المفاهيم الجمالية في اللغة العربية

قراءة في كتاب "العربية وفلسفة الجمال" للدكتور سعد الدين كليب

د. بتول دراو


صدر كتاب العربيّة وفلسفة الجمال "قراءة جماليّة في لسان العرب" عام 2022، في مركز أبو ظبي للغة العربيّة. يتألّف الكتاب من قسمين اثنين: جاء القسم الأول وعنوانه (العربيّة وفلسفة الجمال" قراءة جماليّة في لسان العرب") في أربعة فصول هي: (في اللغة والوعي والثقافة)، (فلسفة الجمال في العربيّة)، (المفاهيم الجماليّة والفنّيّة في العربيّة)، (قراءة في ألفاظ جماليّة مختارة).. أمّا القسم الثاني فجاء بعنوان: (معجم الألفاظ الجماليّة في لسان العرب).


إنّ المرتكزات الأساسيّة للكتاب هي: المادّة/ اللغة، والفلسفة/ الجماليّة، والمعجميّة.. أمّا المادة فهي هنا اللغة العربية التي هي شديدة الغنى المعرفيّ والثقافيّ والاصطلاحيّ ممّا جعلها مادة ضخمة، وقد ضُبطت وحُددت بالركيزة الثانية في الكتاب وهي فلسفة الجمال؛ أي القراءة الجماليّة للغة ممّا بدا عملاً علميّاً ودقيقاً ومكثّفاً على صعيدي التنظير والتطبيق معاً؛ وأمّا المعجميّة فهي لسان العرب الذي اختزل عدة معاجم سابقة عليه؛ فجاء معجماً بغزارة معروفة؛ متضمّناً العديد من المعاجم السابقة عليه، وهي كما ذكرها المؤلف: الجمهرة لابن دريد/ القرن الثالث الهجري، وتهذيب اللغة للأزهري والصّحاح للجوهري/ القرن الرابع الهجري، والمحكم لابن سيده/ القرن الخامس الهجري، والنهاية لابن الأثير/ القرن السابع الهجري، أمّا لسان العرب لابن منظور ففي القرن الثامن الهجري.

وبناء على ذلك يكتفي المؤلّف بأن تكون تسمية العربيّة دالاً على ما جاء في لسان العرب خاصّة من باب التغليب، ممّا يجعلنا أمام عمل واسع ومكثف، ولعله بهذا يكون أوّل كتاب يتناول اللغة بوعي جماليّ متميّز وبهذا الشكل المختلف عمّا عهدناه في الدّراسات اللّغويّة التي بدت إنجازاتها العلميّة حاضرة في حديث المؤلّف في الجزء الأول منه خاصّة.

يقدّم كل فصل من فصول الكتاب حقلاً علميّاً هامّاً في الإطار الذي وضعه فيه المؤلّف، ففي الفصل الأول منه الذي جاء بعنوان: في اللغة والوعي والثّقافة، يتحدّث المؤلّف عن التأسيس اللسانيّ- الدلاليّ للغة، من خلال حديثه عن كل من الدال والمدلول والمرجع والعلاقات القائمة بينها، وعن اللغة والكلام، ثم الحديث عن الوعي الجمالي وتمايزه من أشكال الوعي الأخرى، وهي: الوعي الأخلاقيّ والدينيّ والجماليّ والحقوقيّ- القانونيّ والسياسيّ والفلسفيّ، فامتاز الوعي الجماليّ بالابتكار، وهي أشكال متداخلة ومختلفة "فما يتطلّبه الوعي الديني من اللّغة لا يتطلّبه الوعي السياسيّ أو الفلسفيّ مثلاً، وما يبتكره الوعي الجماليّ من دلالات لا يصلح بالضرورة للتعبير عن الوعي الأخلاقيّ أو الحقوقيّ؛ وعلى اللغة في كل ذلك، أن تحتضن وتتوالد أيضاً، بالإضافة إلى احتضانها للوظيفة التواصليّة بين البشر، وتوالدها المستمر من خلالها كذلك".

وبناء على ذلك يوضّح المؤلف خصوصيّة الوعي الجمالي، وإنّ أهمية الوعي بهذا الوعي الجمالي لها دور في مسألة التفسير اللغوي خاصة، إذ إن هذا العدد الوفير من المفردات في منظومة لغويّة واحدة جاء دالاً على التنوّع الكبير في العلاقات الجماليّة، نظراً لأن الإنسان "بطبيعته كائن جماليّ بقدر ما هو كائن اجتماعيّ وبقدر ما هو كائن ناطق أيضاً"، وهنا تبدو أهميّة اللغة لميزتها وخصوصيّتها لدى الإنسان، حيث لا يمكن لغير اللغة أن يكون دالاً عليها، وبما أننا نتحدث عن الإنسان بوصفه كائناً جمالياً، فإنه ليس فرداً مستقلاً بل هو بعلاقاته بالأفراد، فهو "لا يعيش وفق تصوراته الجماليّة ومثله العليا فقط، وإنما ينتج ويبدع أيضاً وفق قوانين الجمال المرعية لديه؛ وهي تصورات ومثل وقوانين تتبدى باليد مثلما تتبدى باللسان. بل إن اللسان هو الذي يسوّغ ما تقوم به اليد، وهو الذي يعطيه أبعاده الفكريّة والثقافيّة". إذ اللغة بأهمّيّتها الإنسانيّة، فهي المادة التي تختزن مجمل علاقات الإنسان بالواقع، (فرداً ومجتمعاً)، ومنه كان حديثه عن اللغة والثقافة الجماليّة، حيث إنّ مسائل المعرفة والاكتساب والذوقيّة تبيّن علاقات الإنسان بالعالم كله، أي "إنّ مجرد حضور العلامات أو المفردات الدالّة على الثقافة الذوقيّة في اللغة، يدلّل في ذاته على الأنشطة والمواقف والمشاعر الجماليّة، وعلى الوعي الذي يقف وراءها، ويدلل كذلك على الظواهر والأشياء والعناصر الموضوعيّة المقوّمة جماليّاً في تلك الثقافة"، وهو ما يفسّره المؤلّف في كتابه.

وقد أوضح المؤلّف في هذا الفصل الأسس الكبرى لحقول: اللغة والوعي والثقافة، وهي متداخلة ومتفاعلة فيما بينها، ولا يمكن النظر في الجانب المعجمي- الدلالي بعيداً عن الوعي بتلك الأسس، وبالشكل الذي تنبني عليه تلك الأسس، ممّا يعني أنّ النظرة الجزئيّة في المفردات اللغويّة لا بد لها من أن تتمّ وفقاً للرؤية الكلّيّة المرتبطة بكل من النظام اللغويّ والوعي به والثقافة الناجمة عنه، ومنه نجد أن الكتاب لم يخلُ من إشارة المؤلف إلى التقاطعات مع دراسات سابقة عليه واختلافه عنها، إلا أنه جاء بنظرة كلّيّة متضمَّنة تلك الدراسات ما أمكنه ذلك وبما ينسجم مع المنهجيّة لدى المؤلف، وبتوضيح من المؤلف لنقاط التشابه والاختلاف جزئياً أو كلياً، كما في حديثه عن ابن جنّي من القدماء أو شربل داغر من المعاصرين.

وجاء الفصل الثاني في الكتاب بعنوان: "فلسفة الجمال في العربيّة"، وهو في جزأين: فلسفة الجمال: إحصاءات ودلالات. وفلسفة الجمال: الأسس العامة. وفيه انتقال للحديث في الحركة الداخليّة للغة، أي كيف انعكست أسس الفصل الأول في الثاني منه على صعيد المادة الدرسية المعتَمَدة في الكتاب: اللغة. وإن جاء الجزء الأول من الفصل بعنوان: إحصاءات ودلالات فإن الغاية الأساسية منه لم تكن الإحصاءات بقدر ما كان الأهم هو الدلالات وتبديات هذه الدلالات، كأن تكون اللغة العربية هي لغة الجمال بالدرجة الأولى انطلاقاً من الإحصاءات الواضحة في ذلك. وقد عُني المؤلف" باللغة من حيث هي مواد معجميّة دالّة جماليّاً" وهو الأهمّ بالنسبة إليه، وأمام كثرتها وتعددها واتساعها كان لا بد من نظمها في حقول دلاليّة وأسس فلسفيّة، من دون أن يعني ذلك نفي التقاطع بين الحقول والأسس، إذ إنه "لا حدود للدلالات الجماليّة في الكلام"، ولا نفي للتقاطع على صعيد الحقول والأسس.

يحدّد المؤلف الحقول الكبرى للدلالات الجمالية وفق الآتي:
المفاهيم، الصفات، العناصر، الألوان، الزينة، الفنون، الأداء، المشاعر. وإنّ تحديدها بهذا الشكل الدقيق يوضح الأطر العامّة للمواد المعجميّة ذات الدلالة الجماليّة، ويجعل اللغة تنتظم وفقاً لتلك الحقول، أمّا فلسفة الجمال في العربيّة فإنّها محددة أيضاً بأسس هامة تُضاف إلى أهميّة الحقول الجماليّة، فهي قائمة على كل من الموضوعيّة والخيريّة والحيويّة والنسبيّة والتدرّج القيمي. وهذا يعني أننا بهذا الشكل نستطيع فهم اللغة لا بوصفها وسيلة للتواصل فحسب، فهذا حاضر بالتأكيد، وإنما بوصفها تهتم بالدقة في التعبير، ولذلك سنجد أننا في هذا الفصل نجد السمات والخصائص التي ترتبط بالمواد اللغويّة، ليأتي الفصل الثالث: المفاهيم الجماليّة والفنّيّة في العربيّة، حيث التّخصّص اللغوي فيه أكثر من الفصلين السابقين، ولنجد التدرج الدرسيّ لدى المؤلّف، حيث الحضورُ الفعليّ- الواقعيّ للمادّة اللغويّة في سياق محدّد، من ذلك أنّه يتحدث عن مفهومي الجمال والجلال في الفكر الصوفي الذي هيمنت فيه هاتان المفردتان، في حين تعلو مفردة الحسن في العربية/ لسان العرب، والسبب هو ارتباط مفردتي الجمال والجلال بالفكر الصوفي الذي انبثقتا عنه، ثم يتحدث المؤلف عن الفنون والصفات والألوان المشاعر.

أمّا في الفصل الرابع "قراءة في ألفاظ جمالية مختارة"، فإننا –تطبيقياً- سنكون على تماس مباشر مع المادة/المفردة ذاتها وبدلالاتها الخاصة بها، ولا يمكن لنا أن نقرأ هذا الفصل إلا في ضوء الفصول السابقة عليه، وقد اختص الفصل بخمس وعشرين مادة معجميّة، توزعت وفقاً للحقول والأسس، واختص بعضها بدلالة واحدة أو أكثر، وتبدت الفلسفة الجمالية في هذه القراءة للألفاظ كما قدمها المؤلف، إذ سنجد كيف أن للأصوات اللغويّة حضورها الحيّ في الواقع، وكيف تنعكس في البنية الصوتيّة- اللّغويّة مرجعاً ومدلولاً ودالاً مع إمكانيّة حضور الابتكار الجماليّ بحسب المادة ذاتها.. ومما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أنه لا يقف عند المواد المعجمية بوصفها تاريخاً، فهذه دلالة حاضرة بالتأكيد، وإنما يتوجه إلى اللغة بوصفها فعلاً نشطاً وذا حضور مستقبليّ ضمن الأطر الجماليّة والثّقافيّة التي توجّه فيها ذلك الحضور المستقبلي، من خلال إمكانيّة التوليد والتفتيق -كما يذكر المؤلف- انطلاقاً من علوم اللغة نفسها من جهة ومن القراءة الجماليّة للمواد المعجميّة من جهة أخرى وحضور الأنساق المعرفيّة-الثقافيّة من جهة ثالثة.

تبدو القراءة الجماليّة في هذا الفصل متنوّعة ومتعدّدة، إذ لا تشبه قراءة منها لمادة من الموادّ غيرها، فقد يحدث أن تتقاطع بعض المواد وقد يحدث أن تصل إلى أعلى حدود التشابه إلا أن ثمّة إحدى الدّلالات الخاصّة بهذه أو تلك من المواد ممّا يمنع التّطابق والتّرادف في آن، فلم يحدث أن ترادفت مادتان إلى حد التطابق. كما أن التنوّع الذي جاء في قراءة المواد جعل التفاوت الدلاليّ واضحاً في المفردات، فمنها ما جاء مرتبطاً بدلالة أساسيّة مهيمنة، وقد بدت هذه الدلالة هي الأكثر وضوحاً، كما في الأبّهة التي ارتبطت بمفهوم الجلال، إلا أنها ليست إياه، فالدلالة المهيمنة للأبهة هي صفة الجلال التي هي الأصل، ولذلك يتحدث المؤلّف هنا عن مفهوم الأبّهة بارتباطه الوثيق بصفة الجلال وليس مفهوم الجلال، والسبب في ذلك أن في الأبهة حضوراً للجمال بوصفه صفة فرعيّة، ممّا يخفف من الأثر النفسيّ للأبهة فتأتي أدنى من الجلال الذي تكتمل فيه الدوائر الدلاليّة من حيث الحضور والمشاعر والتلقّي والانفعال، فلا حضور في الجلال إلا للجلال مهما حدث من تحوّل صرفي في المادة، فحتى المتجالّ "هو المترفّع عن الصغائر لا المتكلّف في سلوكه الاجتماعي – الأخلاقي، والمتجالّة هي الكبيرة في السن لا مدّعية الكبر"، ممّا يجعل مفهوم الجلال يكاد يكون أحادي التوجّه سامياً بانتظام، فهو متعال دوماً بأيّ شكل من الأشكال ظهر أو تبدّى... بينما سنجد مفهوم الجمال برغم أهميّته القصوى مختلفاً في الدلالات التي تتضمنها مادة جمل إلى درجة الاختلاف في الحقول الدلاليّة، وفي التحوّلات الصرفيّة فعلى خلاف ما وجدناه في المتجالّ التي ظلت تحمل معنى مفهوم الجلال نفسه، فإن الصيغة الصرفيّة "المجاملة" تحمل معنى سلبياً غير الأصل الذي تحمله مادّة الجمال، ولذلك وردت مفردة المجاملة بدلالتين إيجابيّة وسلبيّة، "ونقصد بالإيجابيّة والسّلبيّة، ما ورد، في الشرح المعجمي، حول المجامل الذي يستطيع الجواب أو الردّ بالمثل، ولكنه يحافظ على المودّة، وهو المعنى الإيجابيّ، والمجامل الذي لا يستطيع الجواب ولا الردّ بالمثل، فيجامل نفاقاً على حقد وضغينة، وهو المعنى السّلبيّ". ولعلّ ذلك أقرب إلى دلالة كلمة الجمال بمختلف استعمالاتها، بخلاف مادة الجلال التي تحمل معنى الكمال غير القابل للنقص شكلا أو إيحاءً.. وتأتي دلالة البجالة متقاطعة "مع مفهوم الجلال من غير أن تستنفده أو تتطابق معه. وهي تشبه في ذلك دلالة الأبهة". أمّا اختلاف البجالة عن الجلال والأبهة فيأتي من التخصيص، أي أنه "لا يوصف بها إلا الرّجل الكبير العظيم السّيّد أو الرجل الجسيم الخصيب. أمّا المرأة فلا توصف بها حتى إن كانت جسيمة أو سيّدة عظيمة".

وكما كانت العلاقة بين كل من الأبّهة والجلال، نجد ما يماثلها بين كل من الجمال والجهارة التي تتصل "بمفهوم الجلال بل السّمو على وجه التحديد"، إلا أنّ الجهارة "يكون الجمال فيها هو الصفة القائدة غير أنه جمال مشرّب بالفخامة، والفخامة صفة جلال".

وكما لم يكن من الممكن للأبهة أن تكون جلالاً لارتباطها بدلالة الجمال التي خففت من مشاعر الرّهبة فيها، ولم يمكن لمفردة البجالة أن تكون أبهة أو جلالاً، فإن مفردة الحسن بدورها لم يكن من الممكن أن تكون جمالاً، برغم أنّ "الجمال هو الحسن نفسه، ولكن غالباً ما تذهب دلالة الحسن إلى المحسوسات أو الأشكال الحسّيّة عامّة، من دون أن يطرد ذلك؛ وتذهب دلالة الجمال إلى الحسّيّات والمعنويّات على السواء... ولعل ما يعزز هذا أن الذات الإلهية يمكن أن توصف بالجمال، غير أنها لا يمكن أن توصف بالحسن، إذ لا شبهة حسّيّة فيها". وأمّا إن كان في الجمال ثلاثة محاور متكاملة فيما بينها، وهي: محور الفرادة ومحور الحداثة ومحور الجمال، فإنّ المادّة اللغويّة هي الإبداع فالإبداع إيجاد وابتكار، ممّا يعني اختلافاً عن العاديّ والمألوف، إلا أنّ البديع لا يمكن أن يكون جميلاً دائماً، انطلاقاً من أنّ" البديع جميل بالضرورة إذاً. بل غاية في الجمال أيضاً، غير أن هذا لا يفترض أن يكون العكس صحيحاً، فليس كل جميل بديعاً بالضرورة"، ومنه تبدو أنّ العلاقة اللغويّة ليست تبادليّة، وإنّ الكثرة في المفردات تؤدّي إلى كثرة دلالية واسعة، بشكل يبدو أنه لم تخل أي علاقة من العلاقات الجمالية من توصيف دقيق خاص بها.

فقد اتضح في هذه المفردات النسبيّة والتدرّج القيمي مما ورد في الفصول السابقة في الكتاب، إذ كلّما ارتفعت سمة من السّمات تمّت تسمية الدلالة المعجميّة بمدلول معيّن ومحدّد. بينما يمكن أن نجد مفردات بأسس أخرى كالخيريّة والنّسبيّة أيضاً، كما في المفردات التي ترتبط بعناصر وبجزئيّات وبكلّيّات أيضاً وفي مستوى محدّد فحسب، مثل مادة البتل التي يتضّح "من الشرح المعجميّ أنّ حسن المتبتلة ليس مجرّد صفة كلّيّة عامّة فحسب، كأن تكون تامّة الخلق أو حسنته، وإنّما هو صفة جزئيّة وعلائقيّة بالإضافة إلى أنّه صفة كلّيّة" ولا تحضر صفة من دون أن تكون في تناسق وتلاؤم مع العناصر أو المكوّنات الأخرى، إلا أنّها كلّها "ذات طبيعة حسّيّة جماليّة ترتبط بالجسد عامة"، ولذلك بدت حتى في دلالتها الحسّيّة المعاصرة دالّة على الجسم الرياضيّ، أي أنّ الابتكار الجماليّ يتأتّى من طبيعة المادّة اللّغويّة ذاتها، وبالمثل تبدو كلمة البساطة، فهي أنّى اتجهت تدخل في مفهوم الجمال "بمختلف حقوله الحسّيّة والنّفسيّة والفنّيّة والأخلاقيّة"، فمعناها مرتبط بالمنحى الأفقي بتناسبه وتناسقه مع العناصر المكونة له.

وقد ظهرت بعض الدلالات في بعض المفردات في حقلين متناقضين مدلولاً، ما بين السّلبيّ والإيجابيّ، كالبذاذة فهي في الحقل الحسّيّ "بذاذة المظهر قبيحة مرذولة"، بينما في الحقل الأدائيّ "محمودة مقدّرة"؛ أي أنّ دلالتها مستمدّة من الحقل الذي تُنسب إليه، ووفقاً لذلك يتم تقويمها جماليّاً، برغم أنّ المادّة الصوتيّة الواحدة تتألف من الأصوات نفسها، إلا أنّ الحقل الجماليّ هو الذي أسبغ على تلك الأصوات هذه الدلالة أو تلك، وهو الفعل الكلاميّ والإنشائيّ والابتكاريّ الذي هو من أهم مميزات اللغة بوصفها كلاماً، ولذلك فإنّه إذا كانت البذاذة -عمليّاً- تحمل معنى إيجابيّاً، فيقال "بذّ فلان فلاناً إذا ما علاه وفاقه في حسن أو عمل كائناً ما كان. فهي نتاج المقارنة في منافسة ما"؛ فإنّها تختلف عن الإبداع في التفوّق غير المرتبط بالمقارنة –بالضرورة- كما في البذاذة، لأنّ الإبداع في أهمّ معانيه هو إيجاد مالم يكن موجوداً من قبل، ولا يقوم بالضرورة على المقارنة أو التفضيل بين شيئين.

وإذا كانت البذاذة مرتبطة بالحقل المنبثقة عنه، فإنّ ثمّة مفردات لها منحيان مختلفان ومتناقضان ضمن المادّة الصوتيّة الواحدة، كما في الباسل حيث منحى القباحة والكراهة من جانب، ومنحى الجسارة والشّجاعة من جانب آخر، أمّا التمييز فمرتبط بالمشاعر وبالعلاقة القائمة بين الباثّ والمستقبل، "فالصفات الموضوعيّة المنفّرة في بساطة البطولة، والتي تثير فينا الإعجاب والحماسة، تثير النفور والكراهية لدى الخصوم، وتدب الرعب فيهم أيضاً"؛ أي أنّ المادّة المعجميّة هنا محكومة بالتوجّه، وعنها تنعكس المشاعر الجماليّة إقبالاً أو نفوراً بحسب موضع كل من الباثّ والمستقبل.. وبرغم التناقض الواضح في البسالة، إلا أن المتلقي لا يمكن إلا أن يكون حياديّاً في تلقيه لها، فهو مضطر أن ينظر إليها نسبيّاً، ومن جانب آخر سنجد أنه لم تخرج بعض الكلمات عن معنى / دلالة واحدة مهيمنة، في أي مكان أو سياق وجدت فيه هذه الكلمة، حتى وإن تمّت قراءتها صوتيّاً، كالبشاعة التي هي إحدى صور القبح، فلا يمكن إلا أن يبدو موقف المتلقي واضحاً وبادياً حتى إن اكتفى بالمادّة اللغويّة المعجميّة وحدها، إذ إنّ الكلمة لم تحمل إلا صفات الدمامة والشتامة والقباحة والكراهة، فـ"حملت تلك الدلالات مجتمعة ومتفرّقة بحسب الموضوع"، ممّا يعني أنّ أيّ تطوّر دلاليّ ضمن هذه المادة المعجميّة لن يكون إلا ضمن الدلالات ذاتها، فلا يمكن أن تكون مثل البسالة مثلاً.. ومثل البشاعة نجد الطلاقة، فهي تتطور دلاليّاً ضمن النّسق ذاته، كما أنّها تنعكس إيحائيّاً بالدلالات ذاتها على وجه المتلقّي وانفعالاته ومشاعره.

ويختم سعد الدين كليب الكتاب بالقسم الثاني منه، وهو معجم الألفاظ الجماليّة، ولا بد لقراءة تلك الألفاظ أن تكون في ضوء ما تقدم في فصول الكتاب، ذلك أن تلك الألفاظ المعجميّة جاءت بعد الإشباع النّظريّ الدّرسيّ في القسم الأول من الكتاب، وبناء عليه جاء القسم الثاني منه.

 



 كليب، سعد الدين: العربية وفلسفة الجمال" قراءة جمالية في لسان العرب"، مركز أبو ظبي للغة العربية، 2022.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها