينْ
قريبة كدمعة
هادئة كشمعة
كلامها حديث سنبلة ْ
بسمتها قرنفلةْ
وظلها أمومة تطهر القلوب"(1)

والصورة تحضر هنا في ارتباطها بالمكان على الشكل التالي:

الصورة المكان/ الذاكرة

النخلة – الهضاب – الأرض المحروثة- المرآة- الكهف – خزانة – قفص البلبل – بيت مهجور- رصيف – شجرة – الجبّ- فلوات الطفولة – مقبرة – خوذة جندي – الصحراء – البحر – الميناء – عشّ حمامة – كنيسة ...

الصورة المكان/ القصيدة

زهر الجحيم – أحمل الجبل – رنينك الجميل في دمي – نخلة الكبرياء – ثلاث عكاكيز مكسورة – على مقلتيه يحوم الذباب – رأيناه في باحة الدار في جسم طير ورأس أسد – بنى لي على غيمة منزلا – دلّ الطيور على باب قلبي – رأيت أرسطو يغني على باب النافذة – تمشّى فوق غرتها جوادي...

من خلال ملاحظتنا لمختلف تشكلات وتشكيلات الأبنية التصويرية، انطلاقاً من مكون الصورة (المكان/الذاكرة) في ارتباطه وتعالقه مع مستوى الصورة (المكان/القصيدة)، يبدو أن المكون الأول يصب بشكل أو بآخر داخل المكون الثاني الذي يبدو مؤسساً للفضاء الشعري داخل الديوان، يقول:
"يا شعر .. يا صديقي الأجلّْ
يا فاضحاً مكائد الأزلْ
يا من منعتني من أن أشمّ زهرة الجحيم
يا من بنيت لي خلف السماء دارة
تليق بي،
وصرت كالعقاب أحمل الجبلْ
بمخلبي
وأتّقي بمقلتي خينونة الأملْ
شكراً.. وألف شكر يا سيادة المبجّل العظيم
لولا رنينك الجميل في دمي
لعطّلتْ طفولتي عن العملْ"(2)

ويضيف قائلاً:
"مع الصبح أرعى حروفي على
أمهات الهضاب
فتشرب دمع الندى
وأنين الحصى
ولعاب الذئاب
ثم تحاور نوم الغيوم المسنّةْ
وفي الليل ..
تلتفّ حولي صفوف من الكلمات
الحواملْ
أدخّلهنّ بمستشفيات الخيال
أولدهنّ على راحتي،
فيعلو بشعري صراخ الأجنّة"(3)

يقول أيضاً:
"الشعر روائح
وألذ أكتب:
رائحة رغيف الراعي، رائحة حريق في قلبي،
رائحة غزال مذعور من ظلّ السّحب،
رائحة النهد الأرعن، رائحة الأرض المحروثة توّا، رائحة
الأمل الكذب،
رائحة الزهرة في لوحتها، رائحة الصورة في المرآة
المكسورة، رائحة صلاة في كهف نبي"(4)

كما يقول:
"من فرط الحبّْ
جاء أخي بقميصي
وعليه دم صادقْ
حتى السيّارة لمّا مرّوا
خلّوني
والتقطوا الجبّْ"(5)

حين نتكلم عن المخيال فإنّنا نردّ ذلك إلى مدى تمكن الشاعر من استعمال طاقة الخيال لديه، عن طريق استحضار جزئيات من العالم الخارجي ومن الذاكرة والثقافة الشعبية وغيرها من المكونات الحضارية، ثم جمعها وترتيبها وفق اختيارات خاصة بسياقات فكرية وشعرية؛ فيصير الأمر لدى الشاعر عمليات عقلية/ نفسية تقابها عمليات تصويرية لغوية/ كلمات. هذه المادة التي يحدثها الشاعر عن طريق الجمع والفحص والترتيب والاختيار، كي تستوي في نهاية المطاف شكلاً معيناً عن طريق الانزياح، وذلك عبر طريقتان لمواجهة القصيدة، إحداهما لغوية والأخرى غير لغوية، فالشاعر في هذا السياق يحدث علاقة خاصة بين المكونين اللغويين (الدال والمدلول)، وهذه العلاقة تعتبر خاصة ومتميزة؛ وبالتالي فهي المسؤولة بالدرجة الأولى عن إضفاء نوع من التخييل على جسد البناء الشعري لدى راشد عيسى، فـ"ما ينتج في حجم اللغات، وفي التعبير، وليس في تتابع العبارات، إنما هو شرخ بين الحافتين، وفجوة المتعة: وما يجب على المرء أن يقوم به لقراءة كتاب اليوم، ليس الالتهام، ولا الابتلاع، ولكن الرعي بدقة، والجز بعناية"(6). وهذه الطبيعة الاختيارية هي بالضرورة إبداعية تدفع بالشاعر إلى لا محدودية اللغة وبالتالي لا محدودية الدلالة، فيجمع بين الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة تذيب التنافر والتباعد وتخلق الانسجام والوحدة. ومن ثمة؛ فوظيفة اللغة حسب أدونيس "أن تقتنص ما لا يمكن اقتناصه عادة أو على الأصح ما لم تتعود هذه اللغة اقتناصه... لأن الكلمة لا تكتفي بأن تكون تعبيراً بسيطاً عن فكرة، بل عليها أن تخلق الموضوع وتطلقه خارج نفسه"(7).
هذا الاشتغال التصويري لدى راشد عيسى كما قلنا في السابق يحضر عن طريق الصورة المكان، هذا المستوى التصويري هو بالضرورة يتعالق مع مستوى آخر وهو مستوى الصورة المخيال. والذي يتوزع بدوره إلى الصورة (المخيال/ الحب)، والصورة (المخيال/ الخيبة).

والصورة تحضر هنا في ارتباطها بالمخيال على الشكل التالي:

الصورة المخيال/ الحب

كأني طير غريب – خلقت بستين روحاً وسبعين قلباً – سأبقي يدي ريشة في مهب النساء- ظلها أمومة تطهر القلوب – قالت بحزن ناعم كحبة الندى – عيناك في غياهب الحنين – غادرتني مثل نهر يصعد الجبال...

الصورة المخيال/ الخيبة

أقوى على حمل تسعين هماً – في قلب شاعر حزين – أنا أخاف طباع الخريف – نم على ساعدي يا بني ليس عندي حصير – لنرجع فالغروب يخيفني...

كلّ ذلك يجعل المتلقي في حالة توتر دائم لما ألفه من أنماط التّلقي العادي. فراشد عيسى يخاطب متلقياً نوعياً عن طريق سهله الممتنع.


هوامش
1. راشد عيسى: شعر أباريز، ط1، الشارقة/ الإمارات 2016، ص: 92.
2. نفسه، ص: 08.
3. نفسه، ص: 12.
4. نفسه، ص: 13.
5. نفسه، ص: 17.
6. رولان بارت: التحليل النصي ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، ط1،2009، ص: 37/38.
7. أدونيس: مقدمة للشعر العربي، ط4، دار العودة/بيروت 1983، ص: 128.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

محمد البيضاوي

جميل جداً واصل أخي زكرياء الزاير

8/12/2020 7:22:00 PM

1