
يوافق يوم 26 يوليو من كل عام ذكرى رحيل رائد المسرح الذهني في العالم العربي، الكاتب والأديب المصري الكبير "توفيق الحكيم". كتب حوالي مائة مسرحية استمد قضاياها من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المعاصر له؛ وحيث إن قدرته على الانغمار في الخيال والتصور والابتكار بدأت منذ سنوات طفولته الباكرة حين كان كل من الأب والأم يتجاذبانه، كل إلى دائرته، فانكمش على نفسه وعاش تجربة مختلفة، سجّل تفاصيلها الدقيقة في سيرته "سجن العمر" في العام 1964؛ أي بعد أن نشر معظم أعماله، كتبها ليخبر قرّاءه ومحبيه عن تناقضات شكّلت طبيعته الداخلية، ونما معها -في فترة صباه ورجولته- قلقه الروحي واستغراقه الدائم في الذهول، فاستثمر لاحقاً كل تلك العناصر في صياغة نصوصه الشهيرة المسرحية منها والروائية، حيث يتوارى خلف البناء والتخييل في معظمها شيء من أحداث حياته وتقلباته الذهنية، مع خليط من شخصيات عاش بينها.
ولد "توفيق الحكيم" الملقب بـ"أبي المسرح العربي" بالإسكندرية عام 1898م، لأبوين مختلفين في أصولهما ووجهاتهما في الحياة، فوالده فلاح مصري من أكثر العائلات الثرية في الأرياف، اهتم بالأدب واللغة العربية، وبرز شدة ولعه بالشعر حين قال عنه "توفيق": ".. وبعد ميلادي بعدة سنوات وضعت والدتي أخي الأصغر.. وسماه والدي "زهير". تيمناً باسم الشاعر الجاهلي "زهير بن أبي سلمى".. ما من شك في أن والدي لو كان حاضراً ولادتي.. فكنت اليوم أدعى "امرؤ القيس الحكيم"، أو طرفة أو لبيد ونحو ذلك.. ولكن الله سلّم".
المفارقة أن الأب الذي عرف عنه الارتجال في الكلام والخطابة وحبه للشعر والتفلسف، تلاشت منه هذه الاهتمامات بعد سنوات قليلة من دخوله بيت الزوجية، صار رجلاً يطيل التفكر والتأمل في كل ما يسمعه، وبدا للآخرين كشخص بطيء الفهم والبديهة؛ فقال عنه توفيق: "كانت صورة والدي حقاً أقرب إلى الانطفاء.. لم أسمع منه هو قط وصفاً أو ذكراً لأيام شبابه تلك، وكأني به قد نسيها أو تناساها"، مما أثار في أمه شعوراً بالتفوق والتفاخر، فراحت تردد على صغيرها: "أنا أذكى من أبيك.. أنا أسرع فهماً من أبيك..".
وبعكس طبيعة الأب الهينة والذي لم يكن يملك غير مرتبه، ولم يك ذو مطامع في الحياة، كانت الأم سيدة قوية الشخصية. متباهية بأصولها التركية. قال عنها توفيق الحكيم بأن وجهتها في الحياة: "مادية عملية بحتة.. شديدة القلق دائما على أمر معاشها"، وهي: "ذات طبيعة متناقضة، فيها جرأة وفيها خوف في نفس الوقت، جرأة على الناس، وخوف على نفسها"، ولا تكتم شيئاً، وبإحساس واضح عبرت عن ازدرائها لحياة الريف والفلاحين المصريين، فأقامت العوائق بين صغيرها "توفيق" وأهله؛ عزلته عنهم، ومنعتهم بصرامة من الوصول إليه، وأشغلته عن أترابه وعن ألعاب الطفولة بمكر ودهاء، بسردها له كل ما كانت تقرأه من تراث الأدب العربـي، وكذلك من روائع الآداب العالمية المترجمة، وهو ما جعل طفلها يحوم حولها، حول حكاياتها التي تغمره سعادة ومتعة، ويتوق دائماً إلى سماعها، إلى أن أصبحت فترات لعبه أندر بكثير من فترات الخيال، فأسهم ذلك في تفتيح خياله وتهييج حواسه الفنيّة: ".. على أن الذي جعلني أعيش القصص بكل وجداني.. هو شغل الوقت بقراءة قصص ألف ليلة وليلة، وعنترة، وحمزة البهلوان، وسيف بن ذي يزن، ونحوها، كانت في أجزاء طويلة، ما تكاد-الأم- أن تنتهي من جزء حتى تقص علينا ما قرأت عندما نجتمع حول فراشها. كان يحلو لها ذلك.. وكانت تجيد سرد هذه القصص علينا.. لا تترك تفصيلاً إلا حاولت تصويره، فكنت أنا وجدتي نجلس إليها وكلنا آذان تصغى بانبهار.. فإذا انتهى السرد بأبطال القصة في موقف لم يزدنا إلا اشتياقاً إلى البقية، قالت والدتي: انتظروا حتى أقرأ الجزء التالي".
وكأي طفل آخر اعتاد ألا يألف إلى قالب ولا يركن إلى منوال، انصرف "توفيق" عن واقعه الذي لم يكن فيه شيئاً. لا شيء سوى الفراغ، فاستأنس بالخيال، وأمضى أهنأ ساعات طفولته مع أبطال حكايات الأم، أبطال لم يعثر عليهم في واقعه، حتى أصبحت هذه القصص بديلاً له عن كل الرفاق واللعب، والأخيرة قلّ ما حظي بها: ".. طفولتنا بوجه عام لم تكن مدللة، فأنا لا أذكر أني تلقيت من أهلي لعبة من اللعب إلا مرة: دخل علينا والدي وفي يده وابور صفيح صغير في حجم الإصبع، يباع في الشوارع بنصف قرش، قدمه إلي بزهو وهو يقول: "خد إلعب يا ولد!"، ولأنه اعتاد على ارتياد عوالم الخيال والإيهام، فإن كل ما علق بذاكرته حول سنوات الطفولة هو عن حياته الذهنية، والتي لم يكن لها صلة بالجري والقفز: ".. أما ألعاب الجري المألوفة في الصغر، فلم تكن مما يروق لي كثيراً.. ويظهر أن أهلي لاحظوا ذلك، فقد دهشوا إذ رأوني ذات عصر أجري في الشارع بخلاف عادتي".
وبعد طفولة مغرقة في الخيال، شكلت طبيعة قراءات ومطالعات الابن في صباه هاجساً ومبعث قلق كبير وإرباك للأب، فأراد أن يشغله عنها: "لم يكن أبي يدرك أن لكل سن قراءاتها.. كان يعاملني كأغلب آباء تلك العهود، كما لو كنت في سنه.. يفرض علي ما يحبه هو وما يقدّره من مطالعات". كان من الممكن أن يحب "توفيق" الشعر لو أخذه الأب إليه برفق، ولم يدفعه دفعاً، إلا أن الأب المولع بحب الشعر والفلسفة -في شبابه- راح يُجبر ابنه على مطالعة ما لا يتماشى مع ميوله، ويفرض رغبته عليه، بقراءة المعلقات السبع بطبعاتها القديمة ذات الورق الأصفر والغلاف الجلدي السميك بعد أن يخرجها من "تلك الصناديق والصحاحير التي لبثت أعواماً طعاماً للصراصير!" وحيث كانت الأم ترمي فيها كل المهملات والكراكيب عمداً وبلا اكتراث حين خافت على مستقبلها، وأرعبها شبح الفقر في حال اتكأ الزوج الفلاح على كتب الشعر والأدب والفكر بدلا من الكفاح من أجل تدبير مورد إيراد ثابت، فما كان من اليافع -"توفيق الحكيم"- إلا أن يختفي عن أعين والديه بمطالعاتـه القصصيّة الممتعة الموسعة للخيال: "كنت أتسلل حاملاً الكتب لأقرأها تحت سريري.. كان ذلك السرير مفروشاً بملاءة تتدلى أطرافها إلى الأرض حاجبةً ما يختفي تحته كأنّها ستارة مسدلة. فما كان أحد يراني أو يكتشف مكاني" اختار "توفيق" الاختفاء والعزلة كي يحتفظ بذاتيته سليمة من الانطباع بالقالب الذي يريد أبواه صبه فيه.
وحين كبر، ظل "توفيق" متقيداً بالصور التي حفلت بها سنوات طفولته؛ صوراً لحكايات ساحرة لا تمت إلى الواقع بصلة. يبتكرها ويتصوّرها بعقله تفكيراً وخيالا، وقد لازمه هذا الميل وسار معه في كل خطوة من خطوات حياته؛ فبعد تخرجه من الجامعة بتخصص القانون، وفق رغبة الأب الذي عمل طويلاً بسلك القضاء، خاض صراعاً مع والده مرة أخرى حين وقف هذا الأخير في طريق سيره العقلي الطبيعي، فقرر ابتعاثه إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا بنفس تخصصه الجامعي، كي يصرفه عن الفنون، عن الموسيقى، عن الرسم عن المسرح تحديداً، والتي كان يحلو له مشاهدته مع فتور اهتمامه بالدرس. في تلك البلاد اتسعت له الحرية، وبدا له كل شيء باذخاً مبهراً لعقله، إذ وجد فيها ما يشدّه أكثر نحو عوالمه الداخلية، حيث الأشياء المُبهمة والأفكار الغامضة. لم يشاهد تمثيلًا في المسارح ودور الأوبرا والسينما فحسب، بل أخذ يقرأ أدبًا تمثيليًّا توارثه الأوروبيون عن اليونان والرومان القدماء، واطلع على روائع الآداب والموسيقى الأوروبية. استغرق فيها وطال استغراقه لمدة ثلاث سنوات، إلى أن عاد صفر اليدين من الشهادة التي أوفد من أجل الحصول عليها: "وعدت إلى بلادي.. عدت بالحقيبة ذاتها التي كنت قد حملتها معي.. كما عدت بصناديق خشبية مملوءة بما جمعت من الكتب على مدى تلك الأعوام.. ما عدا شيئاً واحداً لم أعد به.. وهو ما ذهبت للحصول عليه: الدكتوراه في القانون.. بطء الفهم عندي، وواعيتي الضعيفة، بالإضافة إلى أعباء الجهاد الثقافي الشامل الذي ألقيت بنفسي كلها في لجته.. لم يترك لمثلي القوة ولا القدرة على حمل عبء آخر.. عدت فاستقبلني أهلي كما يستقبل الخائب الفاشل.. وسمعتهم يتهامسون: "يا خيبتنا! يا خيبتنا!".
"أنا سجين في الموروث، حر في المكتسب.. وما شيدته بنفسي من فكر وثقافة فهو ملكي. وهو ما اختلف فيه عن أهلي كل الاختلاف. هاهنا مصدر قوتي الحقيقية التي بها أقاوم..". هكذا ظل الأب والأم يتجاذبانه كل منهما بدوره للخروج إلى دائرته والسير على طبيعته، فلا الأب أفلح، ولا الأم، ومن هذا التجاذب المتناقض تشكلت شخصية "توفيق"، صنع دائرته الخاصة، دائرة خيالاته التي تنهمر منها الأحداث والشخصيات المتآلفة والمتصارعة، تصوّرها وحرّكها في ذهنه وانسجم معها. أدرك فضيلة أن يبقى يختلق هذه القصص، ويسد بها فراغ من غيّبتهم عنه الأم عمداً، وفي عمر أكبر وظّفها بذكاء في كتاباته، ومن هذا يتضح معنى الذهول الذي طالما كان يستغرق فيه "توفيق الحكيم"، فيبقى لساعات طويلة لا ينطق ولا يتحرك، وقد روت الأم في سردها لذكريات طفولة ابنها "توفيق": "لا أحد يعرف ابني سواي، حتى أصحابه المقربون يظلمونه كثيرًا، والصمت والسكون والسرحان والتأمل الذي يعتريه بينهم لم يكن جديداً عليه بل صاحبه منذ ولادته، توفيق فتح عينيه ليسرح بهما خارج الحدود بعيداً عن دائرته.. ابني وُلد ليتأمل.. كثيراً ما كنت أناديه صغيرًا أكثر من مرة حتى يرد، وعندما أذهب إليه صارخة عاتبة أجده في ملكوت آخر وليس معي.. ولاحظت عليه أنه يبتسم ويتجهم فجأة وحده دون أن يكون في صحبة أحد.. يدور في عالمه الخاص داخل عالمنا الكبير لكن ذلك لم يحل دون تجاوبه إذا ما تأزمت الأمور؛ أي أنه كان يعي الأحداث لكنه كان زاهدًا في المشاركة مما جعل والده قلقاً على مستقبله متخوفاً عليه من مثل هذا التوحد مع الذات".
".. كنت كلما كبرت ملت إلى الهدوء والتأمل واتخذت الكثير من سمات أبي، لكن مع بركان داخلي في أعماقي هو "والدتي"، مثل بركان "فيزوف" ينشط ويخمد في فترات ودورات". لم يخطر على بال الأب والأم أن طبائعهما المتناقضة والمتحكمة أسهمت في بلورة شخصية ابنهما الفكرية، ودرّبته على العزلة والانزواء، والانغمار في الخيال، عالم الهواجس الباطنة، الذي سيطر عليه رجلاً، كما كان مسيطرًا عليه طفلًا، فنسج بها أعمالا فنية ساحرة في ذهنه: "لدي القدرة على أن أجلس بالساعات بمفردي لا أصنع شيئاً.. وكثيراً ما يدهش الداخل علي إذ يراني أحياناً قاعداً جامداً، ليس أمامي كتاب أو ورق أو قلم، ولا حراك بي كأني تمثال من حجر.. على أني ما انعزلت قط ولا انزويت إلا بالجسم وحده"، فتحولت خيالات الطفولة إلى أعمال امتد تأثيرها لأجيال متعاقبة، "توفيق" الصغير أصبح رائداً من رواد المسرح العربي، وأحد كبار المساهمين في تقدمه حين مزج بين الرمزية والواقعية عبر المسرح الذهني دون تعقيد أو غموض، وجعل المسرحية لونًا من ألوان الأدب تقرأ لذاتها لا للتمثيل، وقد قال عن ذلك: "إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثلين أفكاراً تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز لهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح ولم أجد قنطرة تنقل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة"، وكان "توفيق الحكيم" قد تأثر بالمسرح الغربي أثناء دراسته في الغرب بشكله غير المألوف ومزجه بالشكل التقليدي، فكتب مسرحيات تحمل خصائص المجتمع المصري، وفي الوقت ذاته منفتحة على تيارات مسرحية مختلفة، وترجمت الكثير من أعماله إلى لغات عِدة.
كل ذلك شُكل ورُكب في مخيلته عبر سنوات الطفولة والمراهقة، حين تسرّبت الصور المدهشة والأحداث اللاواقعية إلى عقله من حكايات الأم، ثم ارتشف طريقة بنائها وتوظيفها من منابع الثقافة والفنون وقت سفره بعيداً عن رقابة الأب؛ فاستساغ الحياة الذهنية حيث الأفكار والأحداث والشخصيات تتحرك كيفما شاء، وعبر الخيال تجاوز "توفيق" كل شيء، كل حيّز مكاني، وكل توقيت زمني، بل وتجاوز تناقضات الأب والأم.
