الاسْتِشْراق الرُوسيّ والعَالَم الإسْلاميّ

د. علاء عبد المنعم إبراهيم



لا تنْبجِسُ حركةُ التجديد في الوعي بالمواقف الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، عن طريق تعدُّد الممارسات القرائية المعنية بتحليل المواقف الآنية ذاتها واستكشاف أسبابها المباشرة وتبعاتها الفورية فحسب؛ وإنما تنبجس كذلك عن طريق الالتفات إلى الماضي وإمعان النظر في التاريخ المُتبطِّن بحساسيات نافذة ومُنعطفات حادة، عبر أدوات إجرائية خصّبتها الكشوفات المعرفية المُحيّنة، ومقاربات نقدية ترشح بأُسس تصوُّرية لفهم الآني عبر الماضي، وهذا ما نجح فيه الدكتور محمود الحمزة -الباحث في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا بموسكو- في كتابه الجديد الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي (دراسات في الاستعراب العلمي في روسيا)



الاسْتِعراب الروسيّ.. الرَّهان على التَّاريخ

بدأت الصلات بين روسيا والعالم الإسلامي زمن الدولة العباسية، حيث تبادلت الدولة الإسلامية السفارات مع روسيا، ولمّا ضمت روسيا إليها بعض المناطق الإسلامية ازداد الاهتمام بالإسلام والعالم الإسلامي، وقد أفادت روسيا من الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا خصوصاً في فرنسا، حيث أوفدت روسيا بعض الباحثين للدراسة في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس. وقد شجعت الحكومات الروسية في العهود المختلفة دراسة التراث العربي الإسلامي خصوصاً ذلك الذي يتعلق بالأقاليم الإسلامية الواقعة تحت سيطرة روسيا، وذلك لتوسيع المعرفة بالشعوب الإسلامية، وكانت المصادر الثقافية العربية تشكل ركناً أساسياً من مصادر معرفة شعوب القوقاز وآسيا الوسطى، هذه المعرفة انعكست بشكل إيجابي لمصلحة روسيا كما يعترف بذلك المستشرقون أنفسهم، بل ذهب الأمر ببعض هؤلاء إلى اعتبار التراث الشرقي الإسلامي جزءاً من تراثهم.

لقد كان للاستعراب الروسي منذ البداية مدرستان متمايزتان، ارتبطت إحداهما بوزارة الخارجية الروسية، وقد أسهمت هذه المدرسة في خدمة القرار السياسي والمصالح الروسية الخارجية إذ برز في ذلك الوقت اتجاه للدراسات الشرقية لأغراض سياسية، أما المدرسة الثانية فقد اعتمدت الطابع المعرفي العلمي البحت، وحرص المستعربون فيها على استقلالية عملها. هذه المدرسة نشأت وما زالت في بطرسبورغ.

لقد مر الاستعراب الروسي بمراحل متعددة امتدت من فترة ما قبل الثورة البلشفية إلى مرحلة متقدمة في تاريخه. وساهم فيه رجالات عدة من داخل روسيا والاتحاد السوفياتي ولاحقاً من خارجها.‏ وهذا يعني أن الاستعراب الروسي كان في بدايته ما يزال يعتمد على الخبرات الأجنبية القادمة من أوروبا الغربية. لكنه ما لبث أن تجاوز ذلك إلى خبرات محلية وشرقية.‏

وشهدت فترة حكم الأمبراطورة يكاتيرينا الثانية موجة من الترجمات إلى الروسية لمؤلفات وقصص عربية من لغات أوروبية مثل «ألف ليلة وليلة»، وقصص أدبية أخرى.

ومنذ بدايات القرن التاسع عشر بدأت تتبلور قاعدة واضحة لمدرسة الاستعراب العلمي في روسيا والتي تزامنت بنشاطات علمية كبيرة مثل جمع المصادر وتصنيفها في المكتبات، وكانت مدينة بطرسبورغ مركزاً أساسياً لتلك النشاطات بعد مدينة قازان.

لقد أسَّسَتْ العلاقات الثقافية القديمة بين العرب والمسلمين، لتواصل مستمر توارثته الأجيال من الشعبين العربي والروسي عبر حقب مختلفة من الزمان، وتأثرت هاتان الثقافتان ببعضهما البعض من خلال الرواد من المبدعين الكبار، فالكاتب الروسي مكسيم غوركي يعلن مفاخراً عن تأثره بالثقافة العربية فيما كتبه عن الأساطير، حيث قال: «ينبغي أن أعترف شخصياً أن الحكايات كان لها تأثير إيجابي تماماً على نموي العقلي حين كنت أسمعها من ثغر جدتي والرواة الريفيين، وقد أذهلني ورفع من تقديري للحكايات وأهميتها حقيقة كونها عملاً منشوراً. لقد قرأت في عمر الثانية عشر «الأساطير العربية الجديدة... لقد كانت طبعة من طبعات الأقاليم الصادرة في القرن الثامن عشر».

كِتاب الاسْتِشراق الروسيّ.. الهَدف.. الأهمِّية

يهدف الكتاب وفقًا لمؤلفه الدكتور حمزة إلى إطلاع العالَم على الدور الهائل للمستعربـين الروس في دراسة التـراث العربـي والإسلامـي في القرون الوسطى. ويعتبـر الكتاب رسالة للمهتمـين بالتـراث والثقافة للتعرف على أشهر المستعربـين والباحثين الروس في تاريخ وفلسفة العلوم العربـية، والاهتمام بتلك البحوث القيمة التـي نشرت بالمئات، ولم يصل إلا النادر منها إلى القارئ العربـي.

تأتي قيمة الكتاب من خلال الأهمية البارزة للثقافة العربية والإسلامية في التاريخ العالمي بعامة وفي تاريخ العلم بخاصة، والتي أصبحت الآن أمراً معروفاً ومتفقاً عليه. فقد احتل التراث العربي، منذ زمن، مكانة مرموقة في الثقافة العالمية، وأصبح جزءاً أساسياً من الثقافة الإنسانية العامة. كما أدت أبحاث العلماء في كثير من الدول والتي بدأت منذ عدة قرون إلى إلقاء الضوء على دور المؤلفين العرب في القرون الوسطى (الذين عاشوا وعملوا في مساحة واسعة ممتدة من أسبانيا وشمال إفريقيا حتى الهند) في تطوير فروع كثيرة من العلم: التاريخ، الجغرافيا، الكيمياء، البيولوجيا، الطب، العلوم الرياضية والفيزيائية. وكان للعلماء الروس (والسوفييت) نصيباً وفيراً وإسهاماً متميزاً في دراسة الثقافة والعلم العربيين، وبما فيهم المستعربين والمتخصصين في بعض المجالات العلمية الدقيقة.

وقد عمل مؤلف هذا الكتاب في مجال المخطوطات العلمية لحوالي عشرين سنة وسعى بكل موضوعية لإبراز الإسهامات العلمية العربية والإسلامية بشكل عام، وفي المغرب العربي والأندلس بشكل خاص؛ لأن الأخيرة كانت غائبة عن المكتبة العلمية الروسية.

ونميز في تاريخ دراسة العلم العربي في روسيا والاتحاد السوفيتي (سابقاً) جانبين: فمن جهة- التسلسل الزمني لهذه الدراسة ومن جهة أخرى إشكالية الدراسة. وفي نفس الوقت فهما مرتبطتان بشكل قوي مع بعضهما البعض.

تتميز المرحلة الأولى من دراسة العلم العربي في روسيا بالبحوث في مجال الاستعراب في المعنى الضيق للكلمة: دراسة اللغة والأعمال الأدبية والدينية. واختتمت هذه المرحلة في أواسط القرن 19م بنشوء مدرسة الاستعراب الروسية، والتي حظيت بتقدير عال من المستعربين في العالم بأجمعه. أما دراسة المؤلفات العلمية (كالرياضيات وغيرها) العربية، فتعود إلى مرحلة متأخرة نسبياً، وقد بلغت مستوى متقدماً من التطور في منتصف القرن العشرين.

وقد قام المستعربون الروس بإجراء بحوث عميقة من خلال دراسة أعمال العديد من العلماء العرب والمسلمين مثل الخوارزمي والبيروني، وثابت ابن قرة وابن سينا وعمر الخيام، وعبد الرحمن الخازني ونصير الدين الطوسي وأبي كامل المصري، وأبي الوفاء البوزجاني وجمشيد الكاشي، وبهاء الدين العاملي وابن عراق وابن البغدادي وغيرهم الكثير. ومن أبرز المستعربين الروس الذين تركوا بصمات في دراسة تاريخ الرياضيات العربية نذكر أ. يوشكيفيتش وب. روزينفلد وغ. ماتفييفسكايا وم. روجانسكايا وإ. لوتر وغ. د. مامدبيلي وغ. د. جلالوف وم. ي. ميدفوي وبولغاكوف وأحمدوف والدباغ وغيرهم. وقد كان لي شرف العمل مع بعض هؤلاء العلماء مثل ماتفييفسكايا وروجانسكايا ولوتر، وإنجاز عدد من الأبحاث المنشورة في مجلات علمية مرموقة.

روسيا والعَرب.. مِنْ العَلاقات الثَّقافية إلى مَكانة العالم العربي

يركز الفصل الأول المكرس للعلاقات الثقافية القديمة بـين روسيا والمشرق العربـي الإسلامـي على: اهتمام الروس بالمشرق العربي في عهد الأمبراطور بطرس الأول، وعن بدايات مدرسة الاستعراب وتشكلها في القرن التاسع عشر، وعن تأثيـر التـراث العربـي والإسلامـي في الثقافة الروسية، ودور التـرجمة في التفاعل الثقافي بـين العرب والروس، وكذلك تأثـر الأدباء الروس بالثقافة العربـية والإسلامـية مثل بوشكين وليرمنتوف وتولستوي وبونين وتـيخونوف، وتجسد ذلك أيضاً في ترجمات القرآن الكريم إلى الروسية.

كما يتضمن هذا الفصل العلاقات الروحية المسيحية بـين روسيا والمشرق العربـي، فتم عرض لمحة عن تاريخ العلاقات الروحية بين روسيا والمشرق العربي والاهتمام الثقافي لروسيا القيصرية بالأراضي المقدسة وبلاد الشام، وعن رحلة البطريـرك مكاريوس بطريـرك أنطاكية ودمشق إلى روسيا وكتابة كراتشكوفسكي عنها، وتضمن هذا الفصل أيضاً معلومات تاريخية مهمة عن دخول الإسلام والمسيحية إلى روسيا وتطرق إلى موضوع فكري وسياسي حساس بالنسبة للمفكرين والكتاب الروس وهو الهُوية الروسية بين الشرق والغرب.

ويحمل الفصل الثاني عنوان: تاريخ الروس في الأبحاث والمؤلفات العربية، ويتناول الحديث عن أصول الروس على ضوء أعمال المؤرخين العرب، وكذلك رسالة أحمد بن فضلان كأقدم مرجع عن تاريخ الروس.

ويحتل الفصل الثالث حيزاً كبيراً في هذا الكتاب، وقد كرس لتاريخ الدراسات الاستعرابية في روسيا ويتضمن الأقسام التالية: مدرسة الاستعراب الروسية في القرون 18 و19 و20، وخاصة مرحلة كراتشكوفسكي، واستعرض الفصل سير حياة أشهر المستعربـين الروس مثل: كاظم بـيك، بـيـريـزين، غيـرغاس، روزين، بارتولد، كريمسكي، كراتشكوفسكي، دانتسيغ، غرانده، بيغوليوفسكايا، بيليايف، يوشمانوف، بيلكين، كوفاليوف، دولينينا، فرولوفا، غابوتشيان، ميدفيدكو (وابنه وحفيده)، شيخ سعيدوف، بولشاكوف، بريماكوف، خالدوف، لاندا، بروزوروف، بياتروفسكي، نعومكين، فرولوف، ريزفان،

ويتضمن الفصل الثالث السير الذاتية لشخصيات أدبية عربية مؤثِّرة في الاستعراب الروسي مثل: الشيخ محمد عياد الطنطاوي، وكلثوم عودة- فاسيليفا، وبندلي صليبا الجوزي، وميخائيل نعيمة، ومكي أحمد بن حسين المكي، وجرجس إبراهيم مرقص، وعبد الله قلزي، وميخائيل يوسف عطايا، وفضل الله صروف، وأنطوان خشّاب، وسليم نوفل، وتوفيق جبران قزما. كما تم التعريف بالمتحف الآسيوي (الذي أصبح لاحقاً معهد المخطوطات الشرقية في سان بطرسبورغ)، ومعهد لازاريف للغات الشرقية في موسكو (الذي أصبح جزءاً من معهد الدراسات الشرقية في موسكو).

أما الفصل الرابع وعنوانه تاريخ الاستعراب العلمـي في روسيا، فقد احتوى على أقسام تتعلق بمدرسة الاستعراب العلمـي في روسيا، ومؤسسها يوشكيفيتش، والنتائج الأساسية لمدرسة تاريخ العلوم العربـية في روسيا، ودراسة الفلك والطب والفلسفة والمـيكانـيكا العربـية، وإسهام المستعربـين الروس في دراسة المخطوطات العلمـية العربـية من خلال دراسات ماتفييفسكايا حول تطور مفهوم العدد وأعمالها الأخرى. واحتوى هذا الفصل على تعريف بالمخطوطات النادرة لابن الهيثم، التي عثر عليها في جامع مدينة كويبشيف الروسية.

كما تم الحديث بالتفصيل عن الموسوعات الروسية المكرسة لتاريخ العلوم العربية في القرون الوسطى. وخاصة المدرسة السوفياتـية في تاريخ الرياضيات، وكتاب يوشكيفيتش عن الرياضيات في البلاد الإسلامـية، وكتاب ماتفيفسكايا حول تاريخ علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامـي ومؤلفاتهم في القرون الوسطى.

واحتوى الفصل الرابع على السير الذاتية لأشهر مؤرخي الرياضيات العربـية في روسيا: يوشكيفيتش، روزنفيلد، ماتفييفسكايا، روجانسكايا.

ويقدم الفصل الخامس عرضاً موسعاً لخزائن المخطوطات العربـية في مكتبات روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة: في معهد المخطوطات الشرقية فرع سان بطرسبورغ، والمكتبة الوطنـية الروسية (سان بطرسبورغ)، والمكتبة العلمـية في جامعة سان بطرسبورغ، والمكتبة العلمـية لجامعة قازان (مكتبة لوباتشيفسكي)، ومعهد الاستشراق التابع لأكاديمـية العلوم في جمهورية أوزبكستان، ومخطوطات العلوم الرياضية والفيـزيائية.

ويتضمن الفصل السادس لمحة عن تاريخ العلوم العربية في المغرب العربي والأندلس والتواصل العلمـي مع المشرق العربي.

وقد كرس المؤلف الفصل السابع لموضوع فكري فلسفي يتعلق بمكانة العلم العربـي وأسباب تراجعه وتضمن: أهمـية التـراث العلمـي العربـي والإسلامي في الرياضيات، وتدهور العلم العربـي وإمكانـية استعادته، وتقدم العلوم في الحضارة العربـية الإسلامـية، وأهم الإسهامات الرياضية للعلماء العرب، بالإضافة إلى كيفية انتقال العلوم العربـية وتأثيـرها في النهضة الأوروبـية. وتم التوقف عند أهم عوامل تدهور العلم العربـي وأسباب عدم تحوله إلى العلم الكلاسيكي الحديث. وأخيراً تناول الفصل أقساماً مثل: النظرة إلى العلم العربـي، ووضع التعليم العالي وحرية البحث، وعلاقة العلم بالدين. وكذلك عن التفكيـر الرياضي –كنموذج للمعرفة العلمـية، وعن الرياضيات العربـية والشعر في القرون الوسطى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها