المخاطَب في السرد العربيّ

د. محمد عبد الباسط عيد


هذه المقالة قراءة في كتاب الدكتور خيري دومة "أنتَ.. ضمير المخاطَب في السرد العربي"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. ولعلّ أفضل ما في هذا الكتاب أنه جعل مثل هذا البحث المُدقِّق في الضمير النّحْويّ "أنتَ" بحثًا ثقافيًا شديد التنوع؛ فمن خلال هذا الضمير ستقارب عالمًا متسعًا من الأفكار والرؤى الفلسفية، منها ما يتصل بالتراث والسياقات التي منحت هذا الضمير أهميته الثقافية والإبداعية، ومنها ما يتصل بالسرد والأنواع الأدبية التراثية والحداثية وما بعد الحداثية.. يأتي ذلك كله في جمل واضحة، وعبارات دقيقة تحرص على التواصل مع المتلقي، وهذا ما جعل الكتاب -عميق التخصص- كتابًا ثقافيًا عامًا أيضًا؛ إذ يمكن لكل قارئ أن يقاربه ويتزود مما فيه من ثراء معرفيّ.


 

أنا .. وأنت

حين نستخدم ضمير المخاطب "أنتَ" بكل تنويعاته التخاطبية: أنتم أو أنتن..إلخ، فهذا يعني أننا نريد أن نتحدث إلى آخر بشكل مباشر، و"الحديث" علاقة تواصلية تحاول تقليص المسافة بين المُرْسِل والمتلقي، تمامًا كما نتكلم في حواراتنا اليومية، ولكننا حين نكتب مستخدمين هذا الضمير يغدو الأمر أكثر صعوبة؛ فالحديث اليوميّ لا يتم بمعزل عن المتخاطبين أو وجودهما الفيزيقيّ في لحظة ما، ولكن الكتابة أمرٌ مختلف؛ فهناك إشكالات كثيرة يثيرها هذا الضمير في السرد القصصيّ والروائيّ أو في غيرهما؛ فمعه نحتاج دائمًا إلى معرفة مَنْ يتكلم إلى مَنْ؟ فمن الوارد أن يستخدم الكاتب ضمير المخاطب "أنتَ" وهو يقصد "أنا"، وذلك حين يجرد الكاتب أو الراوي السارد من نفسه شخصًا آخر يخاطبه، وقد يكون "الأنتَ" هو المرويّ عليه، وقد يكون المتلقي..إلخ.

لقد أدى الاستخدام الموسّع للضمير "أنت" أو لضمائر الخطاب إلى تغيّر كبير في طبيعة السرد؛ فقد ازداد هذا السرد صعوبة واضطرابًا خاصة مع تكنيك "تيار الوعي"، كما سنشير.

***

في حفر متصل وعميق ومشوق يطوف بنا "خيري دومة" في تراث هذا الضمير، وكيف تمكّن من جعل الكلام "حديثًا"، وكيف بات مصطلح "الحديث" أحد المصطلحات الأساسية المهيمنة على بينة التراث العربي، فقد أثّر –بشكل عام- على بنية "التأليف" التي وسمت مدونات التراث على اختلاف حقولها وتنوع معارفها. ويمكنك أن تجد ذلك في كتب البلاغة بقدر ما تجده في كتب الأدب وفي الشعر، فضلًا عن كتب علم الكلام والتفسير.

تحتفي مدونات التراث بشكل بالغ بالحديث إلى آخر، وعبر هذا الضمير امتازت أنواع السرد التراثي، فمثلًا، إذا تحدّث الكاتب إلى جمهور فنصبح إزاء نَوْع أدبي اسمه "الخطبة" أو "المجلس"، وإذا وجّه الحديث إلى أهله وذويه نصير إزاء نوع "الوصية"، وإذا تحدث إلى صديقه ونظيره صرنا إزاء نوع "الرسائل" الأخوانية، أمّا إذا تحدث إلى ربه فنغدو إزاء فنّ المناجاة (الإشارات الإلهية للنّفّري)..إلخ.

لقد باتت مفردة "الحديث" المتولدة عن الضمير المخاطَب "أنتَ" عظيمة الشأن في التراث العربيّ؛ وما أكثر ما تجد في هذه المدونات، حدثني فلان، أو هذا حديث كذا.. ويعود ذلك –في جانب منه- إلى الطبيعة الشفاهية التي ظلت لصيقة به حتى بعد انتقال العرب إلى التدوين.. ورغم ذلك فقد تجاهلت كتب البلاغة والنقد مصطلح "الحديث"، وهذا مفهوم بالنسبة لكتب جعلت الشعر موضوعها، ولثقافة جعلت الشعر امتيازها وفنها الأول، ولم تهتم بالنثر إلا في حدود ضيقة، ولم تنشغل على الإطلاق بالسرد القصصي، وربما يرجع ذلك إلى رسوخ الكلمة –أقصد كلمة الحديث- بوصفها اصطلاحًا دالًا على علم "الحديث الشريف" وما اتصل به مع علوم ومعارف، كالسيرة النبوية والمغازيّ والتاريخ واللغة؛ فـ"قد تركز معنى الكلمة حول صحة الرواية وأمانة النقل وانضباطه، بينما توارى معنى المشافهة واللقاء الإبداعي الحميم بين شخصين متفاعلين، أحدهما متكلم والآخر مستمع" [ص: 25].

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ يمكنك أن تربط بين مفهوم "الحديث" ومفهوم المؤلف في التراث؛ فعملية التأليف في التراث بعيدة إلى حد كبير عمّا نعرفه اليوم، هي أقرب إلى التوليف والتنظيم والجمع للمادة العلمية المحفوظة في العقول والمتداولة شفاهة.. ومن هنا وجدت الموسوعات العربية، كما في كتب الجاحظ، والمبرد، والأصفهانيّ، والقاليّ، والحصريّ، والتوحيديّ..إلخ.

لقد تركت مفردة الحديث أو "ضمير المخاطَب" أثرها على جسد المدونة العربية القديمة بشكل واضح، ويمكننا إجمال ذلك في أربعة أمور:

الأول: الحرص على التأثير البلاغي والموسيقي على المتلقي أو المستمع، كما نجد في العناصر الإيقاعية والبلاغية المختلفة التي تستهدف بالأساس التأثير في المستمع أو جذبه إلى فضاء النص؛ كالمحسنات والتكرار والجمل القصيرة والسجع..إلخ. ولك أن تقول: إن النثر من هذه الزاوية كان يحاول الاقتراب من الشعر.

الثاني: يجب أن يكون الحديث أو الخبر قصيراً؛ بما يسمح للذاكرة الشفاهية أن تستدعيه أو تُعيده مرة أخرى.

الثالث: الحرص على الواقعية، أو مراعاة الصّدق في نقل الحديث، والصِّدق مقولة أخلاقية، تمنع المُحَدِّث من استكشاف الأعماق المختلفة لشخوصه، إنه يحدثنا عمّا جرى، وليس له أن يتعمق أكثر فيحدثنا بما يجري في النفوس وإلا كان كاذبًا.

الرابع: كان لمفهوم الحديث ودور "المُحدِّث" أثر واضح في بنية الموسوعات العربية بما تنطوي عليه من أخبار وأحاديث قصيرة؛ لقد جعل منها بنية مفتوحة وقابلة دائمًا للزيادة من قبل التلاميذ والناسخين، وليس أبلغ من ذلك اختلاف الدارسين- مثلًا- حول عدد مقامات "بديع الزمان الهمذاني": أهي أربعون أم أربعمائة؛ فليس في شكل المقامات المستقلة ما يمنع هذه الزيادة أو تلك الإضافة من قبل الناسخين، وقل الأمر نفسه عن الليالي العربية أو "ألف ليلة وليلة"، التي ظلت كتاباً مفتوحًا وقابلًا للزيادة التي تأتيه أو جاءته بالفعل من كل حدب وصوب [ص: 54].

ورغم اتصال مفهوم "الحديث" أو ارتباطه بالشفاهية إلا أنه لم يختفِ بعد عصر التدوين، ويمكنك أن تلحظ حضوره في كثير مما نكتبه ونؤلفه اليوم، حتى إنه يحتلّ عناوين مُهمّة من مؤلفاتنا، مثل: حديث عيسى بن هشام للمويلحي، وحديث الأربعاء، ورواية "حدّث أبو هريرة قال"..إلخ. بل يمكنك أن تجده في كثير مما نكتبه على وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي يحتلّ فيها المخاطب أو المتلقي مكانًا بارزًا؛ إنه موجود دائمًا ويتابعنا، ويمكنه أن يدخل ليسأل أو يستوضح أو يضيف أو يعترض، فالمخاطَب على هذه الوسائط أوجد حالة الحديث أو ما يصطلح عليه بـ"الشفاهية الثانوية" من جديد. ومن المؤكد أن هذه النصوص على هذه الوسائط تحتاج إلى مراجعة في ضوء هذا المفهوم الجديد والقديم.

طه حسين ويوسف إدريس

كان ضروريًا والحال كذلك، أن يعيد خيري دومة النظر في كتابات طه حسين بوصفه أحد المُحَدِّثين الكبار في هذا العصر؛ فخطاب طه حسين يُهيمن عليه الحديث إلى آخر، أو لنقل إننا إزاء "خطاب تضامني" راسخ؛ إذ يحتل فيه المخاطَب (المرويّ عليه) مكانة بازرة على صعيد البنية اللسانية للخطاب، وإلى هذه البنية يمكننا أن نعزو هذه الجاذبية التي يجدها المتلقي في كتابات طه حسين؛ إنه يحدثك أنت طوال الوقت، ويقترح عليك الأفكار والمقدمات، وحين تنتهي إلى نتائج تصبح وكأنها نتائجك أنت أو خلاصتك أنت، وإلى هذا المعنى أيضًا يمكنك أن تُفسّر طبيعة بناء الجملة لديه؛ إذ تلتزم بالقصر والتكرار وتحرص على الجناس والسجع أو الأثر الموسيقي الدال..

 فـ"طه حسين" يقدم بلاغة يمكن وصفها ببلاغة الحديث أو بلاغة "الاستمالة" التي منحته هذه المكانة من التأثير والحضور. ولك بالتأكيد أن ترجع ذلك –في جانب منه - إلى أنه كان يُمْلي كلامه، أقول في جانب منه فحسب؛ إذ لا يمكننا ردّ كل خصائص هذا الأسلوب إلى هذا السبب وحده، وإلا كان لدينا نمط أسلوبي يمكن وصفه بنمط الإملاء، أو أسلوب الإملاء؛ وما أكثر كتب الأمالي في تراثنا التي تدحض هذه الفكرة.

ولعلّ الأقرب إلى الصواب أن نرد أسلوب طه حسين إلى صاحبه، باعتباره اختيارًا من اختياراته، وإصراره عليه، رغم كثرة المنتقدين له أمر لا يحتاج إلى تأكيد، كما أنه من الصعب هنا أن نغفل السياق الذي هيمنت عليه الرؤية الرومانتيكية في النصف الأول من القرن العشرين؛ فطه حسين ابن للسياق الرومانتيكيّ الذي يؤمن بالفرد وامتيازه، وكانت فكرة الإلحاح على الأسلوب المستقل واحدة من الأفكار المُهمّة التي شغلت هذا الجيل، وكان هو مثل غيره يسعى إلى امتلاك هذا الأسلوب المتفرد المستقل.

وهذا الأثر الشفاهي الذي ارتبط بمفهوم "الحديث" أو الخطاب إلى آخر، وجد تجليه لدى كاتب فَذّ مثل "يوسف إرديس"، رغم أن إدريس ابن المرحلة الواقعية، وهذا ما جعل ناقدًا مثل لويس عوض يحتار في وصف واقعيته، فالحديث تذويب للعلاقة بين الذات والموضوع، والواقعية –كما تعلم- تحرص على إبقاء المسافة بينهما، ورغم ذلك، فقد كان إدريس يوظف هذه الطاقة الخطابية لضمير المخاطب، ورغم انشغال نقاده بلغته وما بها من انسيابية فضلًا عن جمعها بين الفصحى والعامية أو قدرتها على تفصيح العامية، إلا أنهم –أي النقاد- لم ينتبهوا إلى الحضور المؤثر للراوي المُحدِّث في كتابات إدريس، فقد بات الراوي لديه -فيما يلاحظ دومة بحق- مرتكزًا أساسياً في قصصه، فــ"أحاديث يوسف إدريس لعبة سردية أو حيلة فنيّة، ومصدرها الأساس موجود في الحكي الشعبي". لقد آثر إدريس أن يكون حضور القارئ أساسياً في سرده، "هناك خطاب ضمني موجه إلينا على الدوام، نستشعره في كل كلمة وفي كل جملة". [ص: 159].

المخاطب في السرد المعاصر

سوف تضعنا تقنية "تيار الوعي" إزاء تحول كبير ومؤثِّر لضمير المخاطب، لن يتجه السرد إلى المخاطب أو القارئ أو المروي عليه على نحو ما وجدنا في التراث أو في سرد طه حسين وإدريس؛ وإنما سيخاطب الراوي نفسه في منولوج أتوبيوغرافي (سيري) مطول، أحيانًا يستغرق النَّص كلّه.

وهنا لن يصبح التواصل سهلًا، وإنما سيغدو النص مربكًا؛ إذ يقع على "حافة الحلم أو الجنون؛ لأنك لا تعلم مَنْ يتحدث إلى مَنْ في هذا العالم القصصيّ، فشخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم.. وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًا بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي" [ص: 188].

لقد تحوّل السرد الحداثي وما بعده بفضل هذا الضمير وتقنية تيار الوعي، وباتت الأنت التي كانت وسيلة شفاهية للاتصال مع القارئ، أو للالتفات إليه لأغراض تواصلية كتأكيد المصاحبة أو التعاطف بين الكاتب والقارئ، باتت الأنت أداة تغريب وانتهاك وعدوان.

يتابع خيري دومة بدايات ظهور هذه التقنية المربكة في السرد العربي؛ إذ يعيد النظر في لغة رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و"رامة والتنين" لإدوار الخراط من خلال هذا المنظور؛ ففي رواية محفوظ يؤكد "خيري دومة" على عدم تنبه النقاد إلى الدور الذي لعبه ضمير المخاطَب، أو "الأنت" في "تجسيد ديناميكية الرواية"، ويقصد بها ثورة الانفعال والنقمة في هذا النص؛ "فضمير المخاطب "في اللص والكلاب" جزء من دراما النقمة، وهي دراما تتجلى أكثر ما تتجلى في الحوارات المقتضبة العاصفة، التي يتشكل منها الجسم الأساسي في الراوية" [ص: 213].

لقد كان صعود ضمير المخاطَب في السرد جزءًا من سياق المراجعة الثقافية والنفسية التي حدثت بعد هزيمة 1967م، اتصل هذا بطبيعة الحال بالذات المنقسمة على نفسها، فهي تفكر وتُسائل وتكتنه العالم الداخلي بطاقات المنولوج، وانكسار الزمن وتحولاته غير المنطقية بين العالم الخارجي والداخل الإنساني.

***

لم يعد بإمكاننا الحديث عن بنية سردية مضطردة ومتصلة ومنطقية؛ فقد تهاوت اليقينيات والأفكار المنسجمة وحل محلها التفكك والتّشظي وعدم الانسجام، ولم يعد السرد مشغولًا بالتواصل مع القارئ بقدر ما بات منشغلًا بإزعاجه وإقلاق راحته وانتهاك خلوته عبر توجيه الخطاب إليه وجذبه إلى هذا الفضاء المفكك، وهذا العالم الذي طغى عليه الارتياب.

هذه الرحلة الطويلة من التراث العربيّ وحتى السرد الحداثيّ وهذا البحث المُدقِّق في طبيعة الضمير أنت، وتلك اللغة الواضحة، جعلت كتاب "أنت.. ضمير المخاطب في السرد العربي" واحدًا من الكتب المرجعية المهمة، التي تستحق القراءة والمتابعة النقدية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها