وَزنُ الكلمات.. الرواية الأخيرة لباسكال ميرسيه

أحمد الزناتي

في سنة 2004 أصدر رواية "قطار الليل إلى لشبونة"، التي تصدّرت قوائم البيست سيللرز العالمية لشهورٍ طويلة ثم تحوّلت إلى فيلم شهير. يعرفه العالم باسم "باسكال ميرسيه Pascal Mercier"، لكن ربما لا يعرف الكثيرون أن اسمه الحقيقي "بيتر بيري Peter Bieri".
 


باسكال ميرسيي Pascal Mercier


وُلد باسكال ميرسيه في 23 يونيو/حزيران 1944 في مدينة بيرن السويسرية. دَرس الفلسفة واللغة الإنجليزية وآدابها والهندية وآدابها في جامعتيّ لندن وهايديلبيرغ، حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1971 حول "فلسفة الزمن". دَرجَ على الكتابة باسم مستعار عُرف به عالمياً وهو باسكال ميرسيه، والاسم مشتقّ من الاسم الأول للمفكّر الفرنسي بليز باسكال، والاسم العائلي للفيلسوف لويز سباستين ميرسيه.
 

في مقال نشرته مجلة دير شبيجل Der Spiegel الألمانية وُصِف ميرسيه بأنه "كيس الملاكمة" الذي يتلقّى لكمات النقد الأدبي في الدول الناطقة بالألمانية. فروايته ذائعة الصيت "قطار الليل إلى لشبونة" طبقت شهرتها الآفاق وتُرجمتْ إلى لغات عديدة، وحين أصدر روايته "ليا" في سنة 2007 لم يسلم من سهام النقد الحادّ لما وُصِفتْ به الرواية من ضعف في المستوى الفني.


قبل شهورٍ قليلة أصدر ميرسيه رواية ضخمة بعنوان: "وزن الكلمات Das Gewicht der Worte" صدرتْ عن دار "كارل هانز" الألمانية. تبدأ الرواية بوصول البطل سيمون ليلاند إلى مطار هيثرو بلندن قادماً من مدينة تريستي الإيطالية. ليلاند رجل عاشق، كل ما يحبّه يبدأ بحرف اللام "لندن"، زوجته المُتوفاة "ليفيا" والأدب = Literatur. وشأن كل أدب عظيم تدور أحداث الرواية حول الذاكرة. يبدأ البطل الستيني رحلة في شوارع لندن مقتفياً أثـر ذكريات بعيدة طَواها الزمن.

بطل الرواية شخصٌ مفتون باللغات منذ نعومة أظفاره، فيشتغل مُترجماً ضد إرادة والديْه، واضعاً نصب عينيه هدفاً واحداً وهو إتقان جميع لغات البحر المتوسط. يغادر لندن وراء فتاة فاتنة ذات شعر أحمر اسمها "ليفيا" هي زوجة المستقبل، وتحديداً إلى مدينة تريستي الإيطالية، حيث يُتوفى والد الفتاة وترث عنه دار نشر، فيعمل البطل مترجماً ويعثر على ضالته في "تريستي"، مأوى كبار الأدباء. في البداية يكون البطل ليلاند مفتوناً بالترجمة وباللغات وبقدرة الترجمة على أن تنقل إليه أدقّ المشاعر حيث نقرأ في بداية الرواية:
"لا شيء يخفى على المترجم، فهو قادر على الشعور بالمسافة الفاصلة بين المؤلف والنص، بل إنه يشعر بالمسافة الخافية على مؤلف النصّ نفسه، أحسّ بهذه المسافة حتى في اليدّ التي تكتب النصّ".

للعنوان نصيب وافر من أحداث الرواية. فالرواية مثقلة بالكلمات الصعبة والسهلة على حدّ سواء، قادمة من جميع اللغات التي يتقنها البطل المُترجم، يتفحّص البطل ومن ورائه ميرسيه بطبيعة الحال ما يقبل الصوغَ داخل كلمات وما لا يتجاوز تخوم الألفاظ. يتعجّب البطل نفسه من قدرته على أن يأتي بقطعة من حياته لم يسبق وأن صِيغَت داخل كلمات.

على مدار الرواية يؤكد سيمون لجميع شخوص الرواية أنّ رؤيته للأشياء مرهونة بتحويلها إلى كلمات، فالأشياء/ التجارب/ الذكريات لا تكتسي شكلاً واضحاً إلا إذا طوّقها بالألفاظ كي لا تنفلت. أزمة اللغة حاضرة بقوة داخل العمل. لا تكاد الكلمات السابقة التي سمعها في رسالة وداعٍ أرسلها عـمّه أستاذ الدراسات الشرقية الراحل "وارين شوان" تفارق ذهنه، فيعود البطل من مدينة تريست التي عاش فيها نحو أربعة وعشرين عاماً إلى وطنه الأم لتسوية موضوع التركة والإرث الذي آل إليه من عـمّه.

وبينما يتأمل سيمون منزل عمّه الخاوي يعود بذاكرته إلى سنوات الطفولة الضائعة واللحظات الحاسمة التي أسبغتْ على حياته معنى وغاية. يتذكّر البطل مثلاً خارطة كبيرة للبحر الأبيض المتوسط كانت مُعلقة في غرفة المعيشة، فتقفز إلى ذهنه فجأة فكرة تأتيه عفو الخاطر، ويقول لعمّه إنه يودّ تعلم جميع لغات دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهي فكرة يُدهش لها البطل شخصياً لكنه يفكّر أنها تلخّص حياته كلها، فيضحك عمّه البروفيسور وارين شوان، قائلًا: "ليس مستحيلًا.. أثق بِكَ، ولتبدأ الآن.. لا تنسَ تعلّم اللغة المالطية"!

مدفوعاً بشغفه الذي لا يشبع من كلمات الجديدة، يتعلم ليلاند أيضاً -من بين أمور أخرى- الروسية والعبرية والألمانية. أصبح مترجماً مرغوباً وعمل لدى ناشرين مختلفين حتى ورثت زوجته ليفيا دار النشر وانتقلا إلى تريست. نقطة تحول مصيرية في حياة ليلاند. بعد سنوات طويلة من العمل مُترجماً يتملّك ليلاند شعور قوي بالامتلاء من كلمات الآخرين وأفكارهم، شعور طافح بالمرارة بأنه يخدم سيداً آخر، لا نفسَه، حتى تأتي اللحظة التي يمرّ فيها بتجربة مريعة تخرجه عن طورِه، إذ ينتابه دوار حادّ وتأخذه رعدة قوية تسلب منه القدرة على النطق باللغات التي يتقنها.

يتنابه شعور بالاختناق، وكما يشعر جسد المرء أحياناً بالشلل تشعر الروح أيضاً بالشلل؛ لأن لغة الروح قد فاض ماؤها، أسكنتْ قبراً وأقفل عليها. يحدث ذلك حينما يغرق المرء في أفكار الآخرين ولغتهم، حينما يصير عاجزاً عن التعبير بكلماته عن أفكاره ومشاعره لثقل كلمات الآخرين وطغيانها عليه. يريد الآن أن يجد طريقه الخاص كما نقرأ في الفقرة التالية:
"لطالما ساعدت الآخرين دائماً على التحدث بلغتك. أعرتهم صوتَ لغتك وأعطيتهم صوتك الخاص بلغتك. كيف يبدو صوتك بهذه اللغة؟ كيف تبدو نفسك"؟

يعرض نفسه على أحد الأطباء الذي يطلب أشعة مقطعية على الدماغ. يخبره كبير الأطباء أنّه مصاب بورم خبيث في المخ وأنّ أيامه معدودة فيبيع دار النشر. لكنه يكتشف لاحقاً أن نتيجة الفحوصات الأولى غير دقيقة وأنه لا يعاني ورماً في المخ كما أشار التشخيص الأول وكاد يقضي على آماله. يقول البطل ليلاند: "ففي مواجهة موتٍ وشيك ترتب أمورك وتجلس منتظراً العَدم".

شيئاً فشيئاً يعيد البطل جمع شتاته وترتيب أوراقه بعد حالة اليأس التي نالت منه، متذكراً تشجيع عمّه قبل سنوات طويلة يجلس البطل إلى مكتبه في منزله بأحد ضواحي لندن ويشرع في كتابة أول قصة في حياته، لكنه يراها بداية صعبة معقدة فصوت المترجم ما يزال ساكناً بين ضلوعه، كاتماً على أنفاس صوته الحقيقي.

يقول البطل في مونولوج داخلي:
"كيف يمكنني استخدام الكلمات التي طالما ستخدمتها لقول شيء غريب عني، في قول شيء نابعٍ مني؟ ما معنى أن تكون لدي كلمات تخصّني وهي نائشة من رحم اختلاطي بآلاف الكلمات القادمة من لغات أخرى أجنبية؟ صوتي [السردي] الخاص.. كيف لي أن أتعرّف عليك؟" على مدار الرواية الضخمة (537 صفحة)، يمنح الروائي باسكال ميرسييه بطله مساحة تساعده على اكتشاف قدراته الإبداعية تدريجياً. نلمح ذلك بوجه خاص حينما يشحذ البطل ليلاند حـسّه اللغوي لمراقبة الفروق اللغوية الدقيقة بين الألفاظ،، يتفحّص العبارات المختلفة للتعبير عن معنى ذهني بعينه، ويضع كل كلمة على ميزان من ذهب ليزنها بغية الوصول إلى التعبير الأدقّ والأقدر على وصف ما يريد قولَه. والحقيقة أن الصوت السردي للمؤلف نفسه ليس أقل رهافة من ميزان البطل ليلاند، حيث يرافق البطل في كافّة مراحل تطوّره وصولًا إلى كتابة القصة التي تحقّق وجوده.

الحقيقة أن المؤلف يمزج بين العديد من الأشكال والموضوعات المتباينة في هذا العمل، بحيث يصعب على القارئ القول إن ثمة محوراً جوهرياً تدور الأحداث حوله. فالرواية تزخر بتأملات حول مسألة القتل الرحيم واستهانة الأطباء بصحة مرضاهم، وإشارات إلى قضية المرأة في العالم العربي، والفقر وتوزيع الثروات. وفي نهاية النص المتشظية الأحداث والثيمات يقف البطل سيمون ليلاند أمام التحدي الحقيقي في حياته، ألا وهو كتابة رواية مستخدماً ألفاظه، حيث نقرأ الفقرة التالية: "أدركتُ فجأة أن مراد هذه الرواية كان أبعد من مجرد العثور على كلماتي الخاصة. حيث كانت المهمة أكبر حجماً وأكثر إثارة للقلق والإزعاج، كانت المهمة هي العثور على تجربة لحياته الخاصة".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها